"بالستاين أكشن" في ليستر.. مخيم لحصار السلاح الإسرائيلي في بريطانيا

18 مايو 2023
عشرات المعتصمين أمام مصنع الأسلحة الإسرائيلي في ليستر (ربيع عيد/ العربي الجديد)
+ الخط -

يستيقظ عدنان الساعة الثامنة صباحًا بعد أن أمضى ليلته نائمًا في الشارع داخل كيس نوم، ويتلحف غطاءً يقيه من المطر وبجانبه مجموعة من الناشطين استيقظوا تباعًا، جاؤوا من مناطق مختلفة في بريطانيا، أمضوا هم أيضًا ليلتهم هنا، في المنطقة الصناعيّة في مدينة ليستر.

جاء عدنان من مدينة مانشستر منذ أيّام، وانضم للعيش هذا الأسبوع في المخيم الذي أنشأه ناشطون من حركة "بالستاين أكشن" (Palestine Action)، أمام مصنع الأسلحة "إلبيت" (Elbit).

تتشكل مساحة المخيم من المساحة التي يحتلها الناشطون من الشارع أمام مدخل المصنع الذي يحرسه أفراد من الشرطة، وأفراد من الأمن المصنع الخاص، فيما عُلّقت لافتة صغيرة إلى جانب الأعلام الفلسطينيّة على السياج الحديدي الذي وضعته الشرطة عند الرصيف من جهة المصنع في أعقاب قدوم الناشطين، كُتب عليها: "هنا غزّة.. هنا مخيم جنين".

في الجهة الثانية من الرصيف، يقع المطبخ حيث يبدأ عدنان يومه في تناول شيء ما من الطعام الكثير الموجد تحت الأشجار. هذا الطعام جاء إلى المخيم على شكل تبرعات يوميّة من متضامنين من أهالي مدينة ليستر، دعمًا للناشطين المعتصمين بهدف إغلاق مصنع "إلبيت".

انطلق الاعتصام المفتوح للحركة يوم الاثنين 1 مايو/ أيار، وتحوّل إلى تجمّع احتجاجي يقصده العشرات يوميًا، منهم من يقضي بضع ليال فيه، ومنهم من يأتي ويذهب بنفس اليوم.

الصورة
مخيم "بالستاين أكشن" في بريطانيا (ربيع عيد/ العربي الجديد)
المخيّم في ساعات الصباح (ربيع عيد/العربي الجديد)

كان عدنان يستعد لتقديم محاضرة عن النكبة الفلسطينيّة مع اقتراب الذكرى، تشمل دورة حياة المخيم اليوميّة نشاطات تثقيفيّة وأخرى رياضيّة وفنيّة، وحلقات نقاش.. وبالطبع صراخ في وجه الأمن والشرطة الذين يحمون المصنع مع وجود كاميرات مراقبة متطوّرة تغطي كل شيء يحصل حول المصنع وكلاب حراسة. 

"إلبيت".. أسلحة مجرّبة

تملك شركة "إلبيت" الإسرائيليّة (Elbit Systems LTD)، التي انطلقت عام 1996 وسُجّلت رسميًا في بريطانيا عام 2004، تسعة مواقع على الأراضي البريطانيّة، منها أربعة مصانع، وتقع في مدن بريستول، وبرمنغهام، وكامبردج، وليدز، وليستر، وليفربول، ومانشستر، وشفيلد، وستراود، إضافة لعملها من داخل ثلاث قواعد تابعة للقوات الجويّة الملكيّة.

تُعرّف الشركة عن نفسها بأنّها "شركة للدفاع والتكنولوجيا رائدة عالميًا في تقديم تكنولوجيا عسكريّة ومدنيّة". وتصنع هذه التقنيات في بريطانيا كونها تتوفر فيها المواد المطلوبة للتصنيع، ويجرى تصديرها لاحقًا مباشرة لإسرائيل.

تشتهر "إلبيت" بتصنيع طائرات من دون طيّار ، تُجرّب بشكل أساسي في قطاع غزّة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضمن عملياته المستمرة في حصار القطاع وشن حملات عسكريّة، حسب ما أشارت تقارير عديدة. 

الصورة
مخيم "بالستاين أكشن" في بريطانيا (ربيع عيد/ العربي الجديد)
أفراد حراسة خاصّة لمصنع "إلبيت" في ليستر (ربيع عيد/ العربي الجديد)

 

تُزوّد "إلبيت" 85% من أسطول الطائرات من دون طيّار للجيش الإسرائيلي، إضافة إلى تقنيّات عسكريّة أخرى. كما استخدمت هذه المسيّرات من قبل الجيش البريطاني في أفغانستان، وبيعت إلى مناطق أخرى في العالم بعد تسويقها على أنّها "مجرّبة في المعركة". 

"بالستاين أكشن".. عصيان مدني من أجل الفلسطينيين 

ويتّهم ناشطو حركة "بالستاين أكشن" شركة "إلبيت" الإسرائيلية بالتسبب بقتل الفلسطينيين، ويرفعون شعار إغلاقها (SHUT ELBIT DOWN) في جميع أنشطتهم، فيما كان المتظاهرون قد كثفوا من وجودهم أمام المصنع خلال العدوان الإسرائيلي على غزّة الأسبوع الماضي، وفي ظل الوجود المكثّف للمسيّرات، التي تنتجها "إلبيت"، فوق سماء غزّة المحاصرة.

ويستهدف ناشطو "بالستاين أكشن" مصانع الشركة وأفرعها المختلفة في بريطانيا بعدة وسائل، منها احتلال الأسطح أو تكسير الشبابيك، أو رش الطلاء الأحمر على الواجهة وغيرها من الأفعال الراديكاليّة التي تتميّز بها الحركة، مستخدمة اللون الأحمر رمزاً لها للدلالة على الدماء المسفوكة التي تسببها منتجات "إلبيت". 

وكانت الحركة قد انطلقت في بريطانيا قبل عامين كشبكة احتجاج مؤيدة للفلسطينيين تعتمد على أسلوب العصيان المدني في أنشطتها، بهدف تعطيل عمل شركات وتجّار الأسلحة متعددي الجنسيّات، وتستهدف بشكل خاص مصانع الأسلحة التي تُستخدم من قبل الجيش الإسرائيلي، وتقوم بنشر جميع أنشطتها عبر منصات التواصل الاجتماعي الخاصة بها. 

نجحت الحركة العام المنصرم في إغلاق واحد من أفرع "إلبيت" بعد احتجاجات عديدة تسببت في خسائر مادية كبيرة لفرع الشركة في مدينة أولدهام، الأمر الذي اعتبرته الحركة نجاحًا مهمًا تُعوّل في البناء عليه لتحقيق نجاحات إضافية حتّى إغلاق الشركة نهائيًا وطردها.  

وبسبب طبيعة الأنشطة التي تشمل التخريب، تعرّض العشرات من أعضاء الحركة ومناصريها للاعتقالات، وما زال يحاكم بعض أفرادها في المحاكم في تهمٍ قد تؤدي ببعضهم للسجن بضعة أشهر أو سنوات. مع ذلك، تصرّ الحركة على الاستمرار بنفس الأسلوب في استهداف "إلبيت". 

حصار مفتوح

في الأيّام الأولى لانطلاق مخيم مدينة ليستر، اعتقلت الشرطة أكثر من ثلاثين متظاهرًا قبل أن تطلق سراحهم لاحقًا. يقول إيدي مورميش في حديث لـ"العربي الجديد": "يأتي الناس ليس فقط من إنكلترا؛ بل من ويلز واسكتلندا ليقولوا إننا لن نتحرك من هنا حتى إغلاق مصانع (إلبيت)، أحد أسوأ مصانع الأسلحة في العالم التي تستخدم أجساد الفلسطينيين لتجريب أسلحتها بهدف الربح المالي الكبير من هذه الصناعة".

وتابع: "نحن هنا لإغلاق المصنع كما فعلنا في مدينة أولدهام، وأنا كنت هناك ونجحنا في إغلاقه بعد نشاطات أسبوعيّة، منها دخول ناشطين إلى المصنع وتحطيمه من الداخل، وهذه الأفعال يمكنها إنقاذ أرواح الفلسطينيين. لم يعد بإمكاننا الاكتفاء بالتظاهرات التقليديّة". 

يشير إيدي إلى أن "إدارة (إلبيت) تعلم أن هذه الأسلحة تُستخدم ضد المدنيين في مناطق محتلة في فلسطين، والتي تصف فيها منظمات حقوق إنسان دوليّة النظام القائم هناك بالأبرتهايد، لذلك فاستخدام هذه الأسلحة هو جريمة ضد الإنسانيّة. إذا كانت الحكومات لن تفعل شيئًا، فسيعود الأمر للناس لتقول كلمتها. نحن موجودون هنا في حصار مفتوح للمصنع حتّى إغلاقه ولن يمنعونا عن ذلك". 

يخبرنا إيدي عن تجربته في العيش في قطاع غزّة مدة سنتين، ومشاهدته بعينه القصف الإسرائيلي الذي طاول المدنيين وقضى على عائلات كاملة، والذي نجا منه هو بنفسه خلال عدوان عام 2009، الأمر الذي أثّر فيه ودفعه بعد عودته إلى بريطانيا للعمل من أجل وقف القتل المستمر بحق الفلسطينيين.

ويقول في هذا السياق: "لو رأى الناس ما رأيته أمام مستشفى الشفاء في غزة، عندما كانت تأتي الأمهات تصرخ تسألني عن حال أحد أولادها المصابين وأنا أعلم أنهم استشهدوا، لعرفوا حقًا حجم المأساة المستمرة التي يعيشها الفلسطينيون. هذه حقائق، كما أن وجود أكبر مصنع إسرائيلي للسلاح هنا هو حقيقة". 

محاصرة المخيم

يؤكد إيدي الذي شارك أيضًا، سابقًا، في إحدى السفن المتّجهة لكسر الحصار على غزّة، وتعرض للاعتقال في إسرائيل مدّة أسبوع، ضرورة الخروج من المناطق المريحة في التظاهر من أجل فلسطين والاستعداد للتضحية، وهو أمر يتشاركه العديد من الموجودين هنا، منهم شباب ملثمون اعتصموا أيّاماً قبل بدء المخيم على الأشجار المحيطة بالمصنع. (غالبًا، سيكون هؤلاء الملثمون من يقوم بأعمال التخريب، لذلك لا يكشفون عن وجوههم). 

مخيم "بالستاين أكشن" في بريطانيا (ربيع عيد/ العربي الجديد)
ملثمون داخل المخيم (ربيع عيد/ العربي الجديد)

وشهدت أجواء المخيم توترات عدّة، إذ صادرت الشرطة في البداية خيام المعتصمين وبعض المقتنيات الشخصيّة متذرعة باستخدام القسم (14) في ما يتعلق بالتظاهر، والذي يخوّل الشرطة صلاحيّات معينة للسيطرة على الاحتجاجات. كما قامت ببناء جدار حديدي فاصل بين المخيم ومدخل المصنع، أزالته لاحقًا.

وتوجد الشرطة بشكل دائم، ويتجول بعض أفرادها بين المعتصمين داخل المخيم وهم يضعون كاميرات التصوير على ستراتهم، فيما يرفض المعتصمون الحديث معهم ووضعوا لافتة عند مدخل المخيم كتب عليها: "لا تتحدث مع الشرطة". 

بعد حصار، دام أسبوعاً، للمصنع الذي لم يأت إليه العمّال، وإغلاق الشارع الرئيسي، باشرت الشرطة في محاصرة المعتصمين، إذ قامت بفتح الشارع أمام السيارات وتقليص المساحة المخصصة لهم بالاعتصام من خلال وضع سواتر بلاستيكيّة جرت تعبئتها بالماء، وإبلاغ المتظاهرين أن الخروج من هذه المساحة سيكون ثمنه الاعتقال. وفعلًا اعتقل عدد من المعتصمين لاحقًا لأسباب تافهة بحسب ما أخبرنا شهود عيان. 

لكن على الرغم من هذا التوتر، لا تبدو الأجواء دائما مشحونة هنا، إذ يأتي العديد من أبناء الجالية المسلمة في مدينة ليستر لأداء الصلاة أمام المصنع بعد أن جلبوا الطعام للمعتصمين، كما يمكنك مشاهدة الأطفال يلعبون كرة القدم، أو يمكنك المشاركة في حلقات الدبكة وبعض العروض الغنائيّة، إضافة لتحوّل المخيم إلى فضاء التقاء ناشطين من مختلف الأماكن منهم طلاب الجامعات؛ بعضهم طلاب دوليون. 

صوت للسّكان الأصليين

إيللاه طالبة في جامعة بريطانيّة قادمة من أستراليا، توجد في المخيم منذ أسبوع وتخطط للبقاء أياماً أخرى، تقول لـ"العربي الجديد": "المخيم هنا مساحة آمنة بالنسبة لي، تعرّفت على العديد من الأشخاص مثل السيدة من المجتمع المحلي المسلم في ليستر التي أهدتني هذه الكوفيّة، كما عرفت أنه توجد فروع لشركة (إلبيت) في أستراليا".

وتابعت: "تعلمت الكثير من أساليب العمل التي تتبعها (بالتستاين أكشن) والاستراتيجيات الهامّة. نحن لا نطالب بإغلاق المصنع، بل نعمل على إغلاقه، وهذا الأمر الذي يعطي الحراك هنا ميزة إضافية".

الصورة
مخيم "بالستاين أكشن" في بريطانيا (ربيع عيد/ العربي الجديد)
إيللاه (على اليمين) تلعب كرة القدم مع أطفال مدينة ليستر (ربيع عيد/ العربي الجديد)

تضيف إيللاه: "بدأت أتابع قضية فلسطين خلال دراستي الجامعية في أستراليا بعد مشاهدتي عدداً من التظاهرات، ثم تتبعت أكثر القضية وانتبهت للتشابه الكبير بين حالة السكّان الأصليين في أستراليا والفلسطينيين. هناك سجون يقبع فيها أطفال من السكان الأصليين في أستراليا والكثير منهم لا توجد ضدهم تهم كما في فلسطين. السجن ليس مكاناً للأطفال، وهذا جزء من عملية التطهير العرقي بحق السكان الأصليين". 

تلعب إيللاه كرة القدم مع الأطفال القادمين من ليستر في الشارع المقابل لمصنع الأسلحة، وذلك قبل اللحظات الأخيرة من قيام الشرطة بمحاصرة المخيم بالسواتر البلاستيكيّة وتقليص مساحته، مستغلة القسم 14 الذي سيجرى تمديده.

يتجمّع عشرات المعتصمين والمتضامنين لأخذ صورة جماعيّة عند الساعة السادسة مساءً، لتبدأ الشرطة بعدها بتقليص مساحة المخيم وفتح الشارع أمام السيارات. تعود حالة من التوتر داخل المخيم والصراخ على الشرطة موجهين تهمًا لهم بحماية "قتلة الأطفال"، وغضب ضد أفراد من رجال الإطفاء الذين يملؤون السواتر البلاستيكيّة بالماء، بعد أن خرقوا قرار نقابة الإطفائيّة البريطانيّة التي تبنت مطالب "بالستاين أكشن" بعدم مساعدة الشرطة في إخلاء الاعتصامات أمام مصانع "إلبيت" للأسلحة. 

بعد حصار الشرطة المخيم الذي حاصر مصنع الأسلحة أسبوعاً، يبدأ المعتصمين بترتيب حاجيّاتهم ضمن المساحة الجديدة. يجلسون لتناول وجبة عشاء ساخنة وصلت من المدينة، وأخذ قسط من الراحة بعد يوم طويل. هناك من راح ينشر فيديوهات وصوراً عن الإجراءات الجديدة بحق المخيم، وآخرون يخططون للمرحلة القادمة، وهناك من جلس يقرأ كتابًا أو يلعب على الغيتار، والبعض يودّع رفاقًا تعرّف عليهم هنا إلى حين العودة في الأيّام والأسابيع القادمة. 

الصورة
مخيم "بالستاين أكشن" في بريطانيا (ربيع عيد/ العربي الجديد)
المخيم بعد حصار الشرطة له (ربيع عيد/ العربي الجديد)