استمع إلى الملخص
- الدعم الأمريكي المستمر لإسرائيل ساهم في استمرار العدوان على غزة، مما أثار مطالبات بمحاسبة الولايات المتحدة جنائيًا على مساهمتها في الجرائم ضد الإنسانية.
- المسؤولية الجنائية الأمريكية والضغوطات ضد المحكمة الجنائية الدولية تعكس التحديات أمام العدالة الدولية، مع نقاش حول المسؤولية الفردية للمسؤولين الأمريكيين والحاجة إلى محاسبة دولية فعالة.
إنّ حرب الإبادة الجماعية المُستمرة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي تجاه المدنيين العُزل في قطاع غزّة قد أدت إلى نتائج قاسيةٍ، صعبة القياس وفقًا لمحددات اليوم؛ فقد أشار إعلان وزارة الصحة الفلسطينية في غزّة، في السابع من يونيو/حزيران 2024، إلى تسجيل ارتفاعٍ في حصيلة العدوان الإسرائيلي على القطاع بلغ 36 ألفًا و731 شهيدًا، و83 ألفًا و530 مصابًا، كما وقد ارتكب الاحتلال 3 ألاف و276 مجزرةً منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. إنّ هذه النتائج المروعة قد سبق الإشارة إليها على أنها تمثّل جرائم دوليةً من قبل طيف واسعٍ من الهيئات الدولية، والمنظّمات الحقوقية، إلى جانب نظر محكمة العدل الدولية حاليًا في الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزّة، وقد سبق لها أن قضت بأنّ إسرائيل ترتكب أفعالاً قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وعليها اتّخاذ تدابير مُحدّدةٍ لمنعها في قطاع غزّة. إلى جانب ذلك، طلب مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، من الدائرة التمهيدية الأولى، إصدار مذكرات اعتقالٍ بحقّ كلٍّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، على أساس ارتكاب جرائم دوليةٍ تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وفقًا لميثاق روما الناظم لعملها.
لم تكن لسلطات الاحتلال الإسرائيلي القدرة على مواصلة ارتكاب حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة من دون توفير سلاسل الإمدادات العسكرية، وغطاءٍ سياسيٍ ودبلوماسيٍ، فقد فتحت الدول الغربية منذ بدء العدوان قوافل جويةً مُكثفةً من القنابل والصواريخ والعتاد العسكري، وتصدرت ريادة هذا المشهد الولايات المتّحدة الأميركية الشريك الأبرز لإسرائيل. وعطلت الأخيرة كذلك كلّ القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن، من أجل وقف حرب الإبادة الجماعية، الأمر الذي شكل مساهمةً أميركيةً واضحةً وجليةً في حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، على الصعيدين العسكري والسياسي؛ هذا الأمر الذي رفع الأصوات المطالبة بتقديم القيادة الأميركية لمنظومة العدالة الجنائية الدولية، عن مساهماتها إلى جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي المرتكب الحقيقي للجرائم.
المسؤولية والمساهمة الجنائية
إنّ المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية غير مُقتصرةٍ على مرتكبيها، أو الآمرين بها، بل تمتد لكي تطاول مموليها، والمساهمين في التخطيط لها على أساس قواعد المسؤولية الجنائية المشتركة. إنّ نظام روما، الناظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية في إطار المادة (25)، قد نظم طبيعة المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية، حين أشار إلى أنّ الشخص يُسأل جنائيًا إذا ارتكب هذه الجريمة سواءً بصفته الفردية أو بالاشتراك مع آخر؛ أو أمر، أو أغرى، أو حث على ارتكاب جريمةٍ وقعت بالفعل، أو يتم الشروع فيها؛ أو قدم العون أو حرض أو ساعد بأيّ شكلٍ آخر لغرض تيسير ارتكاب هذه الجريمة، أو الشروع في ارتكابها، بما في ذلك توفير وسائل ارتكابها؛ أو ساهم في كلّ ما سبق، إما بهدف تعزيز النشاط الإجرامي لجريمةٍ تدخل في اختصاص المحكمة، إلى جانب علمه بنية ارتكاب الجريمة لدى هذه الجماعة.
إن الولايات المتّحدة، بإرسالها شُحنات أسلحةٍ ضخمةً، وحاملات طائرات، وحتّى جنودًا إلى إسرائيل، قد أصبحت طرفًا في المسؤولية، وبالتالي فهي مسؤولةٌ عن جرائم حربٍ غير مسبوقةٍ
ويتضح من المادة (25) بتفريعاتها المتعددة في معالجة المسؤولية الجنائية أنّها قد اشتملت على تضمين الفعل الأصيل القائم على ارتكاب الفعل المُجرم بموجب نظام روما (جريمة الحرب، أو جريمة ضدّ الإنسانية، أو جريمة الإبادة الجماعية، أو جريمة العدوان)، إلى جانب كلّ فعلٍ مساهم في ارتكاب الفاعل الأصيل لهذه الجريمة. وعليه، فإنّ المسؤولية الجنائية تمتد لتشمل المسؤولين في الحكومة الأميركية عن أعمالهم في الإمداد العسكري بشكلٍ رئيسٍ، إذ إنّهم يعلمون أنّ الإمدادات العسكرية سوف تُستخدم في استهداف المدنيين والأعيان المدنية، وهو ما يحدث على أرض الواقع.
أنماط المشاركة الأميركية وتأثيرها
لقد أخذت أنماط المشاركة الأميركية المباشرة في دعم سلطات الاحتلال الحربي الإسرائيلي في حربها للإبادة الجماعية بحقّ الفلسطينيين من سكان قطاع غزّة أنماطًا عديدةً، منها ما كان عسكريًاً، وآخر سياسيًا. وفي هذا الإطار، نجد أن الإمدادات العسكرية الأميركية لم تتوقف منذ مطلع شهر أكتوبر، فقد وفرت الولايات المتّحدة قنوات الدعم المالي والعسكري المفتوحة، وفقًا للتصريحات المعلنة من قبل كلٍّ من الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
فقد صرح الرئيس الأميركي جو بايدن بنيات الولايات المتحدة منذ بداية العدوان، قائلاً: "لقد أوضحت لرئيس الوزراء نتنياهو أننا على استعداد لتقديم وسائل الدعم المناسبة لحكومة وشعب إسرائيل". إضافةً إلى طلبه من الكونغرس بعد شهورٍ من الحرب الموافقة على مشروع قانون إنفاقٍ إضافيٍ بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل، وهو ما أقره مجلس الشيوخ بنسبة تأييد بلغت 70% في شهر فبراير/شباط. الأمر ذاته لاقى ترحيبًا إسرائيليًا، فقد كتب وزير الخارجية الإسرائيلية يسرائيل كاتس على حسابه في منصة "إكس"، حول حزمة المساعدات لإسرائيل "شكراً لك رئيس مجلس النواب مايك جونسون، على قيادتك التي قادت الجهود لتمرير حزمة المساعدات لإسرائيل في مجلس النواب".
لم تقف المشاركة الأميركية عند هذا الحد، بل شاركت في يوم السبت الموافق 8 يونيو 2024 في العملية الميدانية لتحرير أربعة أسرى إسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية من مخيّم النصيرات وسط قطاع غزّة، وكشفت وسائل إعلامٍ أميركية وإسرائيلية المشاركة الأمريكية المباشرة في هذه العملية التي خلفت 274 شهيدًا، وحوالي 700 جريحٍ، مقابل استعادة أربعة أسرى إسرائيليين. وقد استعملت القوات الإسرائيلية بالشراكة مع القوات الأميركية في هذه المجزرة سيارات الإغاثة للتمويه على عملها، إلى جانب الرصيف البحري للدخول والخروج من مخيّم النصيرات. فقد أكد مسؤولان أميركيان لموقع "أكسيوس" ولشبكة "سي إن إن" مشاركة قوّةٍ متخصصةٍ في تحرير الرهائن بالعملية إلى جانب جيش الاحتلال، وفي إطارٍ متصلٍ أعلن البنتاغون في نهاية شهر أكتوبر 2023، عقب عملية "طوفان الأقصى"، عن وصول قوات "دلتا فورس" الأميركية إلى إسرائيل لمساعدتها.
وقد وثق عددٌ من التقارير المتخصصة، الصادرة عن المؤسسات البحثية، أنماط الإمدادات العسكرية الأميركية، ودورها في العمل العسكري الإسرائيلي خلال حرب الإبادة على قطاع غزّة، فقد تنوعت الإمدادات على شكل الذخائر والقذائف المُطلقة من الأرض، أو الصواريخ والقنابل المطلقة من الجو، إلى جانب الدعم الاستخباراتي واسع النطاق، مع الكثير من الاتهامات بالمشاركة الأميركية المباشرة في إدارة غرف العمليات العسكرية الميدانية إلى جانب الجيش الإسرائيلي.
أدّى استخدام الأسلحة الأميركية، واسع النطاق، من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى مقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء في قطاع غزّة، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وإصابة أضعافهم. كما أدّى استخدام هذه الأسلحة الأرعن والانتقامي إلى تدمير قطاع غزّة تدميرًا واسعًا، على صعيد بنيته التحتية وأعيانه المدنية والثقافية والدينية؛ وهذه النتيجة الواقعة اليوم كانت معلومةً لدى السلطات الأميركية قبل تزويد سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالأسلحة.
وفرت الولايات المتّحدة قنوات الدعم المالي والعسكري المفتوحة، وفقًا للتصريحات المعلنة من قبل كلٍّ من الجانبين
المسؤولية الجنائية الأميركية ومستقبل المحاكمة
إنّ كلّ تصريحٍ يدلي به كبار المسؤولين الأميركيين، بدءًا من بايدن إلى أنتوني بلينكن وجاك سوليفان وسواهم، يشير إلى أنّ الولايات المتّحدة طرف في الحرب وليست دخيلًا عليها، أو فاعل خير، وبالتأكيد ليست وسيطًا. حتّى أنّهم حضروا اجتماعاتٍ لمناقشة خطط الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة. وعليه فإن الولايات المتّحدة، بإرسالها شُحنات أسلحةٍ ضخمةً، وحاملات طائرات، وحتّى جنودًا إلى إسرائيل، قد أصبحت طرفًا في المسؤولية، وبالتالي فهي مسؤولةٌ عن جرائم حربٍ غير مسبوقةٍ في قطاع غزّة.
تقول سارة ليا ويتسن؛ المديرة التنفيذية لمنظمة الديمقراطية في الشرق الأوسط "DAWN"، والرئيسة السابقة لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لمنظمة "Human Rights Watch": "إذا كان المسؤولون الأمريكيون لا يهتمون بالمدنيين الفلسطينيين الذين يواجهون الفظائع باستخدام الأسلحة الأميركية، فربّما سيهتمون أكثر قليلًا بمسؤوليتهم الجنائية الفردية عن مساعدة "إسرائيل" في تنفيذ هذه الفظائع". وتابعت إلى أن "الشعب الأميركي لم يوقع قط على مساعدة إسرائيل في ارتكاب جرائم حربٍ ضدّ المدنيين العزل، بالقنابل والمدفعية الممولة من دافعي الضرائب".
وعليه، فإن المسؤولية الجنائية الفردية على المسؤولين في الحكومة الأميركية الحالية سوف تكون ماثلةً في أحد الأيّام، وإن طالت أمام القضاء الجنائي، سواء كانت المحكمة الجنائية الدولية، أو أمام القضاء الجنائي الأميركي، إذ تعيش الحكومة الحالية ومجالسها التشريعية حالةً من التدافع الكبير مع منظومة العدالة الدولية، في محاولة إثنائها عن إجراءاتها المتخذة حاليًا تجاه الفاعل الأصيل "الحكومة الإسرائيلية"، عن الجرائم المروعة في قطاع غزّة. لأنّ السير في هذا المسار سيُعجل من ملاحقة المساهمين جنائيًا "الحكومة الأميركية" في دعم المجرمين الإسرائيليين في انتهاكاتهم لقواعد القانون الدولي، من خلال ارتكاب أخطر الجرائم الدولية.
لذا نشهد في هذه الأيّام مجموعةً من الإجراءات الأميركية لمواجهة المحكمة الجنائية الدولية، التي بدأت بتصريحاتٍ تحمل طابعًا تهديديًا لها، عندما بدأت تلوح في الأفق رغبة المدعي العام في المضي قدمًا بالنظر في الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في قطاع غزّة. في هذا الصدد أَرسل 12 نائبًا في الكونغرس الأميركي تهديدًا لمكتب المدعي العام، مشيرين إلى أنّه في حال إقدام المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة اعتقالٍ بحقّ نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، فإن الخطوة ستعتبر تهديدًا ليس لسيادة إسرائيل فقط، بل ولسيادة الولايات المتّحدة، وهددوا بفرض عقوباتٍ عليه، وعلى موظفي المحكمة في إطار عملهم لثني المدعي العام عن عمله.
ثمّ هاجمت الحكومة الأميركية المحكمة بعد تقديم المدعي العام طلبات إصدار قرارات إلقاء القبض والتوقيف بحقّ نتنياهو وغالانت، ووصفت إجراء المدعي العام بالشائن، إلى جانب إعلانها عن دراسة فرض عقوباتٍ على المحكمة الدولية. كما كشف كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، في إحدى مقابلاته بأنه قد تعرض للتهديد بسبب طلبه إصدار مذكرات اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه.
لم تكتفِ الولايات المتّحدة بهذا الحد، بل أعلن وزير خارجيتها، في 22 مايو/أيار 2024، أنّه سيعمل مع المشرعين الأميركيين على اتّخاذ إجراءٍ ضدّ قرار المحكمة الجنائية الدولية. كما قاد الجمهوريون حملةً لفرض عقوباتٍ على مسؤولين فيها، التي أدّت إلى تصويت مجلس النواب الأميركي لصالح تمرير مشروع قانون يفرض عقوباتٍ على مسؤولي المحكمة، يوم الثلاثاء 4 يونيو 2024، حينها وافق المجلس على مشروع القانون بأغلبية 247 صوتًا مقابل 155، ونص على فرض عقوباتٍ على الأفراد "المشاركين في أيٍّ من جهود التحقيق، أو الاعتقال، أو الاحتجاز، أو المحاكمة لأيّ شخصٍ محميٍ من قبل الولايات المتّحدة وحلفائها"، وتشمل العقوبات حظر المعاملات العقارية الأميركية، وحظر وإلغاء التأشيرات.
من الجدير ذكره هنا؛ أنّ لدى الولايات المتّحدة قانون "حماية أعضاء الخدمة الأميركية"، أو ما يعرف بقانون "غزو لاهاي"، الذي صدر عن الكونغرس الأميركي عام 2002، بهدف حماية أعضاء الخدمة الأميركية من التعرض للمحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية. أما تسميته بـقانون "غزو لاهاي" فهي تسمية عرفية، انتشرت بين المهتمين والمتابعين بسبب المادة 2008 من القانون، التي تنص على "السماح للرئيس باستخدام الوسائل الضرورية كافّة لإطلاق سراح أيٍّ من أعضاء الخدمة الأميركية، سواء كان محتجزًا أو معتقلًا من قبل المحكمة الجنائية العليا، أو بالنيابة عنها، أو بأمر منها". وقد ذهب الكثيرون إلى تفسير هذه الفقرة على أنّها تفيد بأنّ الولايات المتّحدة قد تستخدم كلّ الطرق، بما فيها تنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ، وغزو المحكمة في مدينة لاهاي بهولندا (مقر المحكمة الجنائية الدولة)، لإطلاق سراح أيّ محتجزٍ، وهكذا عرف القانون بـ"قانون غزو لاهاي". وهذا القانون تلوح الولايات المتّحدة بتطبيقه لحماية حلفائها أيضًا.