يجري الملك تشارلز الثالث أول زيارة له لإيرلندا الشمالية بصفته ملكاً، اليوم الثلاثاء، كجزء من جولة في المملكة المتحدة.
وليس الملك تشارلز الثالث غريباً عن الديناميكيات السياسية لإيرلندا الشمالية، إذ أجرى 39 زيارة رسمية لإيرلندا عندما كان أميراً، ولم يتوانَ عن طمأنة الاتحاديين بأنهم "جزء عزيز" من المملكة المتحدة، وكان أول عضو في العائلة المالكة يلتقي الرئيس السابق لحزب "شين فين" جيري آدامز عام 2015، حيث جرت مصافحة "تاريخية" بين الرجلين في ما يشبه "عفا الله عمّا مضى".
ولم يمحُ التاريخ بعد حقيقة أن الملك تشارلز الثالث كان قائد فوج المظليين في الجيش البريطاني خلال مذبحة الأحد الدامي في 30 يناير/ كانون الثاني 1972، عندما أطلق الجنود البريطانيون النار على 26 مدنياً خلال مسيرة احتجاجية، ما أودى بحياة 13 منهم.
انقسام الآراء في إيرلندا الشمالية حول وفاة الملكة
وتُعَدّ الآراء في إيرلندا منقسمة حول وفاة الملكة إليزابيث الثانية كتاريخ البلد بالضبط، وهي التي كانت ملكة لـ70 عاماً من 100 عام من تاريخ إيرلندا الشمالية، بما فيها ثلاثة عقود من اضطرابات واقتتال طائفي دموي راح ضحيّته أكثر من 3 آلاف شخص، كانت بالنسبة إلى الكثير من القوميين الانفصاليين رمزاً للقمع البريطاني، بينما جسّدت بالنسبة إلى الاتّحاديين الرابط الأخير المباشر مع الإمبراطورية وانتصار الحرب العالمية الثانية، وهو أمر محوري في هويتهم.
وأجرت الملكة الراحلة 25 زيارة لإيرلندا الشمالية، معظمها في التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بعد أن بدأت عملية السلام التي كان لها دور محوري فيها.
وكانت زيارتها الأولى لبلفاست، في يوليو 1953، بمثابة زيارة تاريخية لأول ملك تطأ قدماه المدينة منذ 100 عام. بعد 26 عاماً على تلك الزيارة، اهتزت العائلة الملكية واهتزّت تلك العلاقة الشائكة إثر مقتل لويس مونتباتن، عمّ زوجها الأمير فيليب، في انفجار قنبلة زرعها الجيش الجمهوري الإيرلندي في قاربه خلال إجازته في "كو سليغو". إلا أن الملكة التي يُجمع كل من قابلها على أنها ملتزمة إلى حد بعيد مسألة الواجب، كانت تختار كلماتها بعناية قلّ نظيرها في كل خطاباتها وتصريحاتها حول إيرلندا الشمالية.
وسيسجّل التاريخ أيضاً للملكة إليزابيث لقاءها القائد السابق للجيش الجمهوري الإيرلندي مارتن ماكغينيس، خلال فعالية ثقافية في مسرح بلفاست عام 2012 ومصافحته باليد. وإن كان من شأن اللقاء الذي استمرّ لبضعة ثوانٍ أن يطوي تاريخاً صعباً ومعقداً على الصعيد الشخصي، فقد يعجز عن تحقيق "مصالحة" حقيقية مع الماضي على الصعيد العام.
وقبل تلك المصافحة التاريخية بين ذاكرتين محمومتين، وضعت الملكة إكليلاً من الزهور في حديقة دبلن تخليداً لذكرى الذين قاتلوا ضد بريطانيا في سبيل تحقيق الاستقلال الإيرلندي، وتكريماً "لكل أولئك الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل قضية الحرية الأيرلندية". واختارت الملكة أن تبدأ خطابها باللغة الإيرلندية خلال مأدبة رسمية في قلعة دبلن بمناسبة الزيارة التي نظّمتها رئيسة إيرلندا ماري ماكاليز قائلة: A Uachtaráin agus a chairde، أي عزيزتي الرئيسة وأعزّائي الأصدقاء، ما دغدغ الرأي العام الإيرلندي، مضيئاً لحظة مصالحة شجاعة تترجم عزم الملكة على الثبات والاستمرارية.
في تلك الزيارة أيضاً اختارت الملكة كلماتها بعناية متحدثة عن "تعقيدات تاريخنا.. أن تكون قادراً على الانحناء للماضي دون التزامه"، معبّرة عن أسفها "لحقيقة أن جزرنا شهدت عبر التاريخ أكثر من نصيبها من حرقة القلب والاضطراب والفقد".
وعشية وفاتها يوم الخميس الماضي، سُمعت في أجزاء من بلفاست أصوات ألعاب نارية، ما دفع زعيمة حزب "شين فين" ميشيل أونيل إلى حثّ زملائها على التصرّف بلباقة واحترام.
وقالت أونيل المتّشحة بالسواد للصحافيين وبمعيّتهم لزملائها القوميين: "في نهاية المطاف، صحيح أنها كانت ملكة إنكلترا، لكنها أيضاً أم وجدة"، أي إنها في دعوتها المبطّنة لزملائها "للمكابرة على الجراح"، كان العامل الإنساني هو الدافع من دون إغفال تاريخ حافل بـ"القمع".
واستبقت أونيل الإحساس بالفراغ الذي خلّفه رحيل الملكة، وذلك القلق الذي يخيّم على بلفاست من المجهول، فكانت من أوائل من وقّعوا على كتاب وثيقة التعزية في قاعدة مدينة بلفاست، مبدية تعاطفها مع الملكة الراحلة بكلمات واضحة كوضوح الخوف.
وأعلنت لاحقاً تطلّع "شين فين" إلى العمل مع الملك تشارلز الثالث، وكانت برفقة أعضاء كبار آخرين من الحزب، الجناح السياسي السابق للجيش الجمهوري الإيرلندي. وحتى في حديثها عن علاقات مثمرة مع الملك الجديد، انتقت أونيل كلماتها بدقّة: "لدينا جسور لإصلاحها، أتطلّع إلى العمل مع تشارلز ومتأكدة من أنه سيواصل إرث والدته في بناء العلاقات بين جزيرتينا".
وفي آخر بيان لها عن إيرلندا الشمالية العام الماضي في الذكرى المئوية لتأسيسها، قالت الملكة إليزابيث الثانية: "من الواضح أن المصالحة والمساواة والتفاهم المتبادل ليست أموراً مفروغاً منها، بل تتطلّب ثباتاً والتزاماً مستمرّين".
وقد تختصر هاتان المفردتان (الثبات والالتزام) العلاقة الطويلة والشاقة والموجعة التي خاضتها الملكة إليزابيث مع إيرلندا الشمالية بشكل منعزل عن مواقف حكوماتها المتعاقبة، حتى ليبدو أن علاقة مماثلة ستكون مستحيلة مع أي وريث آخر.
وكانت تمثّل بالنسبة إلى الكثيرين الثبات والاستقرار والاستمرارية وسط "خيانات" الحكومات منذ الاتفاقية الأنجلو إيرلندية عام 1985، التي أعطت دبلن رأياً في شؤون إيرلندا الشمالية، وصولاً إلى الاستفتاء الذي هندسه رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما لحق به من نزاع حول بروتوكول إيرلندا الشمالية، ولا تزال أصداؤه ساخنة في حكومة ليز تراس.
وتأتي وفاة الملكة في وقت عصيب بالنسبة إلى الاتحاديين وما يواجهون من تحدّيات، ولا سيما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، و"اختراع" حدود جديدة، والتوقّعات بأن يتفوق عدد الكاثوليك على عدد البروتستانت للمرة الأولى وسط صعود حزب "شين فين" على جانبي الحدود. ذلك الخوف من المجهول عزّزته عوامل كثيرة أخيراً، منها الفوز الساحق لـ"شين فين" وحصوله في مايو/أيار على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان الإقليمي للمرة الأولى، ومطالبه التي تعلو حدّتها لإجراء استفتاء على إيرلندا الموحّدة في غضون عقد من الزمن، يضاف إلى ذلك التركيبة السكانية والكراهية لـ"بريكست" اللتان تعزّزان الدعم الذي يحصل عليه المشروع الانفصالي، واستطلاعات الرأي تشير إلى أنه الأكثر شعبية بين جيل الشباب. كذلك يصعب تجاهل النزاع الحاصل حول بروتوكول إيرلندا الشمالية وإصرار حكومة المحافظين على تمرير مشروع قانون يتيح لها حذف أجزاء مهمّة منه من جانب واحد، برغم ما تمثّله هذه الخطوة من خرق للقانون الدولي.