يلاحق ملف الجرائم الكيميائية النظام السوري مع تحوله إلى ورقة بيد الدول الغربية الفاعلة في الشأن السوري للضغط على رئيس النظام بشار الأسد. وقبل نحو 3 أشهر من الانتخابات الرئاسية التي يعمل النظام على تنظيمها، عادت تلك الدول لتحريك الملف تحت قبة مجلس الأمن، بالمطالبة بالكشف عن الجهات المتورّطة بتنفيذ هجمات كيميائية، ومحاسبة المسؤولين المباشرين. ويبرز هنا الضغط الأميركي الفرنسي البريطاني المتواصل في مجلس الأمن، بالإضافة إلى جهود فرنسية لتقديم مشروع قرار لمنظمة الأسلحة الكيميائية يقضي بتعليق نشاطات وامتيازات النظام في المنظمة، التي انضم إليها النظام مجبراً عام 2013، بعد اتهامه بتنفيذ مجزرة الغوطة الشرقية لدمشق في أغسطس/ آب من العام ذاته، هرباً من العقاب وتوجيه ضربات قاسية لمفاصله العسكرية.
وفي جلسة لمجلس الأمن عقدت عبر تقنية الفيديو، طالبت الأمم المتحدة، يوم الخميس الماضي، بمحاسبة جميع مستخدمي الأسلحة الكيميائية في سورية، والتأكيد على أهمية وحدة الصف الدولي حيال ذلك. وخلال الجلسة، استعرضت ممثلة الأمين العام السامية لشؤون نزع السلاح إيزومي ناكاميتسو، تقريراً صدر عن المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية فرناندو آرياس حول برنامج سورية الكيميائي، يغطي الفترة الممتدة من 24 يناير/ كانون الثاني إلى 23 فبراير/ شباط الماضيين. وأكدت ناكاميتسو في معرض استعراضها للتقرير، "ضرورة تحديد هوية جميع مَن استخدموا الأسلحة الكيميائية في سورية ومساءلتِهم"، مشددة على "أهمية وحدة الصف في مجلس الأمن الدولي للوفاء بهذا الالتزام العاجل". وأبلغت المسؤولة الأممية أعضاء مجلس الأمن بأن إعلان النظام السوري إنهاء برنامجه الكيميائي "غير دقيق وغير كامل، وأن هناك ثغرات وعدم اتساق في المعلومات بما لا يتفق مع مقتضيات قرار المجلس رقم 2118".
حاول الأسد تجنب المساءلة من خلال عرقلة التحقيقات
وفي الجلسة ذاتها، اتهمت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس ـ غرينفيلد روسيا بعرقلة كافة الجهود الأممية لمحاسبة النظام السوري بقيادة بشار الأسد على استخدام الأسلحة الكيميائية ضد شعبه. وقالت توماس ـ غرينفيلد: "نعلم جميعاً أن نظام الأسد استخدم الأسلحة الكيميائية بشكل متكرر، فلماذا لم تتم محاسبته حتى الآن؟". واعتبرت أن "الإجابة بسيطة للأسف، لقد حاول نظام الأسد تجنب المساءلة من خلال عرقلة التحقيقات المستقلة، وتقويض دور وعمل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية". وأكدت أن "روسيا دافعت عن نظام الأسد على الرغم من هجماته بالأسلحة الكيميائية، وهاجمت العمل الاحترافي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وقوّضت الجهود المبذولة لمحاسبة نظام الأسد على استخدامه للأسلحة الكيميائية والعديد من الفظائع الأخرى".
هذه الاتهامات دفعت المندوب الروسي في مجلس الأمن فاسيلي نيبيزيا لانتقاد تقرير ناكاميتسو، ووصفه بأنه "مسيس ومنحاز ضد الحكومة السورية ويستند إلى معلومات مغلوطة". أما الرد الأقوى على الاتهامات الغربية للنظام، فجاء عبر مندوبه في الأمم المتحدة بسام صباغ، الذي دعا "الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى عدم الانجرار وراء ترويج الولايات المتحدة وفرنسا لمشروع قرار مقدم إلى مؤتمر الدول الأطراف في المنظمة، والتصدي له لتجنيب المنظمة تداعيات خطيرة على مستقبل عملها". وأكد أن "المشروع يهدف إلى إيجاد ذرائع جديدة لارتكاب أعمال عدوانية ضدها وتشجيع التنظيمات الإرهابية على القيام بمسرحيات كيميائية مفبركة خدمة للسياسات العدائية الأميركية الغربية". وشدّد صباغ خلال الجلسة على رفض بلاده (النظام) "النهج العدائي والمسيس ضدها، وتطالب بالكف عنه، وتدعو في الوقت ذاته الدول الأعضاء في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى استبداله بمقاربة موضوعية، وإجراء مناقشة بناءة تسمح للمنظمة بالعمل وفقاً للطابع الفني الذي أنشئت على أساسه وتمكنها من استعادة سمعتها ومهنية عمل مفتشيها وحيادية ومصداقية تقاريرها". وأوضح صباغ أن "سورية (النظام) انضمت إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية في عام 2013 طوعاً، وأنهت تدمير مخزونات أسلحتها الكيميائية ومرافق إنتاجها بالتعاون الكامل مع منظمة الحظر".
وبات النظام يستشعر خطر التحرك ضده على المستوى الدولي بضغط من دول غربية، باستخدام ورقة الهجمات الكيميائية التي يُتهم النظام بتنفيذها، وذلك أمام التعنت الروسي بإعادة تعويم النظام عبر الحشد لتأييد ترشيح بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وقبل ذلك عرقلة الجهود الدولية الرامية لحل القضية السورية وفق المرجعيات والمسارات الأممية. وفي ظل عدم تعاون النظام وحلفائه مع لجان التحقيق الأممية وتلك التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتحديد هوية منفذي الهجمات الكيميائية في البلاد، قدمت فرنسا في خريف العام الماضي مسودة قرار بالنيابة عن 46 دولة عضو في المنظمة لتعليق حقوق وامتيازات سورية (النظام) في المنظمة، على أن يتم التصويت على هذا المشروع خلال اجتماع كامل أعضاء المنظمة في إبريل/ نيسان المقبل.
وإضافة لملف الهجمات الكيميائية، تثار على المستوى الدولي حالياً العديد من القضايا ضد النظام، منها التقرير الصادر عن لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسورية حول قضايا الاعتقال والاختطاف والاختفاء القسري، باتهام النظام بشكل رئيسي باعتقال الآلاف من المدنيين بشكل تعسفي وتعذيبهم، ما أدى لموت الكثير منهم، بالإضافة إلى تقرير أشرفت عليه منظمات دولية يتعلق بالتحديد باتهام النظام والروس بشكل رئيسي باستهداف المنشآت الطبية شمال غربي سورية، ما أخرج الكثير منها من الخدمة، الأمر الذي فاقم مشاكل القطاع الصحي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في إدلب ومحيطها.
وفي الثاني من الشهر الحالي، رفعت مجموعة من الناجين من الهجمات الكيميائية ومنظمات سورية حقوقية شكوى جنائية لقاضي التحقيق في فرنسا، لفتح تحقيق جنائي حول هجمات الأسلحة الكيميائية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في أغسطس 2013. وشهد شهر يوليو/ تموز 2019 تشكيل فريق خاص بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة، وعُدّ أول فريق تحقيق لديه سلطة تحديد الجهة المنفذة للهجمات الكيميائية في سورية، بالإضافة إلى سلطات تتيح له توجيه اتهامات لمنفذي الهجمات.
شدّد صباغ خلال الجلسة على رفض بلاده (النظام) "النهج العدائي والمسيس ضدها"
وفي أول تقرير له، مطلع إبريل 2020، حدد الفريق مسؤولية النظام عن الوقوف وراء ثلاث هجمات كيميائية باستخدام غاز السارين وغاز الكلور السامين في بلدة اللطامنة في ريف حماة في مارس/ آذار 2017، ولا تزال تحقيقاته مستمرة بهجمات أخرى. وحددت اللجنة، حينها، مسؤولية النظام عن ثلاث هجمات باستخدام غاز الكلور، كلها في إدلب (سرمين، قيمناس، تلمنس)، من دون أن تتطرق إلى مجزرة الغوطة في 2013 التي استخدم فيها غاز السارين. وسبق ذلك تمكن المجتمع الدولي من التوصل إلى القرار الأممي 2235، الصادر في أغسطس 2018، والقاضي بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة من منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، للتحقيق وتحديد المسؤول عن الهجمات الكيميائية في سورية. وتم تمديد مهمة اللجنة مرتين، وسط عراقيل كثيرة من قبل الروس، قبل أن ينتهي عملها بعدما وجهت الاتهام للنظام بالوقوف وراء هجوم خان شيخون الكيميائي.
وقد رفضت روسيا هذه الاتهامات، واستخدمت موسكو حق النقض (الفيتو) لإفشال عمل اللجنة. ويُتهم النظام السوري بارتكاب عشرات الهجمات باستخدام الأسلحة الكيميائية، أبرزها مجزرة الغوطة عام 2013 والتي ذهب ضحيتها 1400 مدني، ومجزرة خان شيخون في 2017 وقضى فيها حوالي 100 مدني، ومجزرة دوما عام 2017 وقتل فيها أيضاً حوالي 100 مدني. وكانت وزارة الخارجية الأميركية قد كشفت، نهاية العام الماضي، وقبيل انتهاء ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، عن تقرير أرسلته إلى الكونغرس، يؤكد مواصلة نظام الأسد مساعيه للحصول على مكونات لبرامج الأسلحة الكيميائية والصواريخ، حيث يسعى لتطوير إمكانياته وقدراته في إنتاج أسلحة استراتيجية، والتي كانت قد تآكلت خلال الحرب الدائرة منذ سنوات.