تنقلنا أوراق السياسي باسل غطاس إلى زنازين المعتقلات الإسرائيلية، حيث نعيش يوميات الأسر ابتداء من التفاصيل اليومية وانتهاء بأحلام التحرر، مرورا بالنضال اليومي والمستمر للحركة الأسيرة من أجل تحسين حياة الأسرى وإرادة استمرار الحياة بتهريب النطف لزوجاتهم وحتى الزواج من داخل السجن، فضلا عن استكمال التعليم وتحويل المعتقل إلى أكاديمية معرفية وطنية من خلال برامج تدريس البكالوريوس والماجستير.
يهدي غطاس، النائب السابق في الكنيست الذي سجن بسبب تهريبه أجهزة هواتف نقالة للأسرى، كتابه الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في سلسلة ذاكرة فلسطين عام 2022 إلى "أسرى الحرية في فلسطين والعالم"، حيث يوثق فيه تجربة أسره مدة 23 شهرا قضاها في خمسة من سجون الاحتلال الإسرائيلي، بدأت عام 2017 وانتهت عام 2019.
يقدم للكتاب الأسيران مروان البرغوثي ووليد دقة وكلاهما عرفا غطاس في المعتقل وقبل ذلك من خلال دوره في إدخال الهواتف النقالة للأسرى.
يتحدث القائد الفتحاوي مروان البرغوثي المعتقل منذ عام 2002 والمحكوم بخمسة مؤبدات، عن زيارات غطاس له قبل اعتقال الأخير، وعن جهوده في اختراق السجون والعمل على تواصل الأسرى مع ذويهم مستخدما حصانته كنائب في الكنيست الإسرائيلي عن التجمع الوطني الديمقراطي، الذي يصف البرغوثي "بصمته الواضحة في فلسطين والهوية الوطنية ومقاومة الرواية الصهيونية".
أما وليد دقة، شريك المؤلف في قضية الهواتف النقالة، الأسير منذ عام 1986، فلم يقرأ الكتاب بصيغته النهائية لأن السلطة الإسرائيلية صادرته عندما حاول الأسرى إدخاله سجن عسقلان، وكان قد قرأ المسودة الأولى في سجن جلبوع الذي جمعهما معا. كان دقة يخشى على غطاس من صعوبات التأقلم لرجل في مثل سنه ومركزه الاجتماعي، فوجده يتعامل مع السجن والسجان بشجاعة وخبرة ومع رفاقه الأسرى بغيرية وإيثار، "الأمر الذي لا يحسنه الكثير من قدماء الأسرى".
منذ أن أصبح غطاس نائبا عن التجمع الوطني الديمقراطي في الكنيست الإسرائيلي عام 2013، بدأ يزور الأسرى وناضل ضد منع السلطات الإسرائيلية الأسرى السياسيين من حقهم بالاتصال بذويهم وطرح الموضوع في لجان الكنيست ومع الأجهزة الأمنية، ولكن ما من مجيب. بدأت عنده فكرة إدخال الهواتف النقالة للأسرى عام 2016 بعد زيارته والدتي الأسيرين كريم يونس، محكوم بالإعدام وخفف الحكم للسجن المؤبد، ووليد دقة، محكوم بالإعدام وخفف الحكم إلى السجن 37 عامًا، بالإضافة إلى سنتين إضافيتين في قضية ضلوع الأسير دقة في قضية إدخال هواتف نقالة للأسرى.
قرر غطاس في نهاية عام 2016 إدخال الهواتف النقالة للأسرى مستغلا حصانته النيابية، وسلم الأسير باسل البرزة في سجن النقب، وهو معتقل بتهمة قيادة خلايا عسكرية لكتائب شهداء الأقصى وحكم عليه بـ15 عاما وأخلي سبيله عام 2018، الهواتف النقالة، وما أن خرج البرزة من غرفة المقابلة لجلب فنجان قهوة لضيفه غطاس حتى أُلغيت الزيارة لأن الأمر كُشف. إلا أن الشرطة الإسرائيلية لم تستطع اعتقاله فورا لأنه يتمتع بالحصانة التي تخلى عنها، لأنه يعرف أن "المدعي العام سيتوجه للكنيست طالبا إزالة الحصانة وسيتنافس النواب الصهاينة في تأييد الطلب، فقرر تفويت هذه الفرصة عليهم".
بدأ الإعلام الإسرائيلي بربط قضية غطاس بقضية عزمي بشارة للتحريض عليهما، وادّعى أنه هرّب رسائل مشفرة لحركة حماس وهواتف لتنفيذ عمليات، وأصدرت السلطات قرارا بمنعه من السفر. أعلن غطاس أنه فعل ذلك بمفرده وبدافع أخلاقي، فاستُدعي للتحقيق واعتقل خمسة أيام بحجة عدم انتهاء التحقيق في ذلك اليوم، وكانت سابقة في تاريخ الكنسيت باعتقال نائب من أجل التحقيق، وهو ما لم يحصل مع نواب صهاينة حُقق معهم بتهم سرقة واختلاس واعتداءات جنسية.
ونتيجة المفاوضات مع النيابة العامة، قبل غطاس بعقوبة سنتين حبساً حتى لا يحاكم فعليا ويحكم بعقوبة أكبر والتي قد تصل إلى عشر سنوات. قدم غطاس استقالته من الكنيست نهاية مارس/آذار 2017، ودخل السجن في تموز/يوليو من ذلك العام.
حياة الأسر
يبدأ غطاس بتسمية السجون الإسرائيلية التي تنقل بينها، وهي 9 معتقلات من أصل 25 سجنا أو أكثر من سجون الاحتلال، وضمت قائمته خلال سنتين سجون بئر السبع وجلبوع وشطة ومجيدو والنقب الصحراوي ونفحة ورموان وهدرايم ومركز تحقيق الجلمة.
نتعرف من خلال يومياته على حياة الأسرى وروتين حياتهم، فنرافقهم في الفورة، وهي ساحة السجن الداخلية حيث يسمح للسجناء بالاجتماع فيها من السابعة صباحا إلى السابعة مساء باستثناء فترتي التفتيش (دق الشبابيك)، وتجرى هذه العميلة أربع مرات في اليوم، حيث يقوم الضابط المناوب بطرق الشاكوش على الشبابيك والحيطان ويتفحص غرف السجن بعد خروج قاطنيها. يبدأ العد الأول عند السادسة صباحا والأخير عند الثامنة مساء، ويستمر كل مرة ساعة كاملة.
يقوم الأسرى، وعددهم في سجن الجلبوع 120، بممارسة الرياضة ومن ثم لعب الكرة أو الشطرنج أو ورق الشدة وطاولة الزهر. يروي هنا أنه لم يكن من متابعي المباريات الرياضية وأنه للمرة الأولى في حياته تابع جميع مباريات كأس العالم 2018.
كما يتحدث غطاس عن إقامة وحضور صلاة الجمعة، واحتفالات أعياد الفطر والأضحى والميلاد، وإقامة حفلات المباركة بزواج أو ولادة أو نجاح أبناء الأسرى، وكذلك إقامة مجالس العزاء لأحبتهم الذين ماتوا وهم في السجون. يقدم الأسرى القدماء نصيحة مهمة لغطاس وهي ألا يعد الأيام، فيقرر أن يمارس الرياضة في السابعة صباحا ثم يأخذ حماما ويحلق ذقنه ويوزع وقته بين القراءة والكتابة. يتحدث عن مسؤول للمكتبة في كل سجن ينادي يوميا على كل غرفة من السجن "مرحب كتب" لدعوة السجناء للاستعارة او إعادة الكتب. يدير الأسرى شؤونهم اليومية بأنفسهم، فهم يعدون طعامهم، ويغسلون ثيابهم وينظفون غرفهم وأيضا ساحة السجن، وهناك من يمثلهم وبالانتخاب أمام إدارة السجن ويسمى بالعبرية (دوفير).
أحكام الأسرى
يورد المؤلف قصصا كثيرة عن الأسرى وأحكام سجنهم، فرفيق سجنه في سجن جلبوع هو الأسير ثائر حماد، محكوم بـ11 مؤبدا على خلفية عملية قنص نفذها على حاجز إسرائيلي وأدت لمقتل 11 جنديا إسرائيليا. أما رفاقه في سجن رامون فهم مجموعة من الجبهة الشعبية وفي مقدمتهم أحمد سعدات أمين عام الجبهة، الذي اعتقلته السلطة الفلسطينية عام 2002 على خلفية اغتيال رحبعام زئيفي، ثم اختطفته إسرائيل عام 2006 وحكمت عليه بـ30 عاما. يتحدث عن أسير (إبراهيم حامد) من حماس، محكوم بـ54 مؤبدا، لم يحظ برؤية ابنه البالغ 20 عاما وابنته ذات الـ18 عاما ولو من خلال زجاج الزيارات. أسير آخر من بدو النقب ويحمل الجنسية الإسرائيلية (أحمد أبو جابر- أبو جولان)، محكوم بالمؤبد، لم يرَ أيا من أحفاده الكثر لأن السلطات الإسرائيلية لا تسمح بالزيارة للقرابة من الدرجة الثانية. أيضا، يتحدث عن الإضرابات التي يقوم بها الأسرى، ومن بين المطالب أن يجتمع شقيقان أو أكثر في سجن واحد بدلا من سجون متفرقة، أو أن يجتمع الأب وابنه في مهجع واحد.
فنون الاحتلال بعذابات الأسرى
لا يدخر الاحتلال طريقة لكي ينغص حياة الأسرى إلا ويمارسها، ففضلا عن الأحكام الطويلة، يحرص الاحتلال على عدم استقرار الأسرى فيقوم بنقلهم من سجن إلى آخر، ويتفق الأسرى على أن التنقلات بين السجون أو من السجون إلى المحاكم أو المشافي هي جهنم حقيقية، وأن البوسطة التي ينقل فيها السجناء هي أداة تعذيب، وأن المعابر، كمعبر الرملة، التي يضطرون للإقامة فيها خلال التنقل، أقرب إلى حظيرة حيوانات. وما يحتاج ساعتين من الوقت للوصول يأخذ يوما كاملا، وتمتد بعض التنقلات لأيام ثلاثة أو أربعة ينامون خلالها في المعابر. تحدد سلطات السجون الرعاية الصحية بالرعاية الأولية، حيث يحضر الطبيب ثلاثة أيام في الأسبوع ويسمح بإرسال ثلاثة مرضى من كل قسم، ويتخلى الكثير من الأسرى عن زيارات الأطباء الاختصاصين لأنها تستلزم الانتقال إلى المشفى عبر آلية التعذيب التي وصفناها. كما أن سلطات الاحتلال تتعمد الإهمال الطبي الممنهج كحالة رفيقه (عبد الله أبو لطيفة) الذي أصيب بالسرطان.
أكاديمية السجن
يدهشك باسل غطاس بروايته عن إصرار الأسرى على استكمال تعليمهم فضلاً عن تعلق بعضهم بتعلم اللغات ويحكي كيف طلب منه أسرى تعليمهم الإنكليزية وساعده بذلك الأسير البريطاني من أصل باكستاني، نفيد، والذي اعتقل في المسجد الأقصى بتهمة التظاهر ومهاجمة الشرطة. انضم غطاس لطاقم مدرسي التعليم الجامعي كما شارك الأسير مروان البرغوثي في تدريس حلقات الماجستير. يشيد مؤلفنا بجهود البرغوثي وحرصه على المعايير الأكاديمية اذ أشرف على أكثر من 50 رسالة ماجستير.
سجن هداريم هو الوحيد الذي تُدرس فيه درجة الماجستير ولذلك تم وصفه بمدينة السجن الجامعية وأكثر من نصف الأسرى فيه كانوا يدرسون البكالوريوس والماجستير في الدراسات الاسرائيلية. وفي عام 2018 صادرت إدارة السجون الكتب ومنعت التعليم الجامعي كما كانت قد علقت من قبل التعليم عن طريق الجامعة الإسرائيلية المفتوحة. توجد برامج لمتابعة التعليم الجامعي من خلال جامعة القدس المفتوحة وجامعة القدس- أبو ديس وجامعة الأقصى والتي كان يشرف على برنامجها ضرار أبو سيسي الذي اختطفه الموساد من أوكرانيا.