كطائرٍ غريب يطير بجناحين، هكذا بدا نظام الانقلاب العسكري في مصر، اعتباراً من يوليو/تموز 2013، وحتى فترة تختلف فيها تقديرات سياسيين ومحلّلين مصريين، وعرب، ومُعلّق إعلامي غربي واحد، تحدثت إليهم على مدار عشرة أيام ماضية. منهم من قال إن "الطيران بجناحين" استمر حتى عام 2015، رابطاً النهاية بالتوقيع على اتفاقية المبادئ الخاصة (بين مصر وإثيوبيا والسودان)، والتي رأى القطاع الأغلب من المصريين أنها بداية التكريس الفعلي للتنازل عن حقوق مصر في النيل، والسماح لإثيوبيا بالسرعة غير المتوقعة، مصرياً وسودانياً على الأقل، في إنجاز سد النهضة. ومنهم من اقتصر الفترة على عام واحد فقط، انتهى بإعلان وزير الدفاع وقتها، عبد الفتاح السيسي، ترشحه لمنصب الرئاسة، بالمخالفة لما سمّاه أكثر من مصدر، اتفاقاً بين قوى 30 يونيو على عدم ترشحه، هو بالذات، أو حتى غيره، للمنصب.
الاستثناء الوحيد الذي رأى أن الفترة كانت أكثر طولاً من ذلك، انفرد به محلل سياسي عربي، قال إنه "حتى عام 2016، كان يمكن الحديث عن تماسك معسكر 30 يونيو داخلياً، بما يسمح للنظام بشيء كثير من الثقة في الاستمرار لفترات أطول".
يراهن النظام على الغضب الشعبي ويستخدمه لاستجلاب القروض
ويتفق الجميع، على نقطة واحدة، حدّ التطابق، وهي أن النظام المصري الحالي يعتمد حصراً الآن على جناح واحد فقط، هو الخارج، بعدما انكسر، أو كسر هو جناحه الداخلي بإجراءات سياسية، واقتصادية، وتشريعية متتالية.
يعدّد سياسيان مصريان، أحدهما لم يكن لديه مانع في التعايش مع نظام الثالث من يوليو 2013، والآخر رافض لفكرة الانقلاب العسكري من المبدأ، وهو أيضاً لم يكن راضياً عن الفترة القصيرة التي حكم فيها الرئيس الراحل المنتخب محمد مرسي، الأسباب والمظاهر، التي تؤكد أن النظام الحالي لم يعد لديه إلا الجناح الخارجي الذي يمكن أن يطير به بعض الوقت، والذي يختلفان في تقديره. ويمكن تلخيص هذه المظاهر والأسباب في خمس نقاط، أبرزها ما يلي:
السياسات المالية والاقتصادية الفاشلة للنظام المصري
السياسات الاقتصادية والمالية الفاشلة التي اتبعها النظام، تعمق أزمته أكثر من أي وقت مضى، وقد وصلت إلى مرحلة الخطورة الحقيقية عليه، من تحول الغضب الشعبي، المعلن منه عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، والمكتوم في صدور ملايين الفقراء والمعدمين في المدن، بما فيها الكبرى، القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات والقرى، إلى انفجار شعبي هائل لا يستطيع أحد أن يحدد موعده ولا مظاهره، ولا المدى الذي يمكن أن يصل إليه. والأكثر خطورة من هذا، النتائج المجتمعية والسياسية التي يمكن أن تحدث.
يقول أحد المصدرين إن النظام يدرك هذا جيداً، بل ويستخدمه، ويتلاعب به، ويراهن عليه في استجلاب القروض والمنح والمساعدات من بعض الحلفاء الإقليميين والدوليين. ويتفق المصدران على أن ذلك لم يحدث في تاريخ مصر، بل وربما في دول ما يسمى العالم الثالث، أن ينال نظام حكم كل هذا الدعم المالي، لا لشيء سوى ليبقى.
يشرح المصدر نفسه أكثر، فيشير إلى أن لهجة رأس النظام تغيرت، من استخدامه للعبارة الشهيرة "مش أحسن ما نبقى زي سورية والعراق"، إلى التلويح المتكرر، سرّاً وعلانية، بموجات من النزوح والهجرة غير النظامية للملايين إلى أوروبا، وأخيراً التلويح عبر إعلاميين ينسق معهم، في إشارة للصحافي عماد الدين أديب، بأن هذه الموجات يمكن أن تصل أيضاً إلى دول عربية خليجية عبر شواطئ البحر الأحمر. والأقرب هنا هي الإشارة إلى السعودية، بطريقة لا يمكن تفسيرها إلا بأنها ابتزاز واضح وصريح.
ويرجح المصدر أن تستمر "لعبة الابتزاز"، كما يسميها، لفترة طويلة مقبلة، بسبب المتغيرات الإقليمية والدولية المساعدة على نجاحها. فالعالم مشغول الآن، بحسب المصدر، ولفترة مقبلة ربما تطول، بأحداث وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وما سببته من كوارث تتعلق بنقص المواد الغذائية، والارتباك الشديد في إمدادات الطاقة لأميركا وأوروبا، ومناطق أخرى أشد فقراً وحاجة في العالم. ويجعل كلّ ذلك من "تسكين الآلام"، وعدم فتح جراح جديدة، الحل الواقعي الوحيد المتاح حالياً.
خطورة اللعب على صراع الأقطاب
ويتفق المصدر الغربي مع السياسيين المصريين في نقطة ثانية، فيشير إلى أن فكرة إحياء وجود قطبين، أو أكثر، وبالتالي معسكرين، أو أكثر، تتحكم في العالم سياسياً وجغرافياً، تبدو مرعبة بالنسبة لأميركا والغرب، والنظام في مصر، ومعه بعض حلفاء في الإقليم. ويدرك هؤلاء، برأيه، ذلك جيداً، ورغم قدراتهم المحدودة نوعاً ما على المناورة واللعب في هذه المساحة، لخطورة نتائجها الشديدة، فإنهم، أي النظام المصري وحلفاءه، يمكنهم أن "يلعبوا لبعض الوقت" في هذه المساحة، اعتقاداً أنها تُطيل فترة البقاء، أو الاستقرار، بالنسبة إليهم.
هامش اللعب في مساحة "حلف إسرائيل"
أما ثالث نقطة يركز عليها مصدر سياسي مصري، وآخر عربي، فهي ما يتعلق بالسعي الأميركي، أولاً، ثم الأوروبي بدرجة يتفقان على أنها أقل كثيراً، نحو دمج الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة العربية، والإقليم كلّه، بل والسعي لكي تكون إسرائيل القائدة لحلف لا يمكن الانفكاك منه بسهولة، عبر اتفاقيات وتفاهمات عسكرية معلنة، للمرة الأولى في التاريخ، واقتصادية، ومجتمعية. وفي هذه النقطة تحديداً، تختلف المصادر المصرية حول أي مدى يمكن أن يقدم عليه ويصل إليه النظام المصري في فكرة الحلف الصهيوني/العربي. ذلك أن ثمة معارضة تبدو قوية حتى الآن داخل المؤسسة العسكرية المصرية، بل وربما في دوائر أخرى قريبة من النظام وداعمة له، لفكرة الانضمام إلى حلف يقوده الكيان الذي لا يزال يعرف في الأدبيات العسكرية المصرية التقليدية، بأنه "العدو الاستراتيجي لمصر".
وهنا أيضاً، بحسب المصدرين، يجد النظام المصري بعض الفرص، لبعض الوقت، في اللعب خلال هذه المساحة، بين الإعلان، ولو كان متردداً عن قبول فكرة التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية، استرضاء للولايات المتحدة الأميركية، وأحياناً للضغط عليها بمساعدة الإسرائيليين، ومحاولة أن يسبق حلفاء إقليميين، النظام الإماراتي بالأساس، ثم السعودي بدرجة أقل، بخطوة في التنسيق، والتحالف مع الاحتلال. ولا شك أنه هنا يملك من عوامل الجغرافيا، والتاريخ، والسياسة، ما يمكنه من أن يظل في موقع أكثر أهمية وقوة.
يلعب النظام على توازنات العلاقة بين أميركا وإيران
ويتفق أكثر من مصدر، تحدثت إليهم "العربي الجديد"، على خطورة، بل وهشاشة هذا البناء أيضاً، لسبب جوهري: فالمعلن من أهداف السعي لبناء هذا الحلف بالأساس، وبغض النظر عن النوايا والأهداف الأخرى، هو مواجهة إيران؛ لكن السؤال الذي تفرضه التحركات، والاجتماعات، المعلنة، وغير المعلنة حتى اللحظة، هو هل هناك سعي أميركي لمواجهة مع إيران من الأساس؟
يجيب أحد المصدرين، أنّ ما سببته الحرب الروسية على أوكرانيا، والموقف السعودي المتردد في مسألة إمدادات الطاقة، يجعل، بحسب رأيه، الاتفاق الأميركي - الأوروبي، مع إيران، أكثر احتمالاً، وأقرب من أي وقت سابق.
وهنا تبدو مناورات النظام في مصر متاحة، لكنها أقل من أي وقت مضى في اللعب بتوازنات العلاقة مع أميركا، وحلفاء الإقليم، الخليجيين منهم، والإسرائيليين، من جهة، وإيران من جهة ثانية؛ لأنها غير مأمونة العواقب بسبب التقلبات الحادة والسريعة في هذا الملف، وكذلك بسبب دخول الأطراف كافة، بشكل أو بآخر، وبتفاوت في درجات القوة، في تفاهمات مع إيران، عبر الحدائق الخلفية، ما أخفي منها، وما أعلن.
الاهتمام العالمي بأوضاع دول الجوار
أما رابع المؤشرات، التي ترجح انحصار رهان النظام المصري على الدعم الخارجي، فتتأتى من الاهتمام العالمي الكبير، رغم خفوته أحياناً، بالوضع في دول الجوار اللصيق بمصر، وفلسطين، والسودان، وليبيا. فالملفات في هذه الدول شديدة الخطورة والحساسية للعالم كله، والدور المصري، ومهما كانت السلطة الحاكمة فيه، مرشح دوماً للتأثير فيها، بدرجة تزيد، أو تقل، حسب إدراك النظام وإدارته للملفات؛ لكن التأثير موجود، ومطلوب دائماً. فالضغط على حركة "حماس"، أو التنسيق معها في قطاع غزة، متاح، والتنسيق مع، أو التقاطع مع تركيا وفرنسا وإيطاليا، بل وروسيا، وغيرها من اللاعبين المؤثرين في الملف الليبي، متاح أيضاً. وعلى الرغم من خفوت الدور المصري في مجريات الأحداث بالسودان، إلا أنه يبقى حاضراً، للاستفادة منه في إطالة عمر النظام.
صعوبة إصلاح العطب في الداخل
في موازاة ذلك، تتناول ثلاثة مصادر، قضائية وبرلمانية سابقة واقتصادية، مؤشراً خامساً على الرهان الخارجي، فتتفق على أن إصلاح الخلل، والعطب الذي أصاب قوى الانقلاب في مصر، وصل إلى درجة بات النظام معها مقتنعاً بما يشبه استحالة علاجها. فترسانة التشريعات والقوانين التي أقرها، لم تعد تعطي فرصة للتراجع عن استبعاد كل المؤيدين، أو حتى المتأرجحين بين التأييد والمعارضة في دعم النظام، وفشل السياسات الاقتصادية أصبح من المستحيل معه، ومع نتائجه الكارثية على القطاعات الأوسع من المصريين، استعادة أي تأييد شعبي، حتى من الذين لم يؤيدوا الثورة، وعارضوا حكم الرئيس الراحل محمد مرسي. وعلى المستوى السياسي، فقد النظام تماماً ثقة من أيدوه ودعموه ممن يطلقون على أنفسهم "القوى المدنية". والنظام يدرك هذا جيداً، ويدرك معه أيضاً، أن كثيراً من هذه القوى فقدت بدورها ثقة مؤيديها، فأصبحت بلا تأثير حقيقي يعول عليه أو يخاف منه النظام، وكل هذا يجعله ينظر إلى الخارج، ويراهن عليه حصراً، ولو إلى حين.
ويتفق أكثر من مصدر على أنه ليس في وسع أحد، حتى داخل النظام المصري الحالي نفسه، تقديم إجابة واضحة محددة على هذا السؤال، لأنه يتعلق بسياسات نظم حكم، ودول أخرى لها حسابات متباينة، ومصالح قد تتغير سريعاً، أو بعد وقت يطول. وهذه النظم الأخرى، بعضها يواجه مأزقاً يجعل من استمرارها في حكم بلادها محل شك، وتساؤلا؛ لكن المؤكد أيضاً، أن رهان نظام الانقلاب في مصر على الخارج حصراً، قد يكون فيه نجاته لبعض الوقت، وقد يكون في ذلك نهايته أيضاً.