بين 4 أغسطس/آب 2020، و4 فبراير/شباط 2021، ستة أشهر من الأوجاع والجروح المفتوحة لآلاف اللبنانيين الذين ينتظرون جواباً على سؤال لا يزال يراودهم: من المسؤول عن قتل أكثر من مائتي شخص وإصابة نحو 7 آلاف آخرين، في انفجار هز بيروت ذلك اليوم؟
بعد ستة أشهر على انفجار مرفأ بيروت وبطء إعادة الإعمار ودفع التعويضات للمتضررين، لا تزال التحقيقات "مُعتقَلَة"، ورهينة التجاذبات السياسية والخطوط الحمراء التي تُكبِّل السلطة القضائية. والأغرب أن أحداً لم يُقدّم حتى اليوم رواية متكاملة لما حصل، بل في كل فترة تصدر معلومة جديدة لا يؤكدها أحد. من لغز نترات الأمونيوم والكمية التي انفجرت فعلاً، ومن الذي استقدمها، إلى السؤال عن علاقة النظام السوري، وهل ستنتهي القضية إلى أجوبة صريحة حول كل هذه الأسئلة؟ اللبنانيون الذين يحاولون في تحرّكاتهم الشعبية، ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إبقاء القضية حية، ويحرصون بشكل شبه يومي وفي الرابع من كل شهر، على نشر فيديوهات وصور من المجزرة، باتوا شبه مقتنعين بأنَّ سيناريو دفن الملف تُكتَب صفحاته الأخيرة، عبر رفض مدعى عليهم المثول أمام القضاء، وعلى رأسهم رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، بالتوازي مع تجميد القضية منذ 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعد طلب نقل الدعوى للارتياب المشروع الذي تقدّم به الوزيران السابقان النائبان غازي زعيتر وعلي حسن خليل، ومحاولات أخرى سابقة ولاحقة، هدفها التنصّل من العقاب. أمام هذا الواقع، تتصاعد الدعوات لفتح تحقيق دولي في القضية، مع تأكيد عدم الثقة في القضاء اللبناني.
وبعد حديث حسان دياب عن أن التقديرات بأن كمية نترات الأمونيوم التي انفجرت في مرفأ بيروت تُقدّر بـ500 طن، على الرغم من أن الكمية المخزنة في المرفأ كانت 2700 طن، أضيف لغز جديد في الفترة الأخيرة، وهو علاقة النظام السوري بملف الباخرة "روسوس" التي نقلت هذه المواد إلى المرفأ عام 2013، مع تسريب معلومات عن أن رجلي أعمال مزدوجي الجنسية (سورية وروسية) هما مدلل خوري وجورج حسواني ويرتبطان بنظام الأسد، يقفان خلف إحضار هذه المواد، ومن ثم خروج حسواني، في مقابلة مع وكالة "رويترز"، لنفي أي دور له بانفجار المرفأ. وجاء ذلك بعدما تبيّن أن شركة هيسكو لأعمال الهندسة والبناء التي كان يمتلكها حسواني أبقت على سجلها التجاري في نفس العنوان في لندن المسجلة به شركة سافارو المحدودة. وكانت الشركة التي طلبت شحنة النترات، ومقرها موزامبيق، قد قالت إنها طلبت الشحنة من خلال شركة سافارو.
يؤكد أهالي الضحايا استمرار تحركاتهم حتى الوصول للحقيقة
على الرغم من ذلك، يتمسك أهالي الضحايا برفض دفن هذه القضية. ويجزم إبراهيم حطيط، شقيق الضحية ثروت حطيط، والمتحدث باسم لجنة أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، في حديث مع "العربي الجديد"، "أننا لن ندع القضية تموت، وشعارنا "هالمرّة مش مثل كل مرّة"، وإيماننا راسخ بأن جريمة الرابع من أغسطس لا يمكن أن تمرّ، ونحن سنصنع التغيير". ويلفت إلى أنّه "بعد 6 أشهر على الانفجار، لا نملك أي معطى من التحقيقات، لذلك تحركاتنا كانت وما تزال مستمرة أمام منزل المحقق العدلي القاضي فادي صوّان، الذي عليه أن يطلعنا على مسار التحقيقات ولا يتذرع بالسرية".
ويلفت إلى أن "هناك تفاصيل يجب أن تُكشف للرأي العام اللبناني، خصوصاً بعد مرور كل هذا الوقت، ونحن نحث المحقق العدلي على الاستمرار في مهامه، وكسر الاعتكاف الذي يمارسه ويبقي عليه بذريعة فيروس كورونا والإقفال العام، فهناك قضاة يداومون، واستثناءات لقرار التعبئة العامة بما خصّ قضايا عدة منها العاجلة والطارئة". ويعبّر حطيط عن عدم رضا أهالي الضحايا عن البطء الحاصل لناحية التحقيقات، مضيفاً "ندرك محاولات السياسيين لتعطيل الحقيقة والملف، ومع ذلك ما نزال نؤمن ببعض القضاة النزيهين علّهم ينصفوننا"، كاشفاً عن أنّ تحركاً للأهالي سينفذ ظهر اليوم الخميس كما كلّ شهر، في مثل هذا التاريخ، "لكن هذه المرّة سندخل مرفأ بيروت لتلاوة بياننا وتوجيه الرسائل الحاسمة واللازمة لأهل السياسة والقضاء".
في السياق، يقول المحامي علي عباس، من "المرصد الشعبي لمحاربة الفساد"، الذي يتابع الملف من خلال حملة "القصاص الآن"، إن النوايا غير نظيفة، وطلب نقل الدعوى بمثابة لعبة على الشعب اللبناني، بهدف تجميد التحقيق وتبرير الخطوة أمام المجتمع الدولي بذرائع يعتبرونها قانونية لكنها عكس ذلك، وبحجج الحصانات التي يجب أن تسقط أمام جريمة بهذا الحجم. ويضيف "لن نسمح بتجميد القضية، وسنبحث كل الخيارات المتاحة لاستئناف التحقيق، سواء عبر محكمة جنائية دولية أو منظمة حقوق الإنسان، ودفع المتضررين من جنسيات مختلفة إلى التحرك من خلال سلطات بلادهم القضائية".
وعلى الرغم من إعادة محكمة التمييز الجزائية ملف التحقيق إلى القاضي صوان إلى حين البت في طلب نقل الدعوى، إلا أن الأخير لم يستأنف مهامه، في خطوة يضعها عباس في دائرة "تعطيل العدالة"، معتبراً أنها جريمة يقترفها المحقق العدلي اليوم، تجعله شريكاً في المسؤولية، وفي إخفاء الحقيقة عن الناس. ومن هنا الضغط يومياً وبشكل مستمرّ وعبر تظاهرات يقوم بها أهالي الضحايا على صوان لاستكمال التحقيقات والاستدعاءات، أو أقلّه الاستقالة إذا رأى نفسه عاجزاً عن إتمام عمله بشفافية. ويلفت عباس إلى أنّ "التحقيقات ما تزال أولية، وتسير ببطءٍ شديدٍ، وهذا ما كنا حذّرنا منه عندما أحالت الحكومة، في 10 أغسطس، ملف التفجير إلى المجلس العدلي، المعروف تاريخياً بأنه بمثابة "مقبرة الحقيقة"، ولتفادي السيناريو الخبيث طالبنا بتحقيق دولي"، مستغرباً التعامل مع جريمة أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى، وحوّلت العاصمة اللبنانية إلى مدينة منكوبة، وكأنها جريمة عادية، لافتاً إلى أن السلطة تحاول إدخال هذا التوصيف في ذهن اللبنانيين وكأن ما حصل قضاء وقدر، علماً أنّ الكلّ يجب أن يكون تحت سقف التحقيقات، من أعلى الهرم إلى أسفله، مع اتباع المبدأ المعاكس "أن المسؤول مدان ومتهم حتى تثبت براءته"، وفق قوله.
ويشير عباس إلى أن الدولة لم تتحرك حتى لتقوم بأبسط واجباتها الرسمية، فنقابة المحامين هي التي تحرّكت لدى السلطات البريطانية لوقف تصفية طوعية لشركة "سافارو" بسبب صلات محتملة لها بانفجار مرفأ بيروت، ولولا تدخّلها لكان إجراء التصفية مرّ مرور الكرام.
التحقيقات في القضية ما تزال أولية وتسير ببطء شديدٍ
في السياق نفسه، تحدثت منظمة "هيومن رايتس ووتش"، في تقرير نشرته أمس الأربعاء، عن تقاعس السلطات اللبنانية عن إحقاق العدالة خلال الأشهر الستة الماضية، لافتة إلى أن التحقيقات المحلية المتوقفة مليئة بالانتهاكات الجسيمة للإجراءات القانونية ومحاولات الزعماء السياسيين لوقف التحقيق تعزز الحاجة إلى تحقيق دولي مستقل. وقالت المنظمة: "ليس من الواضح متى سيُستأنف التحقيق، إذ وجّه القاضي صوان منذ أغسطس/آب الماضي، اتهامات إلى 37 شخصاً، 25 منهم محتجزون في ظروفٍ يبدو أنها تنتهك حقوقهم في الإجراءات القانونية الواجبة، والموقوفون هم في الغالب من ذوي الرتب المتوسطة والمنخفضة من موظفي الجمارك والمرفأ وأجهزة الأمن، وتقول عائلاتهم ومحاموهم إن السلطات القضائية لم تقدّم بعد التهم أو الأدلة المحددة ضدهم".
وشددت "هيومن رايتس ووتش" على أن التدخل السياسي أدى إلى تعطيل التحقيق وملئه بالعيوب، إذ وجّه صوان اتهامات ذات صلة بالانفجار إلى دياب و3 وزراء سابقين هم علي حسن خليل، وغازي زعيتر، ويوسف فنيانوس، في 10 ديسمبر الماضي، لكن دياب وحسن خليل وزعيتر رفضوا المثول للاستجواب. في حين أعلن وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي أنه لن يطلب من الأجهزة الأمنية توقيفهم حتى لو أصدر القضاء مذكرات توقيف بحقهم، لافتة في المقابل بناء على أقوال محامين متابعين للقضية، إلى أنه من غير الواضح ما إذا كان فريق صوان لديه القدرة الفنية لإجراء تحقيق شامل، باعتبار أن فريقه مكوَّن من موظفين فقط يدوّنان الملاحظات باليد.