انتصار ناقص لإيمانويل ماكرون برئاسيات فرنسا: اليمين المتطرف يثبت شرعيته شعبياً

26 ابريل 2022
أكد ماكرون أنه فهم رسالة الفرنسيين رغم فوزه (جان كاتوف/Getty)
+ الخط -

طوت فرنسا، أول من أمس الأحد، صفحة انتخاباتها الرئاسية الـ12 في عهد الجمهورية الخامسة، بانتصار "واضح" للرئيس الشاب إيمانويل ماكرون، على منافسته من اليمين المتطرف، مارين لوبان.

ومنذ مساء الأحد، انتقلت المعركة الديمقراطية سريعاً في البلاد، بعد خطاب الرئيس الفائز، ومنافسته الخاسرة للمرة الثانية في الدورة الثانية من الرئاسيات، إلى "الدورة الثالثة" من الانتخابات. كما يخشى أن تكون عليه الانتخابات التشريعية المرتقبة في يونيو/حزيران المقبل، وهو استحقاق مهم للرئيس الفائز، لا سيما منذ أن أصبح يجري مباشرة بعد الرئاسيات بدورتيها، إثر تقليص ولاية الرئاسة إلى خمس سنوات بدل سبع.

وستختبر الانتخابات التشريعية المقبلة، المنتظرة بدورتين أيضاً في 12 و19 يونيو، الأحجام الحقيقية في البرلمان لكل من الأقطاب الثلاثة الجدد في المشهد السياسي الفرنسي، والذين أفرزتهم رئاسيات 2022، وهم: حزب ماكرون، "الجمهورية إلى الأمام"، و"التجمع الوطني" اليميني المتطرف بزعامة لوبان، واليسار الراديكالي (فرنسا الأبية)، الذي يقوده جان لوك ميلانشون.

وإذا كان من الصعب الحديث عن إمكانية فقدان ماكرون للأغلبية البرلمانية التي حصل عليها حزبه الناشئ حديثاً في عام 2017، إلا أن أرحجية قدرة الحزبين الآخرين، "التجمع الوطني" واليسار الراديكالي، على توسيع نفوذهما في الجمعية الوطنية، سيكون من شأنها أن تفتح الباب خلال ولايته الثانية أمام جبهة معارضة شرسة لسياساته على كل الصعد، لوّحت لوبان بأن تكون قوة "موزاية"، وهو ما تعهد به ميلانشون أيضاً.

ويتخطى التحدي الأكبر للرئيس تفصيل الانتخابات التشريعية، بل يرتبط ببعده الوطني، إذا ما كان صادقاً بتلاوة "فعل الندامة" في خطاب الانتصار الأحد.

وتقع على عاتق ماكرون محاولة ترميم الانقسامات الفرنسية التي طبعت هذه الدورة الانتخابية الرئاسية، والتي هي حصيلة تراكمات رئاسية منذ عهد نيكولا ساركوزي، وتعاظمت مع الرئيس الفائز، وكادت في هذه الدورة أن توصل اليمين المتطرف إلى الحكم.

يرفض ماكرون التعايش مع حكومة يشكلها سياسي من حزب آخر، لكنه مستعد لتوسيع تحالفاته وتشكيل حكومة منوعة حزبياً

فعلى الرغم مما يرى فيه الإعلام الفرنسي، "وعياً سياسياً شعبياً" جنّب فرنسا السقوط في فخّ اليمين الراديكالي، أو أن تحظى القارة الأوروبية بأول رئيسة "ترامبية"، إلا أن لغة الأرقام والسياق السياسي - الاجتماعي الداخلي الذي حوّل لوبان إلى مرشحة "عادية"، جعل انتصار ماكرون فوزاً بطعم الخسارة، بحيث أضحى تصحيح أخطاء الولاية الأولى للرئيس المنتخب مجدداً، مشروعاً ليس فقط سياسياً، بل "واجباً وطنياً".

فوز ماكرون... تصويت لقطع الطريق على لوبان

وأثبتت فرنسا، مجدداً، أنها لا تزال عصية على اليمين المتطرف، بعدما حظي ماكرون، الذي يمثل وحزبه التيار الوسطي الليبرالي، بتصويت لإعادة انتخابه رئيساً في الدورة الثانية لانتخابات الرئاسة، لقطع الطريق على وصول حزب "التجمع الوطني" إلى الإليزيه.

وجاء انتصار ماكرون في الانتخابات، بلغة الأرقام، استثنائياً وواضحاً، ويعكس نجاحاً سياسياً وشخصياً لوزير الاقتصاد السابق عن الحزب الاشتراكي، الذي تمكن من الوصول إلى الإليزيه في سنّ الـ39 وحمل حزبه الفتي إلى الرئاسة والأكثرية في البرلمان في 2017.

لكنه جاء أيضاً "هشّاً"، إذا ما أخذ في عين الاعتبار تمكينه "التجمع الوطني" من تخطي عتبة الـ40 في المائة في الرئاسيات للمرة الأولى منذ مشاركته في هذا الاستحقاق عام 1974.

يضاف إلى ذلك حجم الامتناع القياسي عن التصويت في الدورة الثانية من الرئاسيات، والذي سجّل الأحد 28.2 في المائة، وهو الأعلى على الإطلاق منذ عام 1969، حين سجلّت نسبة امتناع وصلت إلى 31.15 في المائة.

وتعكس نسبة الامتناع الأحد، ليس فقط استمرار تململ وتيرة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، والتي توصف بأنها "ملكة الانتخابات في فرنسا"، منذ إعادة انتخاب جاك شيراك رئيساً في 2022، بل امتناع كتلة وازنة من الفرنسيين عن التصويت لماكرون، ولو لقطع الطريق على اليمين المتطرف، ما يؤكد بقاء تصويت "الصدّ الشعبي" لعائلة لوبان، لكن مع تراجعه عن الاستحقاقين السابقين في 2002 و2017.

عائلة لوبان تتخطى الـ40 في المائة بالرئاسيات

وبحسب آخر النتائج، فقد فاز ماكرون بحصوله على 58.54 في المائة من الأصوات، مقابل 41.46 في المائة للوبان، ليكون بذلك أول رئيس فرنسي يعاد انتخابه لولاية ثانية، منذ فوز شيراك في 2002 على والد مارين لوبان، جان ماري لوبان، بالدورة الثانية، والأول الذي يعاد انتخابه رئيساً من خارج فترة "التعايش الحكومي" (cohabitation)، أي من دون أن يكون رئيس حكومته من حزب مختلف.

وفي الواقع، فإن ماكرون هو ثالث رئيس فرنسي ينتخب مرتين في عهد الجمهورية الخامسة، بعد شيراك (اليمين)، وفرانسوا ميتران (الاشتراكيين)، علماً أن شارل ديغول، الذي حكم لولايتين، لم ينتخب في المرة الأولى بالاقتراع الشعبي العام. كما أن ماكرون حصل على أعلى نسبة تصويت لرئيس يعاد انتخابه في الدورة الثانية، إذا ما استثني شيراك الذي حصل في انتخابات 2002 على 82.21 في المائة، بمواجهة جان ماري لوبان، حين شكّلت "الجبهة الجمهورية" لصد اليمين المتطرف ما يشبه التسونامي لمنع وصول لوبان الأب إلى الحكم.

من جهتها، أخفقت لوبان هذه المرة في استغلال تليين خطابها السياسي من جهة، والعمل لفكّ الشيطنة عن حزبها شعبياً وسياسياً، للوصول إلى الإليزيه، لكنها حقّقت فوزاً تاريخياً، بجعل "التجمع الوطني" (الجبهة الوطنية سابقاً)، يتخطى عتبة الـ40 في المائة للمرة الأولى منذ مشاركته في الرئاسيات.

ثماني دورات رئاسية لعائلة لوبان

وشارك حزب عائلة لوبان، في 8 انتخابات رئاسية منذ 1974، وكان قبلها قد حصل اليمين المتطرف ممثلاً بتيكسييه فينياكور على 5 في المائة من أصوات الناخبين في الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة عام 1965.

وحصل جان ماري لوبان على 0.75 في المائة من الأصوات بالدورة الرئاسية في عام 1974، ثم على 14.38 في المائة (1988)، و15 في المائة (1995)، إلى أن انتقل إلى الدورة الثانية من الرئاسيات عام 2002، بحصوله على 16.82 في المائة من الأصوات، متخطياً ليونيل جوسبان عن الحزب الاشتراكي (حصل على 16.18 في المائة)، ومنتقلاً إلى الدورة الثانية مع الرئيس جاك شيراك، الذي فاز عليه بالدورة الثانية بحصوله على 82 في المائة، مقابل 17.79 في المائة للوبان الأب.

وفي عام 2007، تراجع لوبان الأب في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، وحصل على 10.44 في المائة من الأصوات (صعد كل من نيكولا ساركوزي وسيغولين رويال إلى الدورة الثانية).

وترشحت مارين لوبان في 2012 للرئاسة، بعدما أزاحت والدها عن زعامة الحزب، وحصلت في الدورة الأولى آنذاك على 17.90 في المائة من الأصوات، دون أن تنتقل إلى الدورة الثانية (تأهل كل من فرانسوا هولاند وساركوزي).

لكن لوبان عادت لتحمل حزبها إلى الدورة الثانية قبل 5 أعوام، بتأهلها مع ماكرون (21.30 لها مقابل 24.01 في المائة لماكرون بالدورة الأولى).

وشهدت الدورة الثانية من رئاسيات 2017 فوز منافسها بالرئاسة، بحصوله على 66.10 في المائة من الأصوات، مقابل 33.90 في المائة لها. وتأهلت لوبان مع ماكرون إلى الدورة الثانية هذا العام أيضاً، بعدما حصلت على 23.15 في المائة من الأصوات، مقابل 27.85 في المائة لماكرون.

واعتبرت لوبان (53 عاماً)، الأحد، أن ما حصدته من أصوات في الدورة الثانية، يشكل "انتصاراً مدوياً"، إذ كسبت بحدود 3 ملايين ناخب إضافي عن 2017 (أكثر من 15 مليون فرنسي صوّتوا لها). 

وتعهدت بـ"مواصلة" مسيرتها السياسية، وبأنها "لن تتخلى أبداً" عن الفرنسيين. وقالت إنه "في إطار إعادة التشكل الكبير للمشهد السياسي الفرنسي، فإن اللعبة لم تنته بعد"، معلنة انطلاق "المعركة الكبرى" للانتخابات التشريعية.

قفزة اليمين المتطرف وحظوظ ماكرون في البرلمان

وتمنح هذه القفزة لليمين المتطرف، والتي لم تتأثر للمفارقة بالاتهامات الموجهة إلى لوبان بالحصول على الدعم السياسي والمالي من روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، وذلك في عزّ الحرب الروسية على أوكرانيا، أملاً قوياً بإمكانية تحسين موقعه في الانتخابات التشريعية المرتقبة.

ولا يملك "التجمع الوطني" في البرلمان الحالي سوى 8 مقاعد، لكن لوبان أكدت أن "النتائج التاريخية في الرئاسيات تجعل قوة الحزب في موقع ممتاز للحصول على عدد كبير من النواب، وإنشاء سلطة معارضة قوية لسلطة ماكرون".

ولم تشر لوبان إلى منافسها في اليمين المتطرف إريك زيمور (حصل على 7 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى)، لكنها أكدت "أنها مستعدة لخوض المعركة مع كلّ المستعدين للتجمع للوقوف في وجه ماكرون".

وسيكون على لوبان ترجمة تقدم حزبها في الرئاسيات، وتصدره في المناطق الريفية، لاسيما في الشمال الشرقي، بالإضافة إلى النتائج الجيّدة في بعض مناطق ما وراء البحار، عبر استمرار الاستثمار في النقمة الشعبية لفقراء فرنسا على "رئيس الأغنياء" وعلى "المهاجرين الذين يسرقون فرص عملهم".

ومن المبكر التنبؤ بالنتيجة التي يمكن أن يحصل عليها حزب "التجمع الوطني" في الانتخابات التشريعية المرتقبة،  علماً أن الحزب الذي يحصل على الأكثرية البرلمانية هو من يسمي رئاسة الحكومة.

أخفقت لوبان هذه المرة في استغلال تليين خطابها السياسي من جهة، والعمل لفكّ الشيطنة عن حزبها شعبياً وسياسياً

من جهته، يرفض ماكرون، بحسب ما تؤكد معطيات الإليزيه، والتي تناقلتها الصحف الفرنسية أمس، رفضاً قاطعاً التعايش مع حكومة يشكلّها سياسي من حزب آخر، لكنه تعهد في خطاب الفوز بأن يكون رئيساً لكل الفرنسيين، علماً أنه سيباشر العمل للحصول على "أغلبية موسعة" في البرلمان، وتوسيع التمثيل الحزبي في الحكومة المقبلة.

وبإمكان ماكرون أن يضمن على الأرجح أغلبية في البرلمان (يهيمن حزبه على البرلمان الحالي بـ345 نائباً من أصل 577)، إذ يعتبر أن قوة المركز الوسطية أو ما يسمى بـ"العجول الانتخابية"، ستكون أيضاً حاضرة، لتعبيد الطريق أمام فترة ولايته الثانية.

لكنه قد لا يضمن حصوله على ذات عدد المقاعد الذي فاز به حزبه في 2017، علماً أنه فاز بـ20 دائرة انتخابية إضافية في رئاسيات العام الحالي، مقارنة بـ2017. لكن الرئيس مستعد أيضاً لفتح الباب أمام الحلفاء، لترجمة دعوته بعد صدور نتائج الدورة الأولى في 10 إبريل/نيسان الحالي، إلى "حركة كبيرة للتوحد".

ويأتي ذلك على الرغم من توجه أعين بعض "حلفائه" منذ الآن إلى رئاسيات 2027، ما قد يجعله مضطراً لتقديم التنازلات. كما يرتبط ذلك بالأسماء "المفاتيح" الموعودة بمقاعد وزارية، وببعض خلافاته خلال الولاية الأولى مع التيارات الوسطية من "موديم" إلى "أوريزون".

وبعيداً عن لغة التحالفات الضيّقة والدقيقة، يعكس فوز ماكرون حجم التحديات الوطنية التي تنتظره في الولاية الثانية، وهو ما تعهد بمعالجته. ويأتي ذلك خصوصاً كتحدٍ شخصي للرجل، الذي يفترض أن يغادر الإليزيه من دون أن يكون قد تخطى الـ50 من عمره.

ويحظى ماكرون بفرصة كل شيء أو لا شيء، كما يقول الإعلام الفرنسي، حيث تبدو الأبواب مشرعة حتى لعودته إلى عهد رئاسي ثالث بعد 10 سنوات. إلا أنه أيضاً قد لا يمكنه فعل أي شيء، إذا ما خسر تحالفاته في البرلمان، ما يجعل فرنسا تدخل مرحلة سياسية غامضة، وحكمه في مرحلة "البطة العرجاء"، ما يهدد بالدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة.

وإذ تنتقل فرنسا من عهد رئاسي كان حافلاً بالاضطرابات، وبتداعيات كورونا التي قد تكون السبب المباشر في هذا الصعود التاريخي لليمين المتطرف، فإن الرئيس يفتتح ولايته الثانية باستمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، ما يضع فرنسا أمام منعطف حرج على الصعيدين السياسي والاقتصادي، والذي قد يترجم باستمرار الغضب الشعبي وحالة الاحتقان الداخلية ضد سياسات الرئيس غير الشعبية.

وفيما يسود الارتياح لدى النخبة الأوروبية لانتخاب ماكرون، فإن الرئيس الذي يتحمل جزءاً من مسؤولية صعود تيار "السيادية" السياسي في فرنسا، سيبقى خلال السنوات الخمس المقبلة أسير انتصار يخشى أن يكون مقدمة لانقلاب في فرنسا.

 

المساهمون