مع مرور خمس سنوات على سيطرة قوات النظام السوري على الغوطة الشرقية في ريف دمشق، تحافظ الأوضاع في تلك المنطقة على كآبتها المعتادة بالنسبة لمن تبقى من سكّانها، بعد سنوات مديدة من القتل والاعتقال والتهجير.
ومنذ سيطرة قواته على الغوطة الشرقية في ربيع عام 2018، لم يبذل النظام السوري سوى جهد ضئيل لإعادة تأهيل هذه المنطقة التي كانت قد عانت لخمس سنوات سابقة (2013- 2018) من الحصار والقصف اليومي من قبل قوات النظام، والذي توّج باجتياحها بدعم جوي روسي، انتهى بتهجير أكثر من 180 ألف شخص بين مدني وعسكري من أبناء الغوطة إلى الشمال السوري. وفضّل عشرات آلاف آخرون في حينه الانتقال للعيش في مناطق أخرى من دمشق وضواحيها، نظراً لانعدام مقومات الحياة في الغوطة، واستقر بمعظمهم المقام خارج الغوطة حتى اليوم.
خيرية محمد، اسم مستعار لسيدة خمسينية من مدينة دوما بغوطة دمشق الشرقية وأم لخمسة أولاد، اصطحبت أربعة منهم في رحلة نزوح عام 2018 إلى محافظة السويداء، جنوب سورية، بعدما فقدت زوجها بقصف لطيران النظام، فيما لا يزال ابنها الخامس معتقلاً في أحد سجون النظام من دون أن تعرف عنه أي معلومة.
وتؤكد خيرية محمد لـ"العربي الجديد"، أن الحياة في الغوطة الشرقية لم تعد تحتمل بعد سيطرة قوات النظام عليها، موضحة أن النظام لم يقدم أي خدمات للسكّان، فيما يتعامل مع كل من بقي منهم، كمجرمين خارجين على القانون. وتضيف: "فضلت الرحيل عن مدينتي إلى السويداء بعدما فقدت المُعيل، فالوضع يبقى هنا أرحم رغم قساوته".
النظام لم يقدم أي خدمات لسكّان الغوطة، فيما يتعامل مع كل من بقي منهم كمجرمين خارجين على القانون
أما وليد السقباني (اسم مستعار) من بلدة سقبا في الغوطة الشرقية، والذي فضّل البقاء في بلدته، فيقول لـ"العربي الجديد": "لقد تجاوزت الـ60 عاماً، ولم يتبق من عائلتي سواي أنا وزوجتي وابنتي، ولدي قطعة أرض أحاول أن أكتفي ذاتياً منها، رغم غياب الخدمات عن المنطقة".
ويؤكد السقباني أنه لا يستطيع ترك بلدته وأملاكه "فلن يمر علينا أسوأ مما مرّ خلال فترة الحصار، وليس لدي شبّان يمكن أن يلاحقهم الأمن، كما أن النزوح إلى أي منطقة يعني فقداني لأرضي وبيتي، فمعظم من تركوا بيوتهم إما تمت مصادرتها أو أجبروا على بيعها بأقل من ربع ثمنها".
الغوطة الشرقية بعد التهجير
على الرغم من الضمانات الروسية بعدم التعرض لمن تبقى من السكّان، فقد تعرضت مدن وبلدات الغوطة بعد التهجير لهجمة مخابراتية (للنظام) للانتقام من كل من له صلة بالمطلوبين لدى النظام، بمن فيهم الناشطون المدنيون. وزرعت مناطق الغوطة بالحواجز العسكرية والأفرع الأمنية التي ترهق السكان بالإتاوات وتعتقل الشبّان تحت ذرائع مختلفة، مثل صلتهم بمطلوبين، أو لسوقهم إلى الخدمة العسكرية.
ويحصل كل ذلك وسط ظروف صعبة، حيث إن معظم البيوت والمؤسسات الخدمية تعرضت للتدمير الكلّي أو الجزئي، فضلاً عن غياب الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والاتصالات.
وعلى الرغم من مرور خمس سنوات على سيطرة النظام ومليشياته وأجهزته الأمنية على الغوطة الشرقية، فإن قليلاً من مباني الخدمات العامة أعيد تأهيله ببطء شديد وعلى نفقة الأهالي أنفسهم. كما أنّ سلطات النظام والحواجز الأمنية ما تزال تعرقل أي جهود أهلية لإعمار المنطقة على نفقة الأهالي أو على نفقة بعض المنظمات الدولية التي سعت إلى ترميم مدارس أو مراكز صحية.
ولا يزال الكثير من المباني في الغوطة الشرقية، معرضا للسقوط نتيجة القصف السابق لقوات النظام على المنطقة، كما حصل أخيراً لمبنى في مدينة حرستا، بالتزامن مع الزلزال الذي ضرب الشمال السوري في فبراير/شباط الماضي.
وبعد الزلزال، أعلنت محافظة ريف دمشق عن تشكيل 6 لجان هندسية لإجراء الكشف الفني وتوصيف واقع الأبنية الآيلة للسقوط في كل من دوما وحرستا وعربين وزملكا والمليحة والغزلانية في الغوطة الشرقية، فيما حذرت المحافظة من انهيار عشرات الأبنية السكنية المتصدعة إنشائياً في مدينة حرستا وحدها.
وكشف عضو المكتب التنفيذي لقطاع الخدمات في المحافظة، صفوان ضاهر، عن عدم وجود إحصائيات لدى المحافظة بشأن المباني المتصدعة، وأن اللجان الهندسية ستبدأ الكشوفات في المناطق الأكثر تضرراً، وهي حرستا والحجر.
ويشير ذلك إلى أن سلطات النظام لم تكن تبالي بسلامة السكّان طوال السنوات الخمس الماضية، ولم تكلّف نفسها عناء حتى إجراء فحوصات لتلك المباني، من دون أن يعني ذلك أن هذه المسألة باتت تحظى بأهمية لديها الآن بعد الزلزال، لكنها مجرد استجابة دعائية في أجواء الزلزال كما يقول الناشط محمد الدوماني المقيم حالياً في الشمال السوري.
ويوضح الدوماني، المتحدر من مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن النظام لم ينس ثأره مع الغوطة، على الرغم من قتل واعتقال الآلاف من سكّانها وتهجير عشرات الآلاف، وهو يواصل معاقبة أهلها عبر تجاهل احتياجاتها الأساسية، ومواصلة ابتزاز المتبقين منهم، وترهيبهم. حتى أنه، كما يلفت الدوماني، يعاقب بالاعتقال والسجن كل من يجري اتصالاً هاتفياً مع أحد أقاربه المهجرين في الشمال السوري، فضلاً عن القيود التي يفرضها على تنقلات الأهالي بين الغوطة وخارجها، حتى بالنسبة للحالات الإنسانية.
عودة الأفرع الأمنية... من دون خدمات
وتعليقاً على الأوضاع في الغوطة، يقول الباحث وائل علوان، من "مركز جسور للدراسات"، والذي عايش الحصار والحرب على الغوطة، إنه من الصعب إعطاء تقدير حقيقي لعدد السكّان الحاليين في هذه المنطقة، وقد عادت إليها أعداد من الناس خلال السنوات الماضية، على فترات متعاقبة، بعد التخفيف النسبي للإجراءات الأمنية.
ويضيف علوان، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه حتى الآن، لا يزال هناك تشديد ومراقبة أمنية ولو بشكل غير مباشر، على الدخول والخروج من الغوطة، وفي كثير من الأحيان يرفض سائقو سيارات الأجرة الوصول إلى مناطق الغوطة خشية أن يكون الراكب مطلوباً للأجهزة الأمنية.
ويؤكد علوان أن النظام "يرفض القيام بأي عملية إصلاح للدمار الشامل الذي تسبب به في المنطقة، ويكتفي بفرض سيطرته وإعادة الأفرع الأمنية وبعض المؤسسات، وليس كلّها". ويقدم مثالاً على ذلك "السجل المدني الذي لا يزال في منطقة التل ولم تتم إعادته إلى دوما، لأن النظام لم يرمم شيئاً، حتى الأبنية الحكومية، وترك الناس يعيشون في أحياء مدمرة جزئياً ويتدبرون أمورهم كيفما اتفق، بل يرفض حتى إزالة الركام إلا بشكل محدود، وهو ما يعاني منه الناس هناك حتى اليوم".
ويوضح علوان أن النظام يتعامل بقبضة أمنية شديدة في الغوطة الشرقية، خصوصاً على الطرقات الرئيسية بين المدن والبلدات مع حملات دهم واعتقال مستمرة، في حين لا يقدم الخدمات الأساسية من مياه وصحة وتعليم، إلا في أدنى مستوياتها، بالتوازي مع عدم قدرة الأهالي على تدبر أمورهم كما كانت الحال حين كانت المناطق خارجة عن سيطرة النظام، وحين كانت هناك مؤسسات مدعومة من منظمات دولية تتولى تقديم حدّ أدنى من الخدمات.
معظم البيوت والمؤسسات الخدمية في الغوطة تعرضت للتدمير الكلّي أو الجزئي، فضلاً عن غياب الخدمات
ويختم علوان بأن النظام الذي يتعرض لعقوبات دولية، يسعى إلى تحويل هذه العقوبات لتكون موجهة ضدّ السكان المدنيين الذين يستخدمهم كدروع بشرية، وينشغل هو بتجارة المخدرات.
بدوره، يشدّد الناشط أبو أنس الدمشقي، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن الخدمات التي يقدّمها المجلس المحلي التابع للنظام، للأهالي في الغوطة الشرقية محدودة جداً، وأن أكوام الردم ومخلفات الدمار لا تزال تعرقل حركة العدد القليل من السكّان المقيمين المتبقين، لافتاً إلى أن سياسة النظام تقوم كما يبدو على منع عودة كثيفة للسكّان، والإبقاء على عدد محدود ومنتقى من السكّان ممن لا يشكلون خطراً محتملاً من وجهة نظر النظام، بهدف إعطاء انطباع بأن الحياة عادت إلى طبيعتها في تلك المناطق.
ويوضح الناشط أن النظام لا ينفق أي أموال لخدمة الأهالي، ويعتمد إلى حد بعيد على المبادرات الأهلية والمساعدات الدولية، وفي الحالتين لا يسلمون من عمليات الابتزاز بحيث تذهب حصة لحواجز النظام وضبّاطه، مقابل السماح بأي نشاط عمراني أو خدمي.
ويؤكد أبو أنس الدمشقي أن معظم المناطق في الغوطة الشرقية لا تزال محرومة من الخدمات الأساسية مثل شبكة المياه، حيث الاعتماد هو على صهاريج تبيع المياه للسكان بأسعار مرتفعة. كما يلفت إلى أن سكان الغوطة، وغيرها من المناطق التي استعادت قوات النظام السيطرة عليها عام 2018، يعانون من صعوبة في استخراج الأوراق الرسمية بعد فقدان وثائقهم السابقة، حيث تجري عملية تدقيق لملف كل من يتقدم بطلب للحصول على وثائق مدنية من "مناطق التسويات"، وغالباً ما يُرفض الطلب لعدم حصول صاحبه على موافقة أمنية.
وفي هذا الإطار، يشير الناشط إلى أن مؤسسات النظام ترفض الاعتراف بالسجلات المدنية الصادرة عن مؤسسات المعارضة أثناء فترة سيطرة الفصائل العسكرية على المنطقة، وهو ما يحرم العديد من العائلات من الحصول على "دفتر العائلة"، والذي يكون امتلاكه شرطاً أساسياً للحصول على "البطاقة الذكية" التي يوزع النظام بموجبها معظم المواد "المدعومة"، أي التي تباع بسعر مخفض.
شراء العقارات واستملاكها
وفي تقرير له صدر قبل عامين، في إبريل/نيسان 2021، ذكر "المرصد السوري لحقوق الإنسان" أن المليشيات الموالية لإيران، تعمل على شراء الأراضي والمنازل في الغوطة الشرقية، مشيراً إلى أن عمليات شراء العقارات تتم من قبل مجموعة أشخاص يعملون لدى تجار من محافظة دير الزور شرقي سورية، إذ يشتري أشخاص بأمر من هؤلاء التجار، العقارات، والتي تكون غالباً منازل، وبعضها محال تجارية، لافتاً إلى أن تلك العقارات تبقى مغلقة بعد شرائها.
وأوضح التقرير حينها أن التجار الذين يشترون العقارات يتحدرون من ريف الميادين شرقي دير الزور، وهم يتبعون لمليشيا "لواء العباس" الموالية لإيران.
يضاف إلى ذلك، وفق المرصد، مواصلة الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، المتمثلة بالفرع 277، عملية استملاك أراضي ومنازل المعارضين والذين صدر بحقهم قرار "الحجز الاحتياطي".
وأشار إلى أنه وثّق خلال السنوات التالية لسيطرة النظام على الغوطة، استملاك النظام لنحو ألف عقار من منازل ومحال تجارية وأراض زراعية في الغوطة الشرقية، بعدما طرد المقيمين أو الموكلين عليها من أقرباء الذين صدر بحقهم قرار الحجز، في كل من بلدات سقبا وكفربطنا وحمورية وبيت سوا وجسرين وعين ترما وزملكا ودوما ومسرابا ودير العصافير ودوما ومسرابا وزبدين ومناطق أُخرى.
يعاني سكّان الغوطة من صعوبة استخراج الأوراق الرسمية بعد فقدان وثائقهم السابقة
كما أصدرت محافظة دمشق في يونيو/حزيران الماضي، مخططاً تنظيمياً جديداً لـ6 مناطق عقارية شرق العاصمة السورية (رقم 106)، أبرزها جوبر التي كانت معقلاً رئيسياً لفصائل المعارضة المسلحة. وسيؤدي المخطط في حال تنفيذه إلى الاستيلاء على أملاك أغلبية الأهالي الأصليين، بحجة أنهم غير مقيمين، وبالتالي إحداث تغيير جذري في التركيبة السكّانية لتلك المناطق.
والغوطة الشرقية هي رئة دمشق التي اشتهرت تاريخياً ببساتينها وخضرتها التي تشكل المصدر الرئيسي لإطعام سكّان العاصمة. وتضم المنطقة العديد من المدن والبلدات مثل دوما وحرستا والمليحة وسقبا وزملكا وعقربا وكفر بطنا، إلى أن تلتقي بالغوطة الغربية، ليكتمل الطوق الأخضر حول دمشق. وتقدر مساحة الغوطة الشرقية بنحو 110 كيلومترات مربعة، وكان عدد سكانها عند سيطرة النظام عليها عام 2018 نحو 400 ألف نسمة بعدما كان يتخطى المليونين قبل عام 2011. أما اليوم، فلا يتجاوز العدد مائة ألف نسمة بحسب تقديرات بعض الناشطين.
التحقت الغوطة الشرقية بركب الثورة ضد نظام بشار الأسد منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة في مارس/آذار 2011، وشاركت مختلف المدن والبلدات فيها، وأبرزها دوما، في الاحتجاجات السلمية ضد النظام.
وسقط الكثير من القتلى والجرحى بين المتظاهرين نتيجة قمع قوات النظام، لتتخذ الاحتجاجات بعد ذلك منحى عسكرياً، بعدما تشكلت العديد من الفصائل العسكرية في الغوطة، مثل "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن" و"أحرار الشام"، والتي طردت قوات النظام منها تباعاً طيلة عام 2012، قبل أن يبادر النظام إلى فرض حصار تجويعي محكم على المنطقة اعتباراً من عام 2013.
وطيلة هذه الفترة، ظلّت الغوطة الهاجس الأكبر للنظام نظراً لقربها الشديد من العاصمة، ولخشيته أن تكون منطلقاً لهجوم كاسح يستولي خلاله مقاتلو المعارضة على دمشق، لذلك جهّز حملة كبيرة بمساندة روسيا للاستيلاء عليها، بدأت في فبراير 2018 وانتهت في الشهر التالي بتهجير كل المقاتلين وعائلاتهم وجزء كبير من السكان إلى الشمال السوري.