الانتفاضات العربيّة التي اندلعت بداية في تونس، نهاية العام 2010، لتمتد من المغرب إلى البحرين خلال فترة الربيع العربي، والتي تجدّدت في كل من الجزائر، والسودان، والعراق، ولبنان بين عامي 2017- 2019، عبر صيرورة ثوريّة مستمرّة، أثبتت أن القضيّة الفلسطينيّة لا تزال هي القضيّة المركزيّة للشعوب العربيّة، ليس عبر الهتافات المناصرة لفلسطين، ورفع الأعلام الفلسطينيّة إلى جانب الأعلام الوطنيّة لبلدان الربيع فحسب، بل من خلال تجسيد حقيقة وحدة المصير، التي تستوجب النضال المشترك ضد الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة الاستبداديّة على حد سواء، بدليل ديمومة المناهضة الشعبيّة الواسعة لسباق التطبيع مع العدو الصهيوني، الذي تقوده أنظمة "مدن الملح".. هذه الوحدة النضالية تجلّت في أدقّ تعبيراتها عبر كلمات المفكّر الفلسطيني-السوري الراحل سلامة كيلة "من أجل تحرير فلسطين، نريد إسقاط النظام".
يعي الشارع الأردني خطورة التطبيع والمشروع الصهيوني على الأردن نفسه
الأردن، الذي شهد امتداد موجة الربيع العربي مباشرة بعد تونس، عبر تظاهرة بلدة ذيبان في 7 يناير/ كانون الثاني 2011، يعدّ الأكثر تجسيدا لضرورة، بل وحقيقة الوحدة النضاليّة بين الشعبين الأردني والفلسطيني، وسائر شعوب الوطن العربي، حيث إن نحو نصف الأردنيّين ينحدرون من أصول فلسطينيّة، فرغم أن التقديرات الرسميّة للدولة الأردنيّة تصرّ على أن نسبة الأردنيّين من أصل فلسطيني تتراوح ما بين 35- 39%، إلا أن باحثين فلسطينيّين يؤكدون أن النسبة الحقيقيّة تصل إلى 63%. على أيّة حال، يستحيل وضع حدّ تاريخيّ فاصل بين عائلات الضفّتين الشرقيّة والغربيّة لنهر الأردن، ما يعني عمليّا أنّنا نتحدّث عن ذات الشعب، بيد أن الضرورة النضاليّة تستوجب إبراز الهويّتين الوطنيّتين، الأردنيّة والفلسطينيّة، في مواجهة مشروع الوطن البديل، الذي يهدف إلى تصفية القضيّة، ومصادرة حقّ العودة.
الفلسطينيّون الأردنيّون، في نهاية المطاف، تحدّد مصيرهم موضوعيّا في ضرورة تولّي مهمّتين نضاليّتين لا يمكن فصلهما بأي شكل من الأشكال؛ النضال من أجل الخبز والحريّة والعدالة الاجتماعيّة، لكافّة الشرائح الاجتماعيّة المضطهدة في الأردن، في سياق ثورات الشعوب العربيّة، الهادفة إلى إسقاط الرجعيّة، والنضال من أجل انتزاع حقّ العودة، ودحر المشروع الصهيوني، في سياق النضال الأممي ضدّ الإمبرياليّة. بعبارة أخرى، لا يمكن فصل النضال الوطني الأردني عن النضال المستمرّ من أجل تحرير فلسطين. حتى بالنسبة للعشائر التي سكنت شرق النهر قبل تأسيس الدولة الأردنيّة، كانت قد بلورت هويّتها الوطنيّة خلال مؤتمر أم قيس عام 1920، استنادا إلى مواجهة خطر الهجرة اليهوديّة الى فلسطين آنذاك، ومخططات احتلال الأرض الفلسطينية غرب النهر، والتي تستهدف شرقه على حدّ سواء.
فلسطين في عصب الربيع الأردني
امتدادا لهذا التصوّر الشعبي التاريخي لارتباط النضال الوطني الأردني بقضيّة فلسطين، كان من البديهي أن يكون التمسّك بحقّ العودة هو حجر الرحى الذي استندت إليه الحراكات الوطنيّة التي شهدها الأردن خلال فترة الربيع العربي. فالنضال ضدّ السياسات النيوليبراليّة في الأردن، كان في ذات الوقت نضالا ضدّ مشروع الوطن البديل، والذي يهدف في نهاية الأمر إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة. والدليل على ذلك يمكن استقراؤه حتّى في تفاصيل الصراع داخل التحالف الطبقي الحاكم في الأردن، والذي فرض على شريحة البيروقراط التمسّك بحقّ العودة، في مواجهة الليبراليّين الجدد، المتّهمين من قبل حلفائهم الطبقيّين بترجمة مشروع الوطن البديل على المستوى الاقتصادي، تمهيدا لبلورته سياسيّا. اللجنة الوطنيّة للمتقاعدين العسكريّين في الأردن عبّرت عن هذه المخاوف بشكل واضح وصريح في بيانها الشهير الذي أصدرته في الأوّل من أيّار عام 2010، والذي ربط بشكل مباشر بين السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة وبين مشروع الوطن البديل.
الفلسطينيّون الأردنيّون تحدّد مصيرهم موضوعيّا في ضرورة تولّي مهمّتين نضاليّتين؛ النضال من أجل الخبز والحريّة والعدالة الاجتماعيّة والنضال من أجل انتزاع حقّ العودة، ودحر المشروع الصهيوني
على أيّ حال، بعيدا عن أزمة التحالف الطبقي الحاكم في الأردن، وانعكاساتها على المستوى الاجتماعي ـ السياسي، كان الحراك الشعبي قد عبّر، بتجلّيات أكثر أصالة، عن وحدة النضال ضدّ التوحّش الرأسمالي النيوليبرالي في البلاد، وضدّ المشروع الصهيوني على حدّ سواء.
المرحلة الأكثر أهميّة خلال الربيع العربي في الأردن تمثّلت في هبّة تشرين عام 2012، والتي شهدت مشاركة فلسطينيّة شعبيّة واسعة في الحراك الوطني الأردني، حيث تجاوزت هذه المشاركة النخب السياسيّة إلى القواعد الشعبيّة وأبناء المخيّمات، في ظلّ ذات الشعار الذي هتفت به الجماهير العربيّة من المحيط إلى الخليج: خبز.. حريّة.. عدالة اجتماعيّة.
عشيّة هذه الهبّة، وتحديدا ليلة 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من ذلك العام، كانت القواعد الشعبيّة في الأردن تتلقّف الدعوات التي أطلقها نشطاء الحراك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للتوجّه إلى "دوّار الداخليّة" (ميدان جمال عبد الناصر)، فور الإعلان الرسمي الذي كان منتظرا من حكومة د. عبد الله النسور آنذاك، والمتعلّق برفع الدعم عن المحروقات، ورفع أسعار السلع الأساسية إلى معدلات غير مسبوقة، تلبية لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليّين. اللافت في تلك الليلة، وقبيل توجّه الناس إلى الميدان كان أربع مجموعات حراكيّة تنظّم مسيرة انطلقت من "حيّ الطفايلة" في العاصمة عمّان تحت شعار حق العودة.. هذه المجموعات هي: حراك أبناء سحاب، وحراك حيّ الطفايلة، وحركة التغيير والتحرير، إضافة إلى حراك أبناء مخيّم البقعة، الذي يعدّ أكبر مخيّم للاجئين الفلسطينيّين في الأردن. فور إعلان قرار حكومة النسور، توجّهت هذه المجموعات فورا إلى الميدان، لتلتحق بالجماهير المتوافدة، قبل أن تمتدّ التظاهرات إلى كافّة أنحاء الأردن، ليتجسّد تلازم المطالب الشعبيّة الأردنيّة والتمسّك بحق العودة وتحرير فلسطين.
القواعد الشعبيّة في مواجهة "صفقة القرن"
وحدة شعار الخبز والحريّة والعدالة الاجتماعيّة، والتمسّك بحقّ العودة، لم تقف عند حدود مرحلة الربيع العربي، حيث عادت التظاهرات للهيمنة على المشهدين السياسي والإعلامي في بدايات العام 2019، عبر حراك أبناء قبيلة بني حسن، الذي طالب بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، لتولي إجراء تغييرات دستوريّة عميقة، تحدّ من صلاحيّات القصر شبه المطلقة، وتفضي إلى تشكيل حكومات برلمانيّة تتمتّع حقّا بـ "الولاية العامّة". التحالف الطبقي الحاكم في الأردن ردّ بالطبع على هذه المطالب الشعبيّة بحملات اعتقالات تجاوزت نشطاء أبناء عشيرة بني حسن، إلى نشطاء مختلف العشائر الأردنيّة، الذين تبنّوا ذات الموقف والمطالب.
هذا الحراك الذي بقي مستمرّا حتّى بعد بدء الإجراءات الرسميّة لمواجهة جائحة كورونا، كان قد أعلن في بيان أصدره منتصف العام 2020 أن "الوقوف مع الشعب الفلسطيني العربي المسلم بحقوقه المشروعة هو واجب إسلامي عروبي قومي إنساني سام وأخلاقي".
وأضاف في ذات البيان، الذي وصف بأنّه قد "تجاوز السقوف السياسيّة"، إن "حراك أبناء قبيلة بني حسن، والحراكات الشعبية، تنادي جموع الشعب الأردني لإنقاذ أنفسكم وأموالكم وأولادكم من مخطط يعيد محاكاة نكسات فلسطين، لكن هذه المرة في الأردن.. مخطط يفكر فيه الصهاينة، وينفذه الفاسدون والمقاولون والتجّار العابرون للحدود، عبر إضعاف منظومة الدولة من خلال الاقتصاد، وإضفاء شرعيّة للاحتلال من خلال المناهج، وكسر شوكة البلد من خلال إهمال وتقليص المنظومة العسكريّة، وسحب سلاح العشائر، الرديف الشعبي للجيش.
حراك العشائر "الشرق أردنيّة"، الذي يمكن اعتباره امتدادا لانتفاضات الربيع العربي المستمرّة، كان قد تزامن مع إعلانيّ حكومة "اليانكيز" عن مشروع "صفقة القرن"، وحكومة اليمين الصهيوني حول اعتزامها ضمّ الضفّة الغربيّة وغور الأردن في العام 2020. يعني هذا باختصار أن كل العوامل الذاتيّة والموضوعيّة، تحتّم على الشعب الأردني، بكافّة مكوّناته الشعبيّة، وضع القضيّة الفلسطينيّة في أعلى سلّم أولويات مطالبه المتعلّقة بالتغيير، من أجل صنع مستقبل أفضل على المستوى الوطني الداخلي.
هذه الحقيقة تجسّدت في مختلف المحطّات الحاسمة، والتي كان أبرزها موجة التظاهرات الحاشدة التي شهدها الأردن بالتزامن مع انعقاد مؤتمر البحرين، والتي أسفرت عن اعتقال عدّة نشطاء، وخلال الغضبة الشعبيّة تحت شعار "غاز العدو احتلال"، الذي رفعه الشعب الأردني ردّا على قيام الحكومة بتوقيع اتفاقيّة استيراد الطاقة من العدوّ الصهيوني العام الماضي، وكذلك عبر مسيرات العودة المستمرّة، والتي نجح في آخرها مشاركون باجتياز الحدود إلى الأراضي الفلسطينيّة، قبل اعتقال اثنين منهم من قبل قوات الاحتلال في شهر أيّار الماضي، تزامنا مع هبّة الشيخ جرّاح في فلسطين المحتلّة. كلّ هذا لا يمكنه إلا أن يؤكد حقيقة واحدة لا تحتمل التأويل: وحدة المصير، وحتميّة النضال المشترك، شرق النهر وغربه، ومن بحر الظلمات إلى خليج المحروقات.