باريس والحرب على غزة: أولويات يعاكسها ضعف إمكانات التأثير

02 يونيو 2024
من تظاهرة دعماً لغزة في باريس، 28 مايو (أنطونين أوتز/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- المسؤولون الفرنسيون يؤكدون على ضرورة إنهاء الحرب على غزة وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار لحماية المدنيين، مع الإقرار بتحديات تحقيق تأثير كافٍ في هذا الصدد.
- تواجه فرنسا صعوبات في تعزيز دورها الدبلوماسي وتحقيق وحدة أوروبية حول القضية، لكنها تسعى للتعاون مع الدول العربية لتحديد معايير ما بعد الحرب وتحقيق استقرار إقليمي.
- تهدف باريس إلى إرساء ديناميكية إقليمية جديدة تشمل إصلاحات بالسلطة الفلسطينية وتنظيم انتخابات، رغم التحديات الناجمة عن مواقف إسرائيل والتباين في مواقف الدول العربية.

يُجاهر المسؤولون الفرنسيون الرسميون بأن إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هدف أساسي بالنسبة إلى باريس، لكن مصدراً رفيع المستوى في الإليزيه يقرّ، في المقابل، بأن فرنسا ليس لديها ما يكفي من إمكانات التأثير لتحقيق هذا الهدف. يقول المصدر لـ"العربي الجديد"، خلال لقاء مُغلق مع مجموعة ضيّقة من الصحافيين في باريس، إن الأولوية اليوم بالنسبة إلى فرنسا هي "التوصل إلى وقف لإطلاق النار فوري ودائم في قطاع غزة من أجل حماية المدنيين وتجنيبهم كارثة إنسانية، وأيضاً لأن استمرار الحرب يفاقم التوترات الإقليمية في المنطقة ويدفعها نحو التصعيد". ويتابع المصدر في هذا السياق، أن فرنسا لم تكفّ عن الدعوة إلى وقف إطلاق النار منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأنها عملت في مجلس الأمن على قرارات عدة لم تجد طريقها إلى التطبيق.

تدرك باريس تماماً محدودية وزن دبلوماسيتها حيال إسرائيل مقارنة مع الدبلوماسية الأميركية

ويشدّد المصدر على أن وقف إطلاق النار يعدّ شرطاً أساسياً لكي يتسنى العمل على تحديد معالم مرحلة ما بعد الحرب والعمل على حلّ سياسي كفيل بتثبيت الاستقرار الإقليمي، لكنه في الوقت نفسه يعترف بأن فرنسا ليس لديها ما يكفي من إمكانات التأثير لتحقيق هذا الهدف. لا يستفيض المصدر في طبيعة أدوات التأثير هذه، إذ إنها معروفة وأسبابها عديدة، في طليعتها عدم تجاوب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع مطالبات الدبلوماسية الفرنسية ومع القرارات الدولية والجهود الدبلوماسية.

ولعل أبرز مؤشر على ذلك إطلالة نتنياهو ليلة الخميس الماضي على الفرنسيين عبر قناة تلفزيونية محلية (أل سي آي) أكد خلالها تمسكه بنهجه، معتبراً أن "انتصاره في غزة" بمثابة "انتصار للحضارة اليهودية المسيحية على البربرية"، مدعياً أنه يبذل ما في وسعه لتحييد المدنيين وأن "كل قتيل مدني هو مأساة لإسرائيل وإنما هو عنصر استراتيجي لحماس". وفي المقابلة نفسها، كرّر نتنياهو رفضه المطلق لإقامة دولة فلسطينية يزعم أنها ستكون "أفضل مكافأة للإرهابيين" و"بؤرة إيرانية"، بحسب مصطلحاته.

باريس والحرب على غزة

تُدرك باريس تماماً محدودية وزن دبلوماسيتها حيال إسرائيل مقارنة بالدبلوماسية الأميركية التي تصر، رغم قرب حرب غزة من اختتام شهرها الثامن، وتجاوز عدد ضحاياها عتبة الـ36 ألف شخص، على المضي بإمداد الجانب الإسرائيلي بما ما يحتاجه من أسلحة وذخائر. وفي السياق نفسه، من الصعب على فرنسا الرسمية أن تعوّل على دور أوروبي موحد وفاعل لجهة الضغط على تل أبيب ولجم تماديها في الحرب على غزة في ظلّ الانقسام العلني القائم بين الدول الأوروبية، وخصوصاً منذ اعتراف إسبانيا وأيرلندا والنرويج (في 28 مايو/أيار الماضي) وسلوفينيا قبل يومين، بالدولة الفلسطينية. انقسام ناتج من التباعد في المواقف الأوروبية حول نهج التعامل مع الحرب على غزة والقضية الفلسطينية عموماً.

ووفقاً للمصدر الرئاسي نفسه، ارتأت باريس في ما يخصها العمل على تحديد جملة من المعايير التي تسعى لتحقيقها، إعداداً لمرحلة ما بعد الحرب بالتعاون مع الدول العربية، وهو ما بات يشكل جوهر اللقاءات والاتصالات التي يجريها الرئيس إيمانويل ماكرون مع المسؤولين العرب. وكان ماكرون قد أجرى يوم الأربعاء الماضي اتصالاً هاتفياً برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، واستقبل في باريس وزراء مجموعة الاتصال التابعة لجامعة الدول العربية (السعودية وقطر ومصر والإمارات والأردن) ومنظمة التعاون الإسلامي.

إرساء ديناميكية إقليمية جديدة

وبحسب كلام المصدر الرئاسي، يسعى ماكرون أيضاً لإيجاد تطابق عربي أوروبي يهدف إلى إرساء ديناميكية إقليمية جديدة تتيح العودة إلى النهج السياسي ويتضمن عدة مقتضيات. يندرج في طليعة هذه المقتضيات اعتماد إصلاحات في العمق على صعيد السلطة الفلسطينية، خصوصاً لجهة مكافحة الفساد وتنظيم انتخابات تشريعية في الأراضي الفلسطينية. والمقصود بذلك، بحسب التعريف الفرنسي، قيام سلطة فلسطينية قادرة على تحمّل مسؤولياتها في مجمل الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك في قطاع غزة، ما يعني القضاء على أي نفوذ لحركة حماس.

مصدر رئاسي فرنسي: توافر مقتضيات عدة من شأنه أن يرسي الظرف المؤاتي لاعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية

لكن من غير الواضح كيفية العمل على تحقيق ذلك، وما إذا كانت فرنسا تراهن على الدول العربية للضغط على عباس وحمله على التنحي عن سلطة يتولاها منذ عام 2005. العنصر الآخر الذي تقتضيه الديناميكية الإقليمية الجديدة يتمثل باستكمال مسار التطبيع مع إسرائيل، وتحديداً تطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية بحيث تنضم المملكة إلى الإمارات والبحرين والسودان والمغرب التي كانت قد طبعت علاقاتها مع تل أبيب عام 2020. ولكن هنا أيضاً، لا تفصح باريس عن كيفية بلوغ هذا الهدف في ظلّ إصرار السعودية على ربط مسار التطبيع بإنشاء دولة فلسطينية، وإصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية على رفض قيام هذه الدولة. يُذكر أن ماكرون كان قد أجرى قبل أسبوع تقريباً اتصالاً بوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان وتناول معه موضوع تطبيع العلاقات السعودية ـ الإسرائيلية الذي لم يستبعد وليّ العهد حصوله، شرط أن يقترن بالتزام إسرائيلي غير قابل للتراجع بالدولة الفلسطينية.

انطلاقاً من ذلك، كيف يمكن للدبلوماسية الفرنسية أن تنجح حيث لم تنجح حتى الدبلوماسية الأميركية؟ ذلك أن اللقاءات المتكررة التي أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع نتنياهو خلال زياراته للمنطقة لم تفلح في إقناع الأخير بمقايضة إصراره على محاربة "حماس" والمضي في حربه على غزة، باتفاقية سلام مع إحدى أكبر الدول العربية (السعودية).

وعلى الرغم من العراقيل المتعددة، يشير المصدر الرئاسي الفرنسي إلى أن توافر هذه المقتضيات من شأنه أن يرسي "الظرف المؤاتي" لاعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية وفقاً لما كان قد أشار إليه ماكرون في ختام زيارته لألمانيا قبل أيام. هذا الطرح الفرنسي قد لا يكون خالياً من البراغماتية بحسب دبلوماسي فرنسي سابق تحدثت إليه "العربي الجديد"، لكنه يحصر الضغوط والتنازلات في جانب واحد هو الجانب العربي، وهو ما يجعله غير قابل لأن يرى النور.

المساهمون