الغابون... لعبة الكراسي الفرنسية المتحركة في أفريقيا

02 سبتمبر 2023
جنود غابونيون في ليبرفيل، الخميس (سكوت أنغوكيلا/رويترز)
+ الخط -

الصورة الوحيدة التي ظهر فيها الرئيس الغابوني علي بونغو من مكان احتجازه، بعد الانقلاب عليه، وهو يطلب "من الأصدقاء في جميع أنحاء العالم أن يرفعوا أصواتهم بشأن الأشخاص الذين اعتقلوني وعائلتي"، طرحت سؤالاً مهماً، وهو لماذا تحدث رئيس مستعمرة فرنسية سابقة باللغة الإنكليزية، ولم يوجه هذا النداء إلى الصديقة فرنسا، صاحبة المصالح الكبرى في بلاده؟

لا إجابة محددة عن السؤال، وربما تنجلي بعض ملامح الغموض، خلال الأيام القليلة المقبلة، عندما تتضح الرؤية العامة للمجموعة الانقلابية، وتتبلور المواقف الدولية تجاه انقلاب الغابون، الذي يعد الثامن في غرب أفريقيا منذ عام 2020، بعد مالي (انقلابان في عامي 2020 و2021) وغينيا وبوركينا فاسو (انقلابان في عام واحد، عام 2022) وتشاد والنيجر.

كون الغابون مستعمرة فرنسية سابقة، ترتبط بعلاقات جيدة ومصالح كثيرة مع الدولة الفرنسية، توجهت الأنظار نحو باريس، وسادت حالة من الترقب صباح الأربعاء الماضي، بانتظار موقف الحكومة الفرنسية من الانقلاب الذي قامت به المجموعة العسكرية التي أعلنت عزل بونغو، الذي أمضى ولايتين رئاسيتين دامتا 14 عاماً، والاستيلاء على السلطة. وعلى الرغم من أن باريس دانت الانقلاب، إلا أن اللهجة بقيت ناعمة، مقارنة بحالة الانقلابات السابقة، التي شهدتها القارة في الأعوام الأخيرة.

لهجة باريس الخافتة

يرى مراقبون أن السبب في لهجة باريس الخافتة هو أنه في الوقت الذي كان فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يبحث عن رد على خساراته الأفريقية، التي تتالت في الأعوام الأخيرة في كل من أفريقيا الوسطى، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، جاءته الإجابة من الغابون البلد الأفريقي الغني اقتصادياً، والذي يعيش أوضاعاً سياسية وأمنية هشة.


هناك من بين الخبراء في العلاقات الفرنسية الأفريقية من يحسب الانقلاب على فرنسا

ومن دون أي مواربة، هناك من بين الخبراء في العلاقات الفرنسية الأفريقية، من يحسب الانقلاب على فرنسا، لأنه يتقاطع مع مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويرد لها بعض الهيبة والاعتبار، التي فقدتها في أفريقيا، وعلى هذا الأساس لا تستبعد تقديرات فرنسية وأفريقية، أن تكون باريس على علم بترتيبات الانقلاب، وربما شاركت أياد فرنسية ناعمة في حياكة سيناريو التحرك الذي أطاح بالرئيس بونغو، في توقيت مناسب، بما لا يترك أي مجال لردود فعل دولية أو أفريقية، ذات تأثير مهم على العملية الانقلابية.

جاء توقيت الانقلاب في لحظة احتجاج محلية قوية، ضد نتائج الانتخابات الرئاسية التي أعلن بونغو فوزه فيها بولاية ثالثة، وهذا ما أثار تشكيكاً بالنتائج واتهامات بالتزوير وردود فعل استنكارية، هيأت الفرصة للتحرك العسكري، الذي جاء من داخل بيت الرئيس، بقيادة أحد أقارب بونغو، وقائد الحرس الرئاسي الجنرال برايس أوليغي نغيما، في تشابه ملحوظ في بعض التفاصيل مع انقلاب النيجر، الذي قاده رئيس الحرس الرئاسي الجنرال عبد الفتاح تياني.

استندت المجموعة الانقلابية في الغابون إلى تزوير الانتخابات الرئاسية التي جرت في 26 أغسطس/آب الماضي، ولذلك فإن أول قرار اتخذته هو إلغاء النتائج، وإحالة بونغو للتقاعد، ولم يجبروه على الاستقالة، بل تعاملوا معه بلا عنف، ليس على غرار بعض الانقلابات الأخرى، وهذا مظهر من مظاهر الاحترام.

غير أن نجله الأكبر وبعض حاشيته ومستشاريه، اعتقلوا. وهذا يشكل ورقة مهمة بيد المجموعة الانقلابية للمساومة، لتوظيفها على نحو مفيد خلال الفترة القريبة المقبلة، في ما يتعلق بمستقبل العائلة التي حكمت البلد طيلة أكثر من نصف قرن، وكوّنت ثروات كبيرة من النفط والغاز والأخشاب والمغنيزيوم.

الوضع الغابوني الداخلي هش، وتهمة تزوير الانتخابات الرئاسية ليست جديدة، وقد فاز بونغو في انتخابات 2016 بفارق 5 آلاف صوت فقط، وما كان له أن يبقى في السلطة لولا الدعم الذي حظي به من كل من فرنسا والمغرب، الذي تربطه علاقات خاصة مع الغابون تعود إلى زمن سابق، حين بنى الرئيس الأب عمر بونغو علاقات وطيدة مع الملك الراحل الحسن الثاني، وأسلم على يديه في عام 1973.

من الناحية النظرية، لم تكن هناك عداوة بين الغابون وفرنسا، تدفع باريس إلى تدبير انقلاب في هذا البلد، بل على العكس، حتى أن الرئيس الفرنسي بدأ جولته الأفريقية الأخيرة من الغابون في مارس/آذار الماضي، وكانت تلك إشارة مهمة إلى تعزيز العلاقات المشتركة والخاصة. ولكن يبدو أن المصلحة استدعت التضحية بالصديق، وذلك لعدة أسباب.


هناك جو عام في فرنسا بأن المناخ المعادي لها في أفريقيا، يمكن أن يذهب في اتجاه إخراجها منها

السبب الأول، هو النزول عند رغبة المجموعة العسكرية في عزل الرئيس الذي تحكم عائلته هذه البلد منذ 55 عاماً، وهي تواجه تهماً بالفساد، ونهب ثروات البلد، ما أوصل شعبية بونغو إلى نقطة الصفر.

ويبدو أن باريس لعبت على وتر امتصاص غضب الشارع ضده، وحالت دون تحوله إلى أحداث عنف، وبذلك كسبت مرتين، الحفاظ على مصالحها في البلد، ونفي تهمة مساندة الحكومات الدكتاتورية، التي علت نغمتها في كل الانقلابات الأخيرة.

السبب الثاني يكمن، في أن محاولات فرنسا في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في النيجر وصلت إلى طريق مسدود، وفشلت كل المحاولات الأفريقية والدولية، في ثني المجلس العسكري عن قراره بالانقلاب على حليف باريس الرئيس محمد بازوم، وهذا أمر زاد من الانتقادات الداخلية الموجهة لماكرون.

يواجه ماكرون حملة قوية في فرنسا من المعارضة، التي تتهم حكمه بالفشل في أفريقيا، بفعل حصول 8 انقلابات في غرب أفريقيا في السنوات الثلاث الماضية، تمتلك فيها باريس مصالح مهمة، مما عرّض مصالحها للخطر، وآخرها انقلاب النيجر، الذي يعد فشلاً استخباراتياً كبيراً لفرنسا، التي تحتفظ بقاعدة عسكرية كبيرة في نيامي، ضمن إطار مساعدة الحكومة في الحرب على الإرهاب.

وهناك جو عام في فرنسا في الأوساط الاقتصادية، من شركات ورجال أعمال، ممن يحتفظون بمصالح في أفريقيا، يفيد بأن هذا المناخ المعادي لفرنسا في أفريقيا، يمكن أن يذهب في اتجاه إخراج فرنسا كلياً من هذه القارة الغنية.

وكانت العين تتجه إلى الغابون أهم منتج نفطي، جنوبي الصحراء، باحتياطي يبلغ 2 مليار برميل، وتعد شركة "توتال" الفرنسية المنتج الأساسي في هذه المجال، بعمالة فرنسية تفوق 300 شخص.

والسبب الثالث هو، رسالة قوية في إطار العلاقات الفرنسية المغربية المتأزمة والباردة منذ عدة أعوام، ذلك أنه من المعروف أن علي بونغو يمتلك علاقات خاصة مع المغرب، وشارك المغرب بفعالية في إفشال انقلاب عام 2019، الذي لم يدم أكثر من أربع ساعات.

وحينها كان بونغو يخضع للعلاج في المغرب، وتحتفظ الرباط بمصالح اقتصادية هناك، ويتردد الملك محمد السادس بصورة دائمة إلى الغابون، وتتحدث وسائل إعلام مغربية عن امتلاكه جزيرة خاصة للراحة والاستجمام.

وهناك تقديرات بأن ماكرون أراد أن يبعد التأثير والدور المغربي من الغابون، الذي كان مرتبطاً في قسم منه بعائلة بونغو، غير أن هذا يبقى محل شك، لأن بعض أعضاء المجموعة العسكرية التي قامت بالانقلاب، سبق له أن تلقى تأهيله العسكري في الكلية العسكرية المغربية في مدينة مكناس، التي تخرجت منها أغلبية النخب العسكرية في افريقيا منذ مرحلة التسعينيات.

انقلاب الغابون استباقي

ويعد هذا الانقلاب، من وجهة نظر متخصصين في السياسة الفرنسية، انقلاباً استباقياً، تلاقت فيه مصالح فرنسا مع أطراف محلية ضد بونغو، وهذه أول ضربة ناجحة عكس التوجه الذي طبع الانقلابات السابقة، التي لعب فيها عسكر محليون ورقة العداء لفرنسا، ولذلك يمكن اعتباره انقلاباً في إطار الاستمرارية.


لم تصف واشنطن ما حصل بـ"الانقلاب"، بل "سيطرة الجيش على السلطة"

وعلى هذا الأساس جاءت لهجة باريس هادئة ومدروسة وبراغماتية، لأنها تبنت الاتهامات، التي تقول إن الانتخابات مزورة، وحسب البيان الرسمي فإن "فرنسا ليست متأكدة من أن نتائج الأخيرة تستجيب لتطلعات الشعب الغابوني"، ومن هنا فهي ترى أن الحل في "انتخابات جديدة شفافة".

وهناك ثلاثة عناصر مهمة يجب أخذها في عين الاعتبار. الأول هو أنه لم يصدر أي موقف ضد فرنسا، أو ما يهدد مصالحها في هذا البلد، من قبل المجموعة العسكرية الانقلابية. والثاني، أن العاملين في الشركات الفرنسية الذين تركوا أعمالهم صباح الانقلاب عادوا إليها ظهراً، وهذا يعني أنهم تلقوا تطمينات رسمية من قبل الانقلابيين، بأن ما حصل لا يستهدف مصالح فرنسا. والثالث هو، أن القاعدة العسكرية الفرنسية في ليبرفيل لم تحرك ساكنا.

المواقف الغربية لا تختلف في اللهجة عن موقف باريس، ويلخصها الموقفان الأميركي والأوروبي، من خلال التصريحات التي أدلى بها منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، الذي لم يصف ما حصل بـ"الانقلاب"، بل "سيطرة الجيش على السلطة"، وقال، إنه أمر غير مقبول، والحل بالعودة إلى الديمقراطية. وتكتفي واشنطن بمراقبة الوضع، في ظلّ عدم إصدارها أي موقف رسمي من الانتخابات، وتنسق مع حلفائها الأفارقة والإقليميين.

بدوره، الاتحاد الأوروبي تبنى روحية الموقف الفرنسي، وكان التصريح الذي صدر عن مفوض السياسة الخارجية جوزيب بوريل معبراً جداً، عندما اعتبر أن "الانتخابات التي سبقت الانقلاب كانت مليئة بالمخالفات".

أما بالنسبة للاتحاد الأفريقي فإنه لم يذهب بعيداً عن مواقف فرنسا والولايات المتحدة وأوروبا، ولم تختلف لهجته عن تلك التي استخدمها تجاه انقلاب النيجر.

وهذا يظهر مدى تقاطع المصالح الدولية. وبالتالي فإنه ليس لديه خيار سوى قبول الأمر الواقع، وعدم السير في اتجاه التدخل العسكري أو القبول بذلك، لأن الوضع الأمني في الغابون هش، كما أن جارتها الكونغو يقودها حليف فرنسي آخر هو الرئيس دنيس ساسو نغيسو، والذي لا يستبعد أن يكون له دور في الانقلاب الغابوني.