تأتي زيارة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لكلّ من فنلندا والسويد، أمس الأربعاء، في سياق موقف المملكة المتحدة من الغزو الروسي لأوكرانيا، وكانت في مقدّمة الردّ الغربي عليه. كذلك دشّن جونسون في الزيارتين التحوّل الكبير في سياسة "عدم الانحياز" التي اعتمدتها الدولتان على مدى عقود.
وكما كان متوقعاً، أعلن، اليوم الخميس، الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو، موقفه "الشخصي" المؤيّد للانضمام إلى حلف الناتو "من دون أي تأخير". وكانت لجنة الدفاع في البرلمان قد وصفت هذه الخطوة قبل يومين بـ"الحلّ الأفضل لأمن فنلندا"، في وقت يتوقع فيه أن يعلن حزب رئيسة الوزراء سانا مارين، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، قراره بعد غد السبت.
تتقاسم فنلندا حدوداً تصل إلى 1300 كيلومتر مع روسيا، إلا أن عضويتها في الناتو ستضاعف تلك الحدود البرية إلى ما يقارب 2600 كيلومتر.
وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن اعتبر أي توسّع في حلف شمال الأطلسي (ناتو) تهديداً لبلاده، محذّراً كلاً من السويد وفنلندا من "عواقب عسكرية وسياسية" لو خرقتا سياسة "عدم الانحياز".
وفيما قد يظهر الغزو الروسي، الذي يردّ بوتين أحد أسبابه إلى التقارب الأوكراني - الغربي، عائقاً أمام أي نيّة لتوسيع التحالف باتجاه الشرق، إلا أنه في العمق شكّل دافعاً لتلك الدول لاتّخاذ خطوات استباقية لحماية حدودها، بعدما "أبدت روسيا استعدادها لغزو بلد مجاور"، على حدّ تعبير نينيستو خلال لقائه بجونسون. مضيفاً أن "الانضمام إلى الناتو لن يكون ضدّ أحد".
يبدو أيضاً أنّ تحذيرات موسكو المتزايدة، وخطاب التهديد الذي انتهجته لاحقاً، عزّزت قرار الدولتين الإقدام على تلك الخطوة، وسط إجماع استثنائي يعبّر عن آثار الغزو الروسي التي امتدّت إلى كل رقعة من الخريطة الأوروبية.
فعلى الرغم من التهديدات الروسية، شهدت فنلندا والسويد تحوّلاً سريعاً في الرأي العام مباشرة بعد بدء الغزو الروسي في 24 فبراير/ شباط الماضي. أظهر استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة والتلفزيون الفنلنديةYle مباشرة بعد الغزو الروسي أنّ 53% من الأشخاص في فنلندا يؤيّدون الانضمام إلى حلف الناتو، معتبرة أنّ الاستطلاع يمثّل "تغييراً تاريخياً"، حيث ارتفع التأييد بنحو 34% منذ عام 2017. بينما يُظهر الاستطلاع الأخير الذي أجرته قبل يومين نسبة التأييد، وقد وصلت إلى 76%! وتقول الهيئة، في بيان تفصيلي نشرته على موقعها، إن أنصار حزب الخضر وأنصار حزب الفنلنديين المعارض توافقوا للمرة الأولى على قضية ما، والقضية هنا هي الانضمام إلى حلف يقي شرّ روسيا.
وإن كانت نسبة التأييد في السويد أقل منها في فنلندا، إلا أنها شهدت ارتفاعاً سريعاً أيضاً منذ بداية الغزو، مع وصول نسبة التأييد اليوم إلى نصف إجمالي عدد السكّان. وما يعطي نسبة التأييد المتمهّلة في السويد دفعاً إضافياً، أن استوكهولم عُرفت تقليدياً بالخوض في نقاشات طويلة قبل الوصول إلى إجماع حول القضايا الأساسية.
كما وقع رئيس الوزراء البريطاني مع الجانبين السويدي والفنلندي "اتفاقيات حماية" مشتركة، في خطوة استباقية لحماية البلدين فيما يخاطران باستفزاز الجانب الروسي عبر محاولتهما الانضمام إلى الحلف. وتنصّ "الاتفاقيات الأمنية التاريخية" تلك على أن تقدّم المملكة المتحدة المساعدة لكلا البلدين في حال تعرّضهما للهجوم، والعكس بالعكس إذا ما تعرّضت المملكة المتحدة لأي ضربة محتملة.
وفي حين لم يكن الغزو الروسي على أوكرانيا مفاجئاً بالنسبة لبريطانيا وللولايات المتحدة، اللتين حذّرتا من عواقبه قبل أشهر عبر أجهزة استخباراتهما، لكنه كان بمثابة "دهشة" متأخرة بالنسبة إلى دول أوروبية عديدة، لا سيما فرنسا وألمانيا، ما فرض قواعد جديدة للتعامل مع أي خطر محتمل من الجانب الروسي.
وكما دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أكثر من مناسبة لاتخاذ "خطوات استباقية"، خاصة في موضوع العقوبات، حرصت العديد من الدول على اتّخاذ مثل هذه الخطوات، ما دفع فنلندا والسويد لإجراء محادثات مكثّفة خلال الأسابيع الأخيرة سعياً للحصول على ضمانات من الدول الأعضاء في الناتو لحمايتهما في انتظار العضوية الكاملة. خاصة أن هذه الخطوة "الاستفزازية" ستدفع بوتين لمزيد من التهديدات، بما فيها التهديد بشن هجوم نووي.
روسيا تحذر
واعتبر الكرملين، اليوم الخميس، أنّ انضمام فنلندا المجاورة إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) سيمثّل "بالتأكيد" تهديداً لروسيا.
وقال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف للصحافيين إنّ "توسيع الناتو واقتراب الحلف من حدودنا لا يجعل العالم وقارتنا أكثر استقراراً وأمناً". وفي ردّه على سؤال عمّا إذا كانت موسكو ترى في الخطوة تهديداً، قال: "بالتأكيد". وأضاف: "سيتوقف كل شيء على كيفية سير هذه العملية، وإلى أي حد ستتحرّك البنى التحتية العسكرية باتّجاه حدودنا".
ترحيب "حارّ" من الناتو "ودعم كامل" من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة
وفي مقابل ردّ الكرملين المتوقع على موقف فنلندا الجديد، جاء الترحيب "حاراً" من قبل الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ، مشيراً إلى أن العملية ستكون "سلسة وسريعة".
وفي السياق أيضاً، وعد المستشار الألماني أولاف شولتز، اليوم الخميس، بـ"دعم كامل" من ألمانيا لمسعى فنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وكتب شولتز على "تويتر": "أرحّب بقرار فنلندا تأييد الانضمام الفوري للبلاد إلى حلف شمال الأطلسي. في اتصال هاتفي مع الرئيس (ساولي) نينيستو أكدت لفنلندا دعم الحكومة الألمانية الكامل".
Ich begrüße die Entscheidung Finnlands, sich für einen unverzüglichen Beitritt des Landes zur @NATO auszusprechen. In einem Telefonat mit Präsident @niinisto habe ich #Finnland die volle Unterstützung der Bundesregierung zugesichert.
— Bundeskanzler Olaf Scholz (@Bundeskanzler) May 12, 2022
كما أعلن الإليزيه، اليوم الخميس أيضاً، أنّ فرنسا تدعم بالكامل عزم فنلندا على الانضمام الى حلف شمال الأطلسي.
وقالت الرئاسة الفرنسية إثر تشاور بين الرئيس إيمانويل ماكرون ونظيره الفنلندي ساولي نينستو إنّ "رئيس الجمهورية أوضح أن فرنسا تدعم بالكامل الخيار السيادي لفنلندا على صعيد الانضمام سريعاً إلى حلف شمال الأطلسي".
ومساء الخميس، قال البيت الأبيض، إنه سيدعم أي تحرك من جانب فنلندا والسويد للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي رداً على غزو روسيا لأوكرانيا. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي للصحافيين "سندعم أي طلب تقدمه فنلندا و/أو السويد للانضمام لحلف شمال الأطلسي، في حالة تقديمه".
ورغم "الترحيب الحار" من الناتو و"الدعم الكامل" من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، إلا أن عملية الانضمام إلى الحلف قد تستغرق أشهراً، أو حتى أعواماً، في انتظار تصديق طلب العضوية من جميع أعضاء الناتو البالغ عددهم ثلاثين. وبالتالي، قد تحمل "اتفاقيات الحماية" تلك بعداً رمزياً ينطوي على إعلان "التضامن السياسي" من الجانب البريطاني مع الدولتين، كما ورد في وثيقة الإعلان، ما قد يكون غير كاف وحده لحمايتهما من ردّ فعل انتقامي من الجانب الروسي. لأن هذا "التضامن السياسي" ليس ملزماً بموجب القانون الدولي.
من جهة أخرى، لا تعتبر "اتفاقيات الدفاع" المتبادلة تلك، بالضرورة، بديلاً عن المادة الخامسة التي تشكّل في الناتو "حجر الزاوية" وتنصّ على أن أي هجوم على إحدى الدول الأعضاء هو هجوم على جميع أعضائه. وعلى الرغم من أهمية هذه المادة، إلا أن الناتو لم يلوّح بها سوى مرة واحدة في تاريخه رداً على هجمات 11 سبتمبر 2011، وتلجأ إليها اليوم الدول الأعضاء في الأزمة الأوكرانية الحالية.
ومهما وعدت تلك الاتفاقيات المشتركة بالتعاون العسكري المكثّف، إلا أن على ذلك التعاون ألا "يحلّ محل التعاون الأوروبي والأوروبي الأطلسي الحالي"، بحسب صحيفة "ذا لوكال" السويدية، ما يعني أن المملكة المتحدة قد تحتاج إلى تصريح من الناتو قبل الانخراط العسكري في أي من البلدين. إلا أن رئيسة الوزراء السويدية ماغدالينا أندرسون اعتبرت، في المؤتمر الصحافي الذي جمعها بنظيرها البريطاني، أن الاتفاقية ستعزّز أمن السويد، سواء قررت الانضمام إلى الناتو أم لا.
وفي حين اختار البلدان سياسة عدم الانحياز ولم يدفعا باتجاه الانضمام إلى الناتو إلا بعد الغزو الروسي الأخير، إلا أنهما قلّصا المسافة على مرّ السنين مع الحلف، حيث كانا جزءا من برنامج الشراكة من أجل السلام التي يقودها الناتو. وبالتالي، يقلّل بعض المتابعين والخبراء من أهمية هذه الخطوة عسكرياً، حتى وإن كانت تمثّل تحوّلاً لافتاً في الرأي العام، معتبرين أنها كإعلان "الزواج" بعد سنوات من "التعايش".
مضمون "اتفاقية الضمانات الأمنية"
لا يمكن فصل زيارتي جونسون إلى فنلندا والسويد، عن سياق الواقع الجديد الذي فرضه "بريكست" على المملكة المتحدة
وفي الوقت الذي تحدّثت فيه العديد من الوسائل الإعلامية عن تفاقم المخاوف لدى العائلات السويدية من "عقاب روسي" على طلب بلادها الانضمام إلى الناتو، ما دفعها إلى تخزين الطعام والمواد الأساسية والوقود، يواجه جونسون أزمة اقتصادية في بلاده مع ارتفاع تكلفة المعيشة. ما دفعه خلال الزيارتين إلى تجديد تعهّداته بتقديم المزيد من الدعم للأسر الأكثر احتياجاً خلال الأشهر المقبلة.
من جانبه، حث الرئيس الأوكراني على مزيد من التضامن في السياسة الأوروبية، في الوقت الذي تجري فيه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي مباحثات بشأن جولة سادسة من العقوبات تشمل حظراً نفطياً، مجدّداً الحديث عن أن انضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي كان سيتصدّى لمثل هذا الغزو. علماً أن أحد البنود التي يشملها طلب الدول الانضمام إلى الناتو يقتضي ألا يكون لدى تلك الدول أي نزاع مع دولة مجاورة، الأمر الذي لا ينطبق على أوكرانيا.
فهل ستكون هذه الخطوة بمثابة "انقلاب عسكري جديد" في أوروبا بعد "انقلابات" سابقة سبّبها الغزو الروسي على أوكرانيا؟ وكانت بين تلك الانقلابات "عسكرة" السياسة الألمانية والتخلّي عن أنبوب الغاز والدعم العسكري الأوروبي لأوكرانيا وفرض العقوبات بشكل متصاعد على روسيا.