تحوّل وجود اللاجئين السوريين في تركيا إلى مادة سجال كبيرة في الفترة الأخيرة، خصوصاً مع اتخاذ الحكومة إجراءات إدارية مشددة تصعّب بقاء هؤلاء في البلاد، ومع إغلاق الباب أمام عودة السوريين الذين يزورون بلادهم خلال الأعياد.
تزامن ذلك مع إعلان وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، عن إطلاق خطة رباعية لإعادة اللاجئين السوريين، من دون الكشف عن تفاصيلها، لتزيد كل هذه الأجواء مخاوف السوريين على مصيرهم، علماً أن الكثير منهم مطلوبون لدى النظام السوري وبالتالي مهددون بالاعتقال وربما الإخفاء في حال عودتهم.
وتختلف القراءات والتفسيرات للتوجه الجديد الذي تعتمده الحكومة التركية، بين من يضعه في سياق معالجة الغضب الشعبي الداخلي مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية الصيف المقبل، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية ولعب المعارضة على تحميل السوريين مسؤولية عنها، وبين من يذهب باتجاه الحديث عن إعادة تموضع للسياسة الخارجية التركية، أخذاً بالاعتبار التوجه القائم لدى دول عربية وإقليمية لإعادة إدماج نظام بشار الأسد وتعويمه دولياً.
غير أن النتيجة تبقى أن مئات آلاف السوريين في تركيا يجدون أنفسهم في وضع صعب وبأنهم مهددون بالترحيل.
تركيا تشدد إجراءاتها تجاه اللاجئين السوريين
ويعيش في تركيا حوالي 3.5 ملايين سوري كلاجئين تحت بند "الحماية المؤقتة"، لكن معظمهم يعتمدون على أنفسهم من خلال العمل في السوق التركي على الرغم من حصولهم على أجور متدنية، وبذلك هم يدفعون الضرائب وإيجارات المنازل.
كما ساهم الكثير من رؤوس أموال السوريين بتغذية السوق التركي بالأموال والمهن الجديدة، فيما يتلقى القليل من هؤلاء مساعدات ضئيلة من قبل الاتحاد الأوروبي عن طريق الهلال الأحمر التركي.
وفي الفترة الأخيرة، شددت السلطات التركية الإجراءات الإدارية التي باتت تعرقل بقاء اللاجئين السوريين في البلاد، كإيقاف المئات من بطاقات الحماية المؤقتة، وشطب قيود تسجيلهم في النفوس العامة، بحجج مختلفة.
بالتوازي مع ذلك، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، في حوار تلفزيوني قبل أيام، أن تركيا أطلقت خطة رباعية تجمعها مع لبنان والأردن والعراق لإعادة اللاجئين السوريين، من دون الكشف عن تفاصيلها.
ولفت إلى أن "أوروبا كانت متحفظة قليلاً (تجاه إعادة اللاجئين)، لكن حالياً هناك تعاون أفضل وتفهّم"، مشدداً على أن العودة إلى مناطق النظام السوري "يجب أن تضمن أمن اللاجئين، والأمم المتحدة تتواصل مع النظام من أجل التأكد من توفر أمن للاجئين ومراقبة ذلك".
جاووش أوغلو: العودة إلى مناطق النظام السوري يجب أن تضمن أمن اللاجئين
لكنه أشار إلى أن "النظام لا يوفر الأمن بشكل كافٍ، على الرغم من إعلانه العفو ودعوته لعودة اللاجئين، ولو كان يضمن ذلك لعاد السوريون من لبنان إلى بلادهم". وإذ ذكر أنه "حصلت سابقاً لقاءات تركية أمنية مع النظام لكن ليس في الفترة الأخيرة"، قال إنه "يمكن الحوار معه في المواضيع الاجتماعية والأمنية، وهي تعني أجهزة الاستخبارات".
ورداً على سؤال حول إمكان التعامل مع أزمة اللاجئين من دون الاعتراف بنظام الأسد، أوضح الوزير التركي أنه "يجب حل الأزمة في إطار القانون الدولي، ويجب على الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية التعامل مع الأسد بهذا الخصوص، فإن كان النظام سيقدّم ضمانات عليه أن يقدمها لتلك الأطراف".
تلا ذلك حديث وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، في لقاء تلفزيوني الجمعة الماضي، عن أن "قرابة 500 ألف سوري عادوا طوعاً إلى المناطق الآمنة التي شكّلتها تركيا في سورية، والحديث عن العودة الآمنة المشرفة تشمل هذه المناطق والمنازل التي يتم تشييدها في إدلب"، مضيفاً أن إنشاء تركيا "مناطق آمنة في درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون، قاد إلى توفر الأمن وعودة التجارة والزراعة".
وأوضح أن "زيارات العيد كانت تهدف لتشجيع عودة السوريين، إذ عاد 60 في المائة منهم بعد هذه الزيارات"، كاشفاً عن صدور تعليمات للولاة أخيراً "بعدم إعطاء أي إذن لزيارات العيد، وحالياً لا يوجد إذن لزيارات العيد".
وقال إن "من يريد الذهاب والبقاء هناك يستطيع الذهاب، ولكن لن يُسمح لمن يذهب لقضاء العيد بالعودة". وكشف أنه بحلول مارس/آذار الماضي، بلغ عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية 200 ألف و950 شخصاً، ومن يحق له التصويت فقط نحو 113 ألفاً.
جاء ذلك في ظل استخدام المعارضة التركية للوجود السوري كورقة في صراعها ضد الحكومة، مع الحديث عن الانتشار الكبير للاجئين السوريين في تركيا، والادعاء باحتلالهم سوق العمل، في ظل ظروف معيشية صعبة يعيشها المواطن التركي نتيجة تراجع الاقتصاد أخيراً. هذا ما دفع لرفع أصوات تطالب بإعادة اللاجئين إلى بلادهم، لا سيما مع ترويج المعارضة بأن الحرب في سورية قد انتهت.
عودة اللاجئين السوريين بلا تطبيع مع الأسد
وعن خلفيات المقاربة التركية الجديدة واحتمالات الحوار مع نظام الأسد بخصوص عودة اللاجئين، قال مصدر دبلوماسي تركي لـ"العربي الجديد"، إن أنقرة لا تقود أي استراتيجية جديدة في الوقت الحالي لعودة اللاجئين تفضي إلى تواصل مع النظام، بخلاف ما كانت قد أعلنت عنه سابقاً من عودة آمنة طوعية.
لكنه أضاف أن هناك موقفاً شعبياً كبيراً داخل تركيا يرفض صرف مبالغ إضافية على السوريين من قبل مؤسسات الدولة، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وهو ما يتطلب من الحكومة التعاطي مع الموجة الشعبية هذه، ولذا ربما تصدر تصريحات عالية السقف حول إعادة السوريين.
أنقرة لا تقود أي استراتيجية جديدة في الوقت الحالي لعودة اللاجئين تفضي إلى تواصل مع النظام السوري
وأشار المصدر إلى أن مظاهر زيارات العيد (للسوريين إلى بلادهم) هذا العام كان لها وقع شعبي أكبر على المجتمع التركي من الأعوام السابقة، مع الترويج أن ذهابهم إلى سورية وعودتهم يعني أنهم ليسوا ضحايا حرب، وإن تمكنوا من الذهاب فإن هناك مكاناً يؤويهم.
وأشار إلى أن هذا الأمر يُحرج الحكومة التي تحاول تهدئة الشارع التركي، لكن الاستراتيجية الأساسية الثابتة للحكومة هي العودة الآمنة والطوعية، وإن كانت العودة لمناطق النظام فيجب أن تتوفر فيها الشروط وفق القوانين الدولية والضمانات التي توفر لأمن العائدين، وتوفير احتياجاتهم عبر دبلوماسية إنسانية من دون اعتراف سياسي بالنظام.
من جهته، قال مصدر تركي آخر لـ"العربي الجديد"، إن الرأي العام التركي يركز حالياً على الاقتصاد ويحمّل البعض السوريين مسؤولية عن ارتفاع نسب البطالة والأسعار والتضخم، في ظل تساؤلات أيضاً عن سبب عدم التطبيع مع نظام الأسد على الرغم من وجود محاولات لتطبيع العلاقات مع دول عربية، من دون إدراك الفروق بين الحالة السورية والعلاقة مع مصر أو السعودية أو الإمارات.
وأضاف أن الحكومة التركية ليست لديها خطة على المدى القريب لتسريع وتيرة عودة السوريين لبلادهم، ولكن على المدى المتوسط والبعيد هناك مساع عبر تفعيل آليات دول الجوار، وعبر المنظمات الدولية، بالاستفادة من الحالة الأفغانية حيث هناك تعاون دولي إنساني مع حركة "طالبان" من دون اعتراف بها.
ورأى أنه نتيجة الاحتقان الداخلي والتجاذبات السياسية والأجواء العامة في تركيا، قد يتم تسريع وتيرة هذه الإجراءات بشكل أكبر، لأن الحكومة ترغب بألا يؤثر عليها الموضوع السوري في الانتخابات، بشكل متزامن مع الجهود لإنعاش الاقتصاد حسب الوعود اعتباراً من الصيف المقبل.
كما شرح مصدر تركي ثالث لـ"العربي الجديد" أن حراك الحكومة التركية تجاه اللاجئين السوريين يأتي لتهدئة الشارع. وأضاف: في الوقت نفسه هناك جس نبض على الصعيدين المحلي والدولي لتطبيق الآليات المتبعة في أفغانستان، فالتوافق على عودة السوريين يكون بين الغرب والمنظمات الدولية مع النظام السوري من دون تفاهم تركي مباشر مع النظام. ولفت إلى أن هذه الطريقة تقوم على توفير ضمانات من النظام واللاعبين الدوليين، الأمر الذي يسمح بعودة آمنة.
اتهامات للمعارضة التركية باستغلال الوضع سياسياً
أما عضو حزب "العدالة والتنمية"، المحلل السياسي بكير اتاجان، فلفت في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن الأزمة الاقتصادية القائمة هي من أسباب ما يحصل، ولكن الأسباب الحقيقية هي سياسية واستراتيجية.
وأضاف أن ذهاب السوريين إلى بلادهم خلال العيد استغلته المعارضة، مع تضليل وبث بعض المشاهد المتداولة للإيحاء بأن سورية بلد لا حرب فيه ولا إرهاب، فكان على الحكومة اتخاذ قرار يعكس هذه النظرة الخاطئة، وعلى رأسها منع السوريين من الذهاب في العيد إلى سورية، مشدداً على أنه قرار مؤقت وليس دائماً.
ذهاب السوريين إلى بلادهم خلال العيد استغلته المعارضة، مع بث بعض المشاهد للإيحاء بأن سورية بلد لا حرب فيه
ولفت اتاجان إلى أن من عادوا إلى سورية بعفو أو لأسباب متعددة أخرى، اعتُقلوا أو قُتلوا أو أهينوا، وما زال قسم كبير منهم في السجون، وبالتالي ليس من السهل قانونياً ومن دون ضمانات دولية ومن مسؤولين داخل سورية إعادة هؤلاء اللاجئين، إذ يجب أن تكون هناك ضمانات محلية وعربية بأن من يعود لا يُحاكم ولا يُسجن، وبناء عليه قد يتم تنظيم بعض الأمور بين تركيا وسورية.
وشدد على أن أنقرة "لن تقبل لا اليوم ولا غداً ولا في المستقبل بشرعية النظام، أما اللقاءات الأمنية فهي مجرد ضرورات". ولفت إلى أن "التغييرات في سياسة الحكومة التركية ليس لإرضاء المعارضة، بل لاستيعاب الأصوات العالية في الداخل، وهذا يعني أن السلطات لن تتعامل مع الملف السوري كما في السابق، بل هناك حاجة لإيجاد حلول ترضي جميع الأطراف، وهي المواطن التركي واللاجئ السوري والأطراف الدولية".
حسابات انتخابية تركية
في المقابل، رأى الكاتب والباحث التركي إسلام أوزكان، أن "الحكومة تتصرف بحالة ذعر مع اقتراب موعد الانتخابات، وبعض القرارات كانت غير عقلانية وتم اتخاذها من دون تفكير كافٍ". وأضاف في حديث مع "العربي الجديد": "بالطبع هناك قرارات أخيرة اتُخذت لأهداف سياسية بحتة، بعضها يهدف إلى تمويه الأزمة الاقتصادية وتغطية عجز الحكومة عن مواجهة الأزمة".
ونوه أوزكان إلى أن "تركيا قبل الربيع العربي كانت بمثابة ممر عبور للاجئين إلى أوروبا، وكان عدد اللاجئين معقولاً للغاية، لأنه كانت هناك اتفاقية إعادة القبول مع دول الاتحاد الأوروبي وتم تنفيذها وفقاً للمعايير التي وضعتها الأمم المتحدة".
واستدرك أنه "نظراً لبعض المواقف التي تبناها حزب العدالة والتنمية مع الاتحاد الأوروبي، فإنه لم ينفذ لاحقاً هذه الاتفاقية، لكن لم تكن هذه مشكلة عندما كان الاقتصاد على ما يرام، أما عندما بدأ يتدهور ظهرت مشكلة للاجئين، مع الضغط المعيشي الكبير على الشعب، لذلك تم توجيه رد الفعل مباشرة إلى اللاجئين كما لو كانوا مسؤولين عن الأزمة".
وحول الإجراءات الإدارية الأخيرة للحكومة التركية ووضع بعض القيود أمام اللاجئين في ما يخص أوراقهم الثبوتية، أشار أوزكان إلى أنه "في مواجهة الظروف الاقتصادية السيئة، تريد شرائح مختلفة من المعارضة والحكومة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، بدعوى أن الصراع قد خف بشكل كبير، لهذا فإن زيادة الضغط على اللاجئين من خلال المطالبة ببعض الوثائق هو في الأساس وضع يوافق عليه جزء كبير من المجتمع التركي مع الأسف".
واعتبر أنه "كان من الممكن حل المشكلة قبل أن تصل إلى هذه النقطة، لكن استخدام حزب العدالة والتنمية للاجئين كورقة ضد الاتحاد الأوروبي وجهوده لتنفيذ سياساته الخاصة، أضر باللاجئين أكثر من غيرهم، لتصل القضية إلى هذه النقطة".
من جهته، رأى الحقوقي غزوان قرنفل، وهو مدير تجمع المحامين السوريين، ومهتم في قضايا اللاجئين السوريين في تركيا، أن "كل ما نراه من إجراءات وما سمعناه من تصريحات تنطلق من رؤية تقوم على إعادة تموضع سياسي للسياسة الخارجية التركية، تأخذ بالاعتبار أن المحيط العربي والإقليمي يعمل على إدماج نظام بشار الأسد عربياً وإقليمياً تمهيداً لإعادة تعويمه دولياً".
تحاول السلطة سحب أو إضعاف قيمة ورقة اللاجئين التي تستثمر بها المعارضة في الصراع السياسي
واعتبر أن "تركيا لا تريد أن تكون خارج هذا المسار، وبالتالي صارت كل الملفات بما فيها ملف اللاجئين مطروحة للمراجعة والحلحلة".
ولفت قرنفل في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "القرارات الحكومية الأخيرة بعضها يتعلق بإعادة صياغة آلية التعاطي مع ملف اللاجئين من منظور الطرح أعلاه، وبعضها يتعلق بتنظيم الأوضاع داخلياً، وبعضها يمثل نوعاً من التضييق لتهيئة عوامل تدفع اللاجئين أنفسهم للمغادرة".
وأضاف: "في كل الأحوال تحاول السلطة سحب أو إضعاف قيمة ورقة اللاجئين التي تستثمر بها المعارضة في الصراع السياسي والانتخابي وتجييرها لمصلحتها قدر ما تستطيع".