أعلنت الخارجية الأميركية، مساء أول من أمس الثلاثاء، أمام الكونغرس أن إدارة الرئيس جو بايدن قررت حجب وتقييد بعض المساعدات العسكرية لمصر، وقيمتها 130 مليون دولار بسبب ما قيل إنها مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، وأن جزءاً من مبلغ المساعدات وقيمته 170 مليون دولار ستوضع قيود على استخدامه. ولن يصادق وزير الخارجية أنتوني بلينكن أمام الكونغرس هذا العام على بند مفاده بأن "الحكومة المصرية اتخذت إجراءات مستديمة وفعّالة" لتعزيز حقوق الإنسان، باعتبار أن حواراً دائراً بين البلدين حول هذا الملف. لكن بلينكن، مدفوعاً من بايدن، لن يلتزم بالقانون وسيستخدم حق النقض الخاص به لإتاحة المجال لجزء من المساعدات، البالغة 300 مليون دولار، بتحويلها إلى القاهرة لدعم "مكافحة الإرهاب وأمن الحدود والتعاون الاستراتيجي بين البلدين"، في تكرار لسيناريو مماثل للإدارات الأميركية السابقة.
عمل بلينكن على اتخاذ موقف متوازن ومرضٍ بين واشنطن والقاهرة
بالتالي ستحصل مصر على 170 مليون دولار من دون قيد أو شرط، في حين ستحصل على المبلغ المتبقّي، وقدره 130 مليون دولار في حال "اتخذت إجراءات إيجابية محددة تتعلق بحقوق الإنسان". ويُعتبر هذا القرار حلاً وسطاً يخيّب آمال النواب الديمقراطيين المتشددين والدوائر الحقوقية بين مصر والولايات المتحدة، القلقة بشأن "انتهاكات النظام لحقوق الإنسان"، في اختبار هو الأول من نوعه الذي تتعرض له إدارة بايدن، وتبدي فيه سلوكاً لم يكن مُتوقعاً منها، بالنظر للانتقادات الحادة التي كان يوجهها للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وعلاقته بسلفه دونالد ترامب قبل ذلك، خصوصاً حين وصفه بـ"ديكتاتور ترامب المفضل".
وحول الموقف الأميركي، كشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ"العربي الجديد" أن القاهرة لم تُبلّغ بالقرار بعد بشكل رسمي، غير أن الاتصالات الجارية طوال الوقت مع واشنطن، كانت تفيد بأن بلينكن يتجه لاتخاذ موقف "متوازن ومُرض للجميع" كان من محاور المباحثات الممتدة خلال الأسابيع الأخيرة بين البلدين. مع العلم أن بايدن وبلينكن تعرّضا للانتقاد من دوائر داخل الحزب الديمقراطي طالبت بحجب هذا الجزء من المساعدات، في حين حاولت الخارجية ودوائر أميركية أخرى قريبة من مصر، تقديم عدد من النصائح للقاهرة لاتخاذ خطوات من شأنها تسهيل الإفراج عن المبلغ كاملاً. وكان من بين القضايا التي نوقشت، الإغلاق الجزئي المستمر لقضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وإعلان الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
وأضافت المصادر أن إقدام بلينكن على تقسيم المبلغ بهذه الصورة، هو استجابة للضغط الداخلي على الإدارة لاتخاذ خطوات ضد النظام السيسي، في وقت تتجه فيه الإدارة الأميركية إلى التعامل الهادئ مع مصر، على عكس ما كان متوقعاً عند تولي بايدن الرئاسة. ورجّحت المصادر أن يتم صرف الجزء المتبقي من المعونة خلال أشهر قليلة، في ظل حق بلينكن في ذلك حسبما أبلغ الكونغرس، وفي المقابل فإن هذا الموقف لن يُغضب مصر، بل هو أخف ضرراً مما كان مُتصوراً في بداية عهد بايدن.
وعلى الرغم من ذلك، توقعت المصادر أن يصدر بيان مصري ينتقد هذه الخطوة، في إطار سياسة التصعيد الدعائي التي ينتهجها السيسي في هذا السياق منذ سنوات. كما سينعكس هذا في تعليمات وسائل الإعلام، التي ربما تنخرط في حملة للهجوم على الولايات المتحدة كما حدث في السنوات السابقة، التي شهدت تعليق بعض المبالغ لفترة مؤقتة.
ويعكس هذا التقسيم افتعال إدارة بايدن الضغط على السيسي لتحسين سياسات التعامل مع الملف الحقوقي، على الرغم من ضعف الضغوط وعدم تحسن الأوضاع على الأرض على الإطلاق. واقتصرت الجهود المبذولة من السلطات المصرية على ادّعاء تحقيق انفراجة متوهّمة لا أصل لها، فضلاً عن فرض قرارات فوقية محدودة غير مؤثرة، تتماشى مع تكريس التنكيل بالمعارضين، والمنتمين منهم للقوى والتيارات التي كانت تعتبر قريبة من واشنطن، أو تمتلك علاقات جيدة بالحزب الديمقراطي وشخصيات نافذة في إدارة بايدن.
كما يتيح هذا التقسيم للسيسي استمرار هذه الادعاءات وتقديم هذه الخطوات الصغيرة الدعائية، بل وتسمح للسلطات بممارسة المزيد من القمع. وفي السياق، تزامن إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان وصرف معظم مبلغ المعونة المعلق على هذا الملف، مع إجراءات انتقامية مكثفة ضد المعارضين مثل رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح، الذي أحيل إلى المحاكمة الجنائية أخيراً، والباحث باتريك جورج الذي أحيل إلى محكمة أمن الدولة طوارئ بعد عام وثمانية أشهر من الحبس الاحتياطي، والناشط السياسي علاء عبد الفتاح الذي يعاني من تدوير مستمر بين القضايا ومن قمع واضح داخل السجن يعرض حياته للخطر بحسب محاميه وذويه، والناشط الحقوقي محمد الباقر الذي تم تجديد حبسه هذا الأسبوع لتتخطى فترة اعتقاله عامين متواصلين. كما تستمر إحالة المعتقلات والمعتقلين من جماعة الإخوان إلى محاكمات جنائية باتهامات ملفقة، كما حدث أخيراً مع المحامية هدى عبد المنعم التي لم ترتكب جرماً إلا محاولتها مساعدة ذوي المعتقلين.
حسمت إدارة بايدن موقفها بالاعتماد على السيسي في المرحلة المقبلة
وبغضّ الإدارة الأميركية بصرها عن كل هذه التجاوزات، واكتفائها بتعليق مبلغ 130 مليون دولار من المعونة السنوية، فإن إدارة بايدن تكون قد حسمت موقفها خلال عامها الأول بالمضي قدماً في الاعتماد على السيسي، خصوصاً بعد التطورات الجارية في ملف التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والتهدئة في الأراضي الفلسطينية. كما تكون قد خذلت الحقوقيين المصريين والأميركيين الداعمين لهم.
وتعتبر هذه المحطة الثانية على التوالي التي يُثار فيها الجدل حول استحقاق مصر للمعونة الأميركية الكاملة بمبلغ 1.3 مليار دولار سنوياً، والتي تمنح لها هذا الرقم منذ 34 عاماً، وذلك بعد موافقة بايدن على منح مساعدات بقيمة 410 ملايين دولار تقريباً في الآونة الأخيرة، أُحيطت بجدل كبير داخل البيت الأبيض وبين قيادات الحزب الديمقراطي. وعملت بعض هذه القيادات على اتخاذ إجراءات، تؤكد عدم قبول واشنطن لما يمكن وصفه بـ"التلاعب المصري" بهذا الملف و"ادعاء الاستجابة" لكل المناشدات الأميركية.
وتأتي هذه التطورات على الرغم من أن الفريق المتشدد تجاه النظام المصري قد أحكم قبضته على إدارة ملف المعونة الأميركية لمصر، وليس صرفها، بتعيين تامارا كوفمان ويتس كمساعدة لرئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لشؤون الشرق الأوسط. وهي التي عملت سابقاً في مكاتب الشرق الأدنى والشرق الأوسط بالخارجية الأميركية في فترة الربيع العربي، في العقد الأخير، وصاحبة باع طويل في مناهضة سياسات النظام المصري بعد انقلاب يوليو/تموز 2013. وكان الإعلام الموالي للنظام يركز على كتاباتها في نهاية حكم الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، للدلالة على دعم إدارته المزعوم لجماعة الإخوان.
ويعكس هذا التناقض بين صعود هذا الفريق وما يحدث على أرض الواقع، أن بايدن وبلينكن متوافقان تماماً على أهمية عدم الذهاب بعيداً في الضغط على السيسي، وأن الخطوات المتخذة حتى الآن تكفي لإقامة "علاقة متزنة" بين الجانبين، مما يصب في مصلحة الأخير بالطبع، الذي لم يضطر لتقديم تنازلات كبيرة أو فعّالة للحصول على مراده.