"يا جميل العموري ... جبنالك وردة جوري"، كان هذا هتاف آلاف المشيعين في جنازة الشهداء الفلسطينيين الأربعة الذين ودعتهم مدينة جنين شمالي الضفة الغربية، أمس الأربعاء، وهو الهتاف الذي يترجمه المقاومون يومياً بالرصاص والدم في جنين ونابلس ويعكس العلاقات المتشابكة والقواسم المشتركة التي تجمع شهداء موجة المقاومة الأخيرة مع بعضهم البعض.
النقطة الفارقة
تشير المتابعة في الميدان إلى أن استشهاد جميل العموري في يونيو/ حزيران من العام الماضي، كان إحدى النقاط الفارقة في موجة المقاومة التي انطلقت شرارتها بمعركة "سيف القدس" في مايو/ أيار 2021 بعد الاعتداءات الإسرائيلية على القدس والمصلين، لتتوحد الساحات الفلسطينية (القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948) لأول مرة بشكل لم يسبق له مثيل.
حينها بدأ العموري ومجموعة من رفاقه باستهداف حواجز الاحتلال حول مدينة جنين، في اشتباك هدفه إرباك العدو وإرهاقه، ليُعرف العموري بلقب "مجدد الاشتباك"، ويسير على دربه رفيقه عبد الله الحصري الذي استشهد في مارس/ آذار الماضي.
ومن ذلك الحين بات اسمهما يتردد في كل تشييع للشهداء، ومع ازدياد وتيرة المقاومة والاغتيالات، يردد المقاومون والمشيعون أسماء شهدائهم، قبل أن يصبحوا أنفسهم شهداء وهكذا في دائرة لا تنكسر من المقاومة والاغتيالات، رغم عملية "كاسر الأمواج" التي أطلقها الاحتلال منذ مارس/ آذار الماضي، حتى الآن، والتي أسفرت عن 158 شهيداً، 40 منهم من محافظة جنين لوحدها.
وكشف هؤلاء المقاومون المسلحون الذين تطاردهم السلطة الفلسطينية كذلك بتهمة "حيازة السلاح بدون ترخيص" عن عمق الشرخ بينها والشارع الفلسطيني، وكأنهما عالمان متوازيان. أما بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي، فإن رصاص هؤلاء المقاومين يصل للحواجز العسكرية وأسوار المستوطنات، وعندما يتم اغتيال مقاوم ينبت مكانه عشرة آخرون يسيرون على دربه رغم عدم وجود بنى تنظيمية لهم. والأصعب بالنسبة للاحتلال أن هذه المجموعات المسلحة تم استنساخها في عدد من المدن، فقد بدأت في جنين "كتيبة جنين" وسرعان ما انتشرت في نابلس "عرين الأسود" ثم "كتيبة طولكرم" و"كتيبة طوباس" حتى الآن.
- لكن ما هي القواسم المشتركة بين هؤلاء المقاومين من جنين إلى نابلس إلى طولكرم؟
يظل القاسم الأبرز أن غالبيتهم العظمى أسرى سابقون تعرفوا على بعضهم وتقوّت العلاقات بينهم في معتقلات الاحتلال.
الأمر الآخر أن جزءاً كبيراً منهم كان معتقلاً سياسياً لدى السلطة بـ"حمل سلاح دون ترخيص" وهي تهمة سياسية يكون التحقيق فيها على خلفية مقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي، والأمر اللافت أنه عندما سنحت لهم الفرصة وحملوا السلاح مجدداً بعد الإفراج عنهم لم يوجهوا سلاحهم نحو السلطة، بل نحو الاحتلال.
تقول أم جميل العموري لـ"العربي الجديد" إن السلطة الفلسطينية اعتقلته عدة مرات، كان أقساها المدة التي أمضاها في سجن أريحا لمدة 20 يوماً. وأضافت: "عندما ذهبت لاستقباله لم يكن قادراً على الوقوف على قدميه من التعذيب، كان ظهره محنيا كأنه عجوز وفقد الكثير من وزنه"، موضحة أن ذلك كان قبل عام من استشهاده.
وتتابع أم جميل "لاحقاً تم استدعاؤه عدة مرات من قبل أجهزة الأمن، لكن رفض الذهاب إليهم لأنه يعرف ما ينتظره في مسلخ سجن أريحا"، حسب وصفها.
الأمر ذاته تؤكده عائلة الشهيد براء لحلوح من مخيم جنين التي تؤكد تعرضه للاعتقال على يد أمن السلطة الفلسطينية مدة شهرين، كاشفة كذلك أنه تعرض حينها للتعذيب، قبل أن يفرج عنه في شهر مارس/ آذار 2022، ويستشهد بعد ذلك بثلاثة أشهر.
تجربة الاعتقال والتعذيب ذاتها تعرض لها الشهيد عبد الله الحصري الذي اعتقل عام 2018، وأمضى 50 يوماً في سجن أريحا، ولاحقاً تم الحكم عليه غيابياً في سجون السلطة بالسجن ثلاثة شهور عام 2020، قبل أن تغتاله قوات الاحتلال الإسرائيلي في الأول من مارس/ آذار الماضي. الأمر نفسه واجهه كذلك أحمد السعدي الذي استشهد في إبريل/ نيسان الماضي، وشهداء آخرون في جنين ومخيمها مثل أمجد العزمي، وصالح العمار، ونور جرار.
الأمر لا يختلف كثيراً في البلدة القديمة لمدينة نابلس، حيث تشكل تنظيم مسلح اسمه "عرين الأسود" غالبية عناصره محسوبة على حركة "فتح" لكنهم ليسوا أفراداً في تنظيمها رسمياً ولم ينخرطوا بأي عمل في الحركة ولم يحصلوا على امتيازات منها، بل تشابكت تجربتهم في الاعتقال لدى الاحتلال والاعتقال السياسي لدى السلطة مع رفاقهم في السلاح في مخيم جنين.
ورغم أن "كتائب شهداء الأقصى" الذراع العسكرية لحركة "فتح" نعت إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح اللذين استشهدا فجر التاسع من أغسطس/ آب الماضي، إلا أن كليهما ذاقا مرارة الاعتقال السياسي. وأمضى النابلسي 6 أشهر معتقلاً لدى "جهاز الأمن الوقائي" رغم أن والده يعمل عقيداً في الجهاز.
أما صبوح فأمضى عامين معتقلاً منها ستة شهور في سجن أريحا وتعرض للتعذيب بدوره هناك، وكانت تهمته هي "مجابهة رجال الأمن"، واعتقل مع رفيقه في السلاح أدهم مبروكة المعروف بـ"الشيشاني"، وهو أسير محرر وجريح برصاص الاحتلال، أمضى أيضاً عامين معتقلاً لدى السلطة وتم كسر كتفه خلال تعذيبه وبقي حتى يوم اغتياله في فبراير/ شباط الماضي، لا يستطيع تحريك كتفه بشكل طبيعي.
والأمر ذاته تكرر مع الشهيد محمد الدخيل الذي تم اغتياله مع الشيشاني في نابلس، حيث كان ملاحقا من قبل الاحتلال والسلطة الفلسطينية، التي اعتقلته قبل عامين، بتهمة إلقاء عبوة ناسفة باتجاه برج عسكري إسرائيلي قرب نابلس، حيث تعرض للاعتقال والتعذيب.
ويقول شقيق الشهيد صبوح شادي لـ"العربي الجديد" إن "كتيبة عرين الأسود هي أنقى ظاهرة مقاومة عرفتها فلسطين، لا يوجد في ملف مقاوم منهم أي مخالفة جنائية، وحتى عندما تم اعتقالهم وتعذيبهم في سجون السلطة، وسنحت لهم الفرصة بحمل السلاح لم يفكروا لحظة بالانتقام، بل كان عدوهم الوحيد الاحتلال".
جنين حاضنة وملهمة
لكن أحد أهم القواسم المشتركة بين مجموعات المقاومة الفلسطينية هو أن جنين كانت تحتضنهم أو ألهمتهم، وعلى سبيل المثال "كتيبة جنين" التي تشكلت بعد "نفق الحرية" في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، من سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الاسلامي الذي يعتبر جنين ومخيمها معقلاً له، وتضم مقاومين مسلحين من مختلف التنظيمات.
وفي السادس من سبتمبر/أيلول 2021، نفذ ستة أسرى فلسطينيين أكبر عملية فرار من معتقلات الاحتلال الإسرائيلي، والتي حدثت في سجن جلبوع الإسرائيلي الأكثر تحصيناً، أو ما يعرف بعملية "نفق الحرية"، عبر نفق حفره الأسرى، وانتزعوا حريتهم منه لبضعة أيام، على الرغم من التدابير العسكرية والأمنية الإسرائيلية المشددة، قبل أن يُعتقلوا بعد خمسة أيام من الحرية، ليمضوا منذ ذلك الحين أكثر من عام في العزل والتنكيل.
وتحولت تجربة "كتيبة جنين" لمصدر إلهام في وجود مسلحين من تنظيمات مختلفة أو غير محسوبين على أي تنظيم لكن يجمعهم العمل المقاوم.
وبعد اغتيال ابنه الثاني عبد الرحمن طالب العقيد أبو رعد خازم يوم أمس، في فيديو له، المسلحين بـ"الحفاظ على وحدتهم".
ويقول أحد عناصر "الجهاد الإسلامي" مفضلا عدم ذكر اسمه في حديث لـ"العربي الجديد" إن "الجهاد الإسلامي بات حاضنة لمن يريد المقاومة بغض النظر عن خلفيته السياسية".
والأمر الآخر اللافت أن مخيم جنين أصبح ملجأ للمطلوبين، حيث ظهر لأول مرة المطارد ماهر تركمان أحد منفذي عملية الأغوار يوم أمس الأربعاء، خلال تشييع الشهداء الأربعة في جنين، ملثماً يخاطب الجماهير ويحثهم على "الجهاد في سبيل الله صفاً كأنهم بنيان مرصوص".
ويطارد الاحتلال تركمان الذي نصب مع ابنه كميناً للاحتلال في الأغوار في الرابع من الشهر الجاري، ما أدى لإصابة عدد من الجنود بجراح، وإصابة ابنه محمد بجراح حرجة اعتقل على إثرها فيما استطاع الأب الفرار.
وأعلن الاحتلال بعد ساعات من ظهور الأب تركمان، "أنه تم بتر اليد اليسرى لابنه محمد وأن وضعه الصحي خطر" في توقيت هدفه على ما يبدو النيل من معنويات الأب.
مقاومون زاهدون
ومن أبرز القواسم المشتركة بين المقاومين أن غالبيتهم العظمى في العقد الثاني من عمهرهم، أي أنهم كانوا أطفالاً صغاراً أو لم يولدوا بعد حين اجتاح الاحتلال الضفة الغربية وقتل المئات من المقاومين والمواطنين في عملية "السور الواقي" التي أعاد بها الاحتلال السيطرة العسكرية التامة على الضفة الغربية.
أمر آخر يتشارك به هؤلاء المقاومون هو إمكانياتهم المادية البسيطة، وغالبيتهم العظمى اشتروا أسلحتهم الخاصة بهم مثل الشهيد العموري الذي باع سيارته الخاصة لشراء سلاحه، وهناك من استدان ثمن بندقيته وما زالت عائلته تسدد باقي ثمنها بعد استشهاده.
الأمر الآخر الذي يتشاركه هؤلاء المقاومون هو تدينهم الكبير، حيث ما زال الناس يذكرون صورة البطاقة الشخصية للشهيد الدخيل وقد وضع فيها تذكيراً بمواعيد الصلاة وركعاتها. فيما لا يزال أهل البلدة القديمة في نابلس يتناقلون فيديو للشهيد عبود صبح وهو يحث أصدقاءه على الصلاة قائلاً: "صلوا قبل ما يصلوا علينا".