وبرزت بين هذه الأساليب طريقتان أساسيتان، الأولى الإغراء المالي الذي يقدمه الموساد أو يعد بتقديمه لمن يتعاون معه، والثانية هي الابتزاز والترهيب. وعادة ما كان الموساد يعتمد على "اليهود الأصليين" في بلدانهم لتجنيدهم لخدمة إسرائيل، باعتبارهم أفضل من يمكن له أن يندمج في المجتمع المحلي بسبب اللغة والثقافة، وفي الوقت ذاته لا يثير الشبهات ضده. لكن تقريرا نشرته صحيفة "ميكور ريشون"، وخصصته لعمليتي اغتيال كل من الشهيد محمد الزواري في صفاقس في تونس في العام 2016 وعملية اغتيال فادي البطش، وقبلها محاولة اختطاف مهندس فلسطيني في أوكرانيا، يشير إلى أن الموساد لجأ، خلال استعداده لتنفيذ هذه العمليات، لاستخدام عملاء من خارج صفوفه، ومن خارج الدائرة التي نشط عادة فيها، والاتجاه نحو تجنيد عملاء، بمن فيهم قتلة مأجورون، من دون أن يعرف هؤلاء حقيقة وهوية الجهة التي استأجرت خدماتهم، ودون الكشف عن الهدف الحقيقي وراء عملهم.
وفي هذا السياق، يكشف التقرير مثلاً أن أهم عنصرين في الخلية المكونة من 12 شخصاً، بحسب التحقيقات التونسية في قضية اغتيال الزواري، كانا قاتلين مأجورين من أصول بوسنية، تمكنت الجهات التونسية من الوصول إلى هويتهما وتقديم بلاغات للإنتربول لتسليمهما لها، من دون أن يشعل الطلب التونسي الضوء الأحمر، لا في البوسنة ولا في تل أبيب. وبحسب التقرير الإسرائيلي، فقد قادت السرية التي عملت بها السلطات التونسية، إلى اعتقال أحد القتلة البوسنيين، والمدعو إيليم تشيمدزيتش، في 13 مارس/آذار الماضي، في زغرب، بينما كان في طريقه إلى فيينا.
إلى ذلك، يكشف التقرير أن عميلين إسرائيليين للموساد، كانا قد أعدا لاصطياد عملاء لتنفيذ مهام جمع المعلومات وتنظيم الترتيبات اللوجستية، نشرا إعلاناً على مواقع الإنترنت لشركة ماليزية للإنتاج التلفزيوني، يطلبان فيه صحافيين وعاملين عربا في الشركة لإعداد سلسلة وثائقية عن علماء وأدباء فلسطينيين. وبهذه الطريقة وقعت صحافية تونسية، تعيش في هنغاريا، في الفخ، ووصلت للعمل في الشركة "الماليزية"، حيث طلب منها إعداد تقارير وجمع معلومات عن علماء فلسطينيين، وزُودت باسم محمد الزواري. وقد ساعد كونها تونسية الأصل في إقناع الزواري، الذي كان يرفض إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام، بقبول طلبها إجراء مقابلة تلفزيونية معه وتحديد موعد للمقابلة أمام بيته، حيث وصل أفراد خلية التنفيذ، وبينهم البوسنيون، وقاما باغتياله. ويقول التقرير إن العاملين التونسيين، سواء الصحافية التونسية أو المسؤولون عن الجوانب اللوجستية الذين استأجروا الشقق والسيارات التي استخدمها العملاء، عادوا إلى بلدانهم التي يعيشون فيها في أوروبا، حيث طلب منهم انتظار الاتصال بهم من شركة الإنتاج، من دون أن يعلموا، أو أن يكون بمقدورهم التكهن أن الشقق والسيارات التي استأجروها ستستخدم لمراقبة الزواري ورصد تحركاته.
وبحسب التقرير فقد تبين قبل شهر فقط من اغتيال العالم الفلسطيني البطش، في العاصمة الماليزية كوالالمبور، أن الحديث يدور عن سلسلة عمليات، القاسم المشترك بينها هو علاقة المستهدفين منها بنشاط حركة "حماس" (وفق ما تدعي إسرائيل) وجهودها لبناء وتطوير أسلحة تستخدم ضد إسرائيل. وينطبق هذا على عملية اختطاف المهندس الفلسطيني ضرار أبو سيسي من كييف وجلبه إلى إسرائيل، مروراً بالمحاولة الفاشلة في بيروت لاغتيال محمد حمدان، وصولاً أخيراً إلى اغتيال البطش في كوالالمبور. ويلفت التقرير إلى أنه تفصل بين عمليتي الزواري والبطش سنة وخمسة أشهر، كان يفترض أنها كافية لتبخر القاتلين البوسنيين، واستنفاد السلطات التونسية التحقيقات، لكن تبين أن الجهات التونسية تمكنت من التعرف على هوية القاتلين المأجورين من البوسنة، وقدمت في نهاية المطاف طلباً رسمياً إلى الإنتربول باعتقال القاتلين البوسنيين.
ومع أن التقرير يطرح تساؤلات حول أسباب الإخفاق في هذا السياق، ويستعرض بعض سيرة حياة تشيمدزيتش، ودوره في الحرب الأهلية في البوسنة، وكونه قاتل في صفوف القوات الإسلامية، إلا أنه يذكر أنه وفقاً لمعلومات نشرت، في صحف بوسنية، بعد اعتقاله في زغرب، أنه انضم بعد الحرب الأهلية في البوسنة للعمل في وحدة مختارة لشرطة البوسنة، ثم انتقل لاحقاً للعمل في شركة إسرائيلية عملت في مجال بيع أجهزة التنصت والاتصالات في البوسنة، ثم عمل في شركة أميركية تجند وتدرب القوات البوسنية وفق اتفاقيات السلام التي أنهت الحرب، ومن هناك تم نقله إلى العراق، حيث عمل مع القوات الأميركية مدرباً للقوات العراقية المحلية. ويعبر الخبير الأمني البوسني، جواد غليشوبيتش، بحسب التقرير، عن اعتقاده أن الموساد جند تشيمدزيتش في المراحل الأولى من عمله في الشركة الأميركية، مضيفاً أنه لا يستبعد أن يكون القاتل البوسني قام أيضاً بعمليات لصالح الاستخبارات البريطانية والأميركية بمعزل عن عمله لصالح الموساد الإسرائيلي. ويشير التقرير إلى أن الإجراءات القضائية ضد تشيمدزيتش، الموقوف في كرواتيا منذ شهرين، جرت بسرية تامة، وأن لائحة الاتهام الرسمية له تنص على أنه "متهم، بحسب القانون التونسي، بالوصول مع شخص آخر إلى تونس، والمشاركة في عمليات رصد ومراقبة، والتواجد في ساحة جريمة قتل، واستخدام كاتم صوت، ومحاولة إخفاء مغادرته البلاد، وخرق النظام العام والمس بالدستور والقانون السياسي والاجتماعي والاقتصادي لتونس". وقد قررت المحكمة مع انتهاء كافة الإجراءات تسليمه للسلطات التونسية.
كما يشير تقرير "ميكور ريشون" إلى أن عملية تسليم البوسني ستستغرق وقتا طويلاً، لكن تورط تشيمدزيتش بالكاد طرف الخيط. ففي موازاة إجراءات تسليمه، ظهر فجأة شريكه في عملية اغتيال الزواري، عندما أعلنت، الحكومة البوسنية، الثلاثاء الماضي، اعتقال ألفير شاراتس (38 سنة)، المشتبه بأنه قدم المساعدة في عملية اغتيال الزواري. ويبدو أن سيرته مشابهة، بحسب مواقع بوسنية، لسيرة تشيمدزيتش، فهو مرتزق عمل أيضاً لدى شركة أمن أميركية. كما أنه تم تقديمه إلى المحاكمة في البوسنة بسبب سلوكه غير المنضبط خلال خدمته في وحدة لمكافحة الإرهاب. ويعتبر غليشوبيتش أن الوضع الذي نشأ بعد الحرب البوسنية سمح بوجود أعداد هائلة من المقاتلين العسكريين ذوي الخبرة القتالية ولا رقابة شديدة عليهم، ما أوجد رواجاً للمرتزقة الذين يعملون في خدمة كل من يملك المال، بمن في ذلك إسرائيل، مضيفاً أن المشكلة أن وكالات الاستخبارات البوسنية كانت منذ البداية مشروعاً بريطانياً وليس بوسنياً، واليوم، بحسب تقديري، فإن "هناك أطرافاً خارجية تستخدمهم وفق حاجاتها بما في ذلك تجنيد قتلة محترفين". ويربط الموقع الإسرائيلي بين أقوال غليشوبيتش وبين تصريحات نائب رئيس الحكومة الماليزية السابق، أحمد زاهد حميدي، الشهر الماضي، والتي جاء فيها أن من بين من اغتالوا البطش أوروبيين على صلة بأجهزة استخبارات أجنبية، ويبدو أن الكيان الذي أرسلهم "دولة عدو لفلسطين. يبدو أن هذا نمط متكرر من استخدام القتلة المحترفين، على ما يبدو من أصل بلقاني". ويلفت التقرير إلى أنه فيما تم في عملية اغتيال الزواري العثور على جوازات سفر بوسنية، ففي حالة البطش، تم العثور على جوازي سفر مزيفين، الأول صربي والآخر لمونتنيغرو. وينهي معد التقرير بالقول إنه توجه إلى ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، سائلاً إياه عما دار في الحديث بينه وبين الرئيس الصربي، ألكسندر فوتشيتش، الذي كان الوحيد الذي شارك في الاحتفالات الروسية بالنصر على النازية إلى جانب نتنياهو، حيث شوهد الاثنان وهما يسيران جنباً إلى جنب، لكن ديوان نتنياهو فضل التزام الصمت.