فتح الانسحاب الأميركي من أفغانستان، و"المتسرع" لدرجة الفوضى التي خلقها في مطار كابول، وقبلها دخول حركة "طالبان" إلى العاصمة الأفغانية من دون "إراقة دماء" ومقاومة من الجيش الأفغاني "المجهز والمدرب"، بحسب الرئيس الأميركي جو بايدن، باباً لسيل من الأسئلة، قد تحتاج اختبارات لاحقة للإجابة عنها. وفيما يقول قادة الكونغرس الأميركي، والوجوه السياسية في واشنطن، إن جردة حساب ستُجرى لمعرفة ما حصل و"أين نقف اليوم"، يقوم حلفاء أميركا بجردة حساب خاصة بهم، لمعرفة الوجهة الحقيقية للإدارة الأميركية الجديدة، التي روّجت لأشهر طويلة لـ"عودة أميركا". وفي مقابل التهليل "الأطلسي" والآمال الأوروبية التي انتعشت خلال زيارة بايدن إلى القارة العجوز، في يونيو/حزيران الماضي، بإمكانية طيّ صفحة شعار "أميركا أولاً" الذي رفعه سلفه دونالد ترامب، والتي جعلت التواصل والتنسيق بين الولايات المتحدة وحلفائها في أدنى مستوياته خلال أربع سنوات من عهده، يعود الحلفاء إلى التشكيك بعزم الإدارة الديمقراطية على العودة إلى السياسة الأميركية التقليدية المتعارف عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وينتظر أن يكون اجتماع القمّة الذي ستعقده مجموعة السبع الكبرى، الأسبوع المقبل، والمخصص لأفغانستان، مناسبةً لزعماء هذه الدول، لوضع أسئلتهم على طاولة بايدن، الذي وصف بأنه كان شديد الود والتفاؤل بـ"العودة الأميركية"، في يونيو الماضي.
خلّفت صور ومشاهد الانسحاب المذل للقوات الأميركية من أفغانستان، صدمة في عواصم القرار الأوروبية
وفي الواقع، فقد أصبح الانسحاب الأميركي من أفغانستان، مسألة شديدة الحساسية بالنسبة إلى حلفاء أميركا، منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض، في يناير/كانون الثاني الماضي. إذ انتظر الزعماء الأوروبيون وقتاً، وكذلك قيادة حلف "الناتو"، لخروج الدخان الأبيض من جعبة الرئيس الأميركي، ومعرفة ما إذا كان سيمضي قدماَ بقرار سلفه، الذي تمسك بالانسحاب، وبـ"إنهاء حروب أميركا الطويلة"، منذ أن كان مرشحاً للرئاسة في 2016، كأحد مداميك شعاره "أميركا أولاً". وحين أعلن بايدن عزمه الانسحاب الكامل من أفغانستان، بحلول 11 سبتمبر/أيلول المقبل، أبدى الزعماء الأوروبيون امتعاضهم، وفق ما سرّب الإعلام العالمي حينها، من قرار أميركي أحادي لم يجر التشاور معهم حوله. وأوفد بايدن وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلى أوروبا، لتنفيس الغضب بشعار "دخلنا معاً ونخرج معاً". وكان ذلك يفترض أقلّه، خروجاً منظماً ومدروساً، للقوات الأجنبية المتواجدة منذ 20 عاماً في أفغانستان، وهو ما لم يحصل أيضاً.
وخلّفت صور ومشاهد الانسحاب المذل للقوات الأميركية، من أفغانستان، وتلك التي اعتبرت مهينة للجيوش الغربية، صدمة في عواصم القرار الأوروبية. واعتبرتها بريطانيا، التي فقدت 457 عنصراً من قواتها المسلحة في أفغانستان منذ الغزو، أكبر إهانة وضربة لها، منذ أزمة قناة السويس (1956)، التي كتبت آخر سطور "امبراطوريتها" في العالم. وتساءل دبلوماسي بريطاني، قبل أيام، في تصريح لوكالة "رويترز": "هل أميركا عادت، أو أعادت إدارة ظهرها لنا؟"، فيما أكد دبلوماسيون بريطانيون آخرون أن ما حصل "يضعف موقع الغرب في العالم". وقالت وزارة الدفاع البريطانية، إنها تستبعد إرسال قوات بريطانية من جديد إلى أفغانستان، على الرغم من إبدائها القلق من عودة تنظيم "القاعدة" إلى هذا البلد. من جهتها، أسّرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لحزبها، بعد أحداث أفغانستان الأخيرة، بأن بايدن أقدم على فعلته "لاعتبارات محض داخلية". واعتبر المرشح لخلافة ميركل، آرمين لاشيت، أن الانسحاب هو "أكبر كارثة يواجهها الناتو منذ إنشائه".
ولم يتصل بايدن، إثر سقوط كابول، بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لطالما شكّك خلال فترة ولاية ترامب، بفعالية حلف شمال الأطلسي، الذي قال مرة عنه إنه في حالة "موت سريري"، كما يعتبر ماكرون من أبرز القادة الأوروبيين الداعين إلى اعتماد القارة على نفسها عسكرياً. وكان اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، عقد الثلاثاء الماضي، قد تضمن انتقاداً لواشنطن، بسبب تعريضها القارة العجوز لموجة جديدة من اللاجئين، ولخطر عودة الإرهاب إلى وسط آسيا. ودافع بايدن، مجدداً، أول من أمس الأربعاء، في مقابلة مع شبكة "إيه بي سي"، عن قراره بالانسحاب، مؤكداً أنه ليس "إخفاقاً"، ومضيفاً أنه "لم يكن هناك مجال أبداً لتفادي الفوضى" المرافقة للانسحاب.
إلا أن الأسئلة الأوروبية، تذهب أبعد من أفغانستان، وصولاً إلى انخراط أميركا في القارة الأفريقية، وفي مهمات عسكرية أخرى عبر العالم لمحاربة الإرهاب. واعتبر إيان بريمير، مدير مجموعة "أوراسيا البحثية"، في حديث لـ"سي أن أن"، أن هناك "قلّة تواصل وشفافية (للرئيس) مع الشعب الأميركي ومع الحلفاء حول العالم، الذين أصيبوا بخيبة كبيرة من إدارة بايدن، بعدما اعتبروا أنها ستكون أكثر تشاركية، خصوصاً بالنسبة لمسألة شارك فيها الحلفاء طيلة 20 عاماً". وذكّر بريمير، أن قرار الانسحاب "حصل أيضاً بشكل أحادي من قبل الأميركيين. إنها ليست الطريقة التي يجب أن يعامل بها الحلفاء".
الأسئلة الأوروبية تذهب أبعد من أفغانستان، وصولاً إلى انخراط أميركا في أفريقيا
في المقابل، تساءل كلّ من جون هادسون وميسي رايان، في مقال رأي في صحيفة "واشنطن بوست"، عما إذا كان الانسحاب من أفغانستان "يعكس ضعفاً، أو يضعف قدرة أميركا على القيادة على مستوى العالم، أم أنه يعكس إعادة تنظيم للمصالح الأميركية، ويوضح للحلفاء وللخصوم ما هي المسائل والأماكن والقضايا (وربما الحروب) التي تريد الولايات المتحدة أن تصرف فيها أموالاً، وتلك التي لا ترغب أن تستثمر فيها من ميزانيتها؟". واعتبر ستيفان والت، وهو باحث في الشؤون الدولية في جامعة هارفارد، في حديث للصحيفة، أن "قرار الولايات المتحدة عدم مواصلة القتال في حرب خاسرة، ولا تحمل مصلحة ضرورية ومباشرة (لأميركا)، لا يعني أبداً أن الولايات المتحدة لن تقاتل عندما ستكون المخاطر أكبر"، مضيفاً أنه "على العكس، فإن إنهاء هذه الحرب الطويلة وغير المجدية، سيسمح لواشنطن بالتركيز على أولويات أهم".
واعتبر كل من هادسون ورايان أن جزءاً من المشكلة، يكمن في اختلاف الأيديولوجيات داخل إدارة بايدن، خصوصاً بالنسبة للمدافعين عن تدخل "إنساني"، مثل بلينكن (المؤمن أيضاً بأهمية حلف شمال الأطلسي)، وسامنتا باور، مديرة الوكالة الأميركية للتنمية، وبين بايدن نفسه، المشكك بالقوة العسكرية كقوة حلّ للأزمات، وهو ما ظهر منذ أن كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، حين حذّره من رفع عديد القوات الأميركية في أفغانستان، ونصحه بإبقاء قوة صغيرة في هذا البلد تركز على صدّ أخطار محتملة ضد الولايات المتحدة".
على الرغم من ذلك، اعتبرت شبكة "سي أن أن" في تحليل على موقعها، نشرته أمس الخميس، أن "دفاع بايدن، وعدم وضوحه، وتقلبات موقفه، لا تعكس الثقة أو الكفاءة الذي يجب أن يتحلى بها أي رئيس أميركي خلال الأزمات الاستثنائية أو الحساسة على أرض أجنبية معادية. في كل مرة لا يظهر فيها القائد الأعلى للقوات المسلحة (الرئيس) بأنه قادر على الإمساك بزمام الأمور، أو أنه خارج سياق الأحداث المتوقعة، هو وقت يهدد الرئيس بأن يكون عرضة لضرر سياسي".
ولكن ماذا عن دونالد ترامب ومسؤوليته في أحداث أفغانستان؟ في كتابه "الغرفة"، اعتبر جون بولتون، الذي عمل كمستشار الأمن القومي لترامب لعامين، أن أي أحداث ستجري في أفغانستان، هي مسؤولية ترامب وحده، حتى بعد مغادرته السلطة. وإذا كان الانسحاب، هو ثمرة اتفاق أبرمه ترامب مع "طالبان"، فإن تساؤلات تدور حول المشهد الذي كانت ستنقله عدسات الكاميرات والتسريبات المصورة من مطار كابول، لو كان الأخير لا يزال في السلطة.
وأعاد موقع "أن بي آر" الإخباري، أمس، التذكير بأن رغبة ترامب بالانسحاب السريع من أفغانستان، كانت قوية لدرجة أنها استمرت حتى إلى ما بعد خسارته للانتخابات، مشيرة إلى تقرير لموقع "أكسيوس" صدر في مايو/أيار الماضي، تحدث فيه عن توقيع ترامب لمذكرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي (بعد إعلان خسارته الانتخابات الرئاسية)، تأمر بانسحاب كامل من أفغانستان للقوات الأميركية، بحلول منتصف يناير/كانون الثاني الماضي (قبل 5 أيام من مغادرته البيت الأبيض)، وهو أمر نصحه مستشاروه المدنيون والعسكريون، بالتخلي عنه. وفيما تبدو وراثة بايدن لشعار "أميركا أولاً"، مسألة قيد البحث، مع إنهاء أميركا أطول حروبها، يرى متابعون أن على الرئيس الديمقراطي أن يدحض سريعاً هذه المقولة، عبر طمأنة الحلفاء، من خلال خطوات ملموسة عدة، تلتزم التنسيق والاستشارة والتحاور، ستكون الأشهر القليلة المقبلة، اختباراً جدياً لها.