إنّ مقولة لا يُمكن فصل النضال النسوي ومطلب تحرر المرأة من منظومة السيطرة وقمع البُنى الأبوية، عن التحرر الوطني والتخلّص من الاحتلال والاستعمار، ليست شعارا البتة. فكل تحرّر لواحد منهما مقابل المساومة والتنازل عن الآخر هو تحرر منقوص. لا يمكن للمجتمع أن يتحرر إن لم يتحرر بكافة عناصره وفئاته.
يستعمل الاحتلال، كما سأوضح لاحقا، مفاهيم مجتمعيّة أبويّة كـ"الشرف والعار" ليضغط على الأسيرات والمعتقلات في محاولة ابتزاز اعترافات ومقايضة معلومات. بالتالي إن لم نحارب كلتا المنظومتين- الأبويّة والاحتلاليّة فلن نصل يوما إلى وطن حر ومحرر فعليا.
معاركنا الصغيرة ونجاحاتنا الخاصة تنعكس على العام والسياسي تتأثر منها وتُؤثر فيها، فنجاح المُحررين الستة بالخروج من النفق وإن تم اعتقالهم، خلق حالة معنويّة عامة لدى الشعب الفلسطيني وطالبي الحريّة في العالم، حالة من الشعور بالانتصار على منظومة القهر وهزيمتها والتغلب على أجهزتها المتطورة بأدوات بسيطة تسلّح أصحابها بإرادتهم وبعزمهم على التحرر، لا يمكن قهرها. كما أن تحرر أنهار الديك من سجن الدامون الإسرائيلي وولادة ابنها علاء بين أهلها، أضاف للحالة المعنويّة والعزيمة ولضرورة عدم التسليم بالسجن والأسر كأمر واقع لا يتغير.
كل إنجاز وإن كان صغيرا في حياة الأسر يُراكم ويساهم في الحالة المعنويّة العامة وفي النضال التحرري، ومن هذا المنطلق أشارك أيضا بجوانب خاصة من تجربتي مع الأسر والسجون، والتي بدأت قبل أحد عشر عاما وما زالت مستمرة.
شخصيا وبعد نضال نسوي كنت من المشاركات في قيادته في التسعينيات وتأسيس عدد من الأطر النسويّة والمشاركة بالكتابة البحثيّة حول الموضوع، ومناهضة كافة أشكال العنف، تحوّلت في العُشرية الأخيرة الى العمل القانوني بعد دراسة القانون لقب أول وثان، والتخصص في القانون الجنائي وحقوق الإنسان والأسرى ومتابعة قضايا التعذيب أثناء الاعتقال والتحقيق المخابراتي الأمني.
لم يكن دخولي عالم القانون صُدفة تامة، فحين اعتقل زوجي وحُكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات بتهم سياسيّة ما تسميه إسرائيل وتصيغه قوانينها "تهما أمنيّة"، لتضفي عليها صبغة أمنيّة وتُشرع الانتهاكات الحاصلة باسم القانون ضد الأسرى، توقفت حينها كُليّا عن العمل العلاجي، وبدأت بدراسة القانون لمعرفة كيف يعمل الجهاز القضائي والقانون وما هي الأدوات المتاحة، إن كانت متاحة للنضال القانوني وما هي العوائق.
جاءت معركتي مع هذه المنظومة في بدايتها شخصية على المستوى الشخصي، لكنّي سرعان ما دخلت هذا العالم القضاء، وبدأت بالعمل كمحامية مع ضحايا التعذيب إلى جانب استمرار نشاطي السياسي، وبدأت بزيارة السجون كمحاميّة بعد أن زرتها على مدار تسع سنوات كزوجة أسير، وتعرضت بنفسي وعائلاتي لمضايقات وتقييدات حثتني هي أيضا على دراسة القانون وتقوية مُحاججاتي القانونية وتدعيمها ونجحت بزيارة زوجي كمحامية، حدث ذلك بأشهر قبل تحرره من سجن الجلبوع.
كجزء من عملي في مجال قضايا التعذيب والأسرى أقوم بزيارة السجون والاطلاع عن قرب على قضايا الأسرى والأسيرات وألتقي بهن، خاصة الأسيرات. ليس فقط لقرب مكان سكني بحيفا من سجن الدامون -الذي يتم فيه تجميع الأسيرات والمعتقلات السياسيات- وليس فقط العمل القانوني هو ما يحركني، بل أيضا الواجب الأخلاقي الوطني ونسويتي.
خلفيتي في العمل الاجتماعي العلاجي ومفاهيمي النسوية ترافقني في زيارتي كمحاميّة لكل أسيرة. حين أزور السجون وأتحدث للأسيرات أستمع أولا لقضاياهن كنساء، لكل واحدة فيهن ككيان، كامرأة. لحق كل امرأة منهن أن تكون مختلفة، حق كل منهن أن تتحدث عن نفسها قضاياها ما يشغلها، وعن الهم الجماعي.
يصل عدد أسيرات سجن الدامون إلى 40 أسيرة ومعتقلة، عدد كبير منهن من الطالبات الناشطات في الحركة الوطنية في فلسطين، لا تتعدى أعمارهن العشرين ممن قررت إسرائيل أن نشاطهن الطلابي "غير شرعي وغير قانوني"، كونهن ينشطن ضمن "القطب الطلابي" الذي أعلنته إسرائيل تنظيما محظورا. بعضهن معتقلات لحين صدور أحكام ضدهن وأخريات صدرت أحكام ضدهن تراوحت بين ستة وسبعة أشهر (مثال الأختين أماني وصفاء جرادات) ووصل أقصاها ضد الطالبات كالحكم ضد رُبى عاصي إلى 21 شهرا.
كما تم استهداف الناشطات والقياديات السياسيات والمجتمع المدني فاعتقلت خالدة جرار وختام سعافين، ومن ثم شذى عودة من لجان العمل الصحي وأخريات، وهو ما يهدف إلى ضرب الحركة الوطنيّة وكافة مؤسساتها وتجريمها وترهيب الحركة الطلابيّة وشل نشاطها.
لا تكتفي إسرائيل بذلك، فقد قامت بشن حملة وحشيّة على الصحافيات اللاتي غطين قضية الشيخ جراح وسلوان في الأشهر الأخيرة، ورأينا كيف تم اعتقال كل من زينة الحلواني ومن ثم جيفارا البديري وتكسير كاميرات المصورين والاعتداء عليهم جسديّا، يأتي ذلك كجزء من سياسة مدروسة، إضافة لاستمرار حملة الاعتقالات التي ينفذها الاحتلال في مناطق مختلفة من فلسطين التاريخية، سواء بالضفة والقطاع أو القدس، ففي الداخل الفلسطيني وحده تم اعتقال أكثر من 2000 شخص خلال شهر واحد فقط أثناء "هبّة أيار" ضمن حملة ترهيبيّة أطلقت عليها الدولة "حملة قانون ونظام"، نتج عنها تقديم عدد كبير من لوائح الاتهام بتهم خطيرة، وما زال الكثيرون منهم رهن الاعتقال.
إن تكسير كاميرات المصورين والاعتداء على الصحافيات واحتجازهن يأتي ليخفي الحقيقة عن العالم، حقيقة ما يحدث في الشيخ جرّاح من تهجير وتوطين، بعد أن نجحت حملة التوعية والتضامن التي أطلقها منى ومحمد الكرد لتصل إلى العالم كلّه، وبعد فشل الاعلام العبري المجنّد في تغطيّة وجه الحقيقة، وفشلت إسرائيل بأن تسوّق نفسها في العالم كما اعتادت أن تفعل، على أنها الضحيّة، فتعتقل الصحافيين محاولة أن تُخرسهم.
يأتي استهداف الصحافيات خاصة كجزء من نهج وسياسة مكمّلة لما تقوم به ضد طالبات فلسطين في جامعة بير زيت وجامعة الخليل وغيرها. محاولة ترهيب النساء من الخروج للحيز العام والمشاركة في النشاط السياسي أو الطلابي، أو حتى في أداء دورهن وعملهن كما مع الصحافيات، هي سياسة تستثمر مفاهيم رجعيّة مجتمعيّة أبويّة، وهي أكبر دليل على التشابك بين الرجعيّة والاستعمار. كلاهما يبغي القمع والسيطرة. وهي ذات المفاهيم التي يحاول المحققون استعمالها والضغط على المعتقلات واستعمال مفاهيم على سبيل المثال: "بهدلتي أهلك بهذا الاعتقال"، "لن تتزوجي بعد اليوم"، "سنقوم بنشر صور كاذبة لك سيصدقها الناس"، وما إلى ذلك بهدف ابتزاز المعتقلات وكسرهن عاطفيا.
من هنا تأتي أهميّة وضرورة الدعم المجتمعي للمعتقلات والأسيرات، كي تشعر بنات شعبنا أنّه بحال اعتقالهن فإن العائلة أولا والمجتمع ثانيا يقف بجانبهن ضد الاحتلال وأدواته.
القضايا التي تشغل الأسيرات ومم يعانين؟
تتشابه قضايا الأسيرات والأسرى بكثير من الأمور من الانتهاكات التي تصل إلى حد التعذيب أثناء التحقيق والاعتقال وإلى الشروط الحياتيّة اليوميّة داخل السجن، وإلى المعاناة من "البوسطة" - شاحنة نقل الأسرى سيئة الصيت لظروفها اللا إنسانية، والمُعاناة في المعابر كما في معبر الشارون، وهي سجون مؤقتة يتم حجز الأسيرات والأسرى فيها بفترة التحقيق وهي أيضا سيئة الصيت.
لكن تبقى للأسيرات خصوصية أيضا بسبب الاختلافات الفيزيولوجية الجندريّة، حيث تتعرض الفتيات للاعتقال إما بفترة الدورة الشهرية أو تمر بها أثناء التحقيق. وتتحدث المعتقلات عن صعوبات الاعتقال أثناء هذه الفترة ليس فقط بسبب الأوجاع التي ترافق الدورة الشهرية أحيانا، لكن بسبب استغلال المُحققين ومصلحة السجون الأمر بالضغط على المُعتقلة، ومنعها من الاستحمام أو تبديل الملابس والفوط، أو إتاحتها بقدر وكمّية غير كافية، مما يضعها بشعور جسدي وصحي صعب. وهو أمر تعيه المعتقلات كما سمعت من بعضهن أنهن يصرحن للسجانات أنهن بفترة الدورة الشهرية، ويجمعن الفوط لحين حاجتها أو يتبادلنها بينهن. لكن طبعا يبقى الأمر صعبا وقاسيا.
وهناك قضية المُعتقلات الحوامل، رغم أنها قليلة نسبيا، وقلّما يحصل أن تدخل حامل الاعتقال كما حدث مع أنهار الحجة- الديك وهي قضية بحد ذاتها. فلا يقدر السجن أن يُهيئ العلاجات ولا البيئة اللازمة لا للولادة ولا لاستقبال مولود، وهي من الأمور التي حثّت برأيي مصلحة السجون الموافقة على تحرر أنهار، إضافة لعوامل أخرى نعرفها من متابعة ملفها.
وفيزيولوجيا أيضا هناك الفئة العمرية التي تعدّت الخمسين، حيث تمر النساء بهذه الفترة أيضا بتغيرات فيزيولوجية وأحيانا تحتاج لأدوية هرمونية ولفحوصات خاصة مثل فحص مبكر ووقائي لسرطان الرحم والثدي.
تتشابه قضايا المعتقلات والأسيرات الأخرى مع المعتقلين والأسرى من ظروف الأسر والعلاقة مع العائلة، والتواصل مع العالم خارج جدران السجن، والأمور الحياتية الصغيرة والكبيرة داخل السجن من تحصيل نظارة إلى تحصيل كتاب إلى الحصول على العلاج الطبي والفحوصات الطبيّة بالقدر المطلوب، والتي يخوض من أجلها الأسرى والأسيرات معارك لتحصيلها.
تبقى الأسيرات جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية ومن قراراتها، كما أبلغتني الأسيرات حين زُرتهن في الأسبوع الذي أعلن فيه الاضراب عن الطعام، قبل أن يتم تعليقه بعد تراجع مصلحة السجون عن العقوبات التي فرضتها وأعلنتها، إثر نجاح ستة من أسرى الحرية بالخروج من نفق سجن الجلبوع.