من المتداول أن عمر الانقسام الفلسطيني الحالي يبلغ خمسة عشر عامًا، أي منذ تشكّلت سلطة إضافية في غزة في عام 2017، التي انفصلت عن تلك الموجودة في رام الله، لكن كانت سماء الساحة الفلسطينية منذ إعلان انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة ملبدة دائمًا بالغيوم المنذرة بالانقسام، نتيجة الاختلاف في الموقف السياسي من مسألة التسوية السلمية بشكل رئيسي.
ما أدّى في فترات مختلفة إلى تشكّل تكتلات سياسية عديدة، مثل جبهة الرفض وجبهة الإنقاذ، بموازاة منظمة التحرير الفلسطينية، التي مثّلت كيانًا معنويًا للفلسطينيين، لكن لم تعمّر تلك التكتلات طويلًا، نظرًا إلى التحديات التي واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية، والمعارك التي خاضتها، والمسار المتعرج الذي سلكته قيادة المنظمة ما بين المقاومة والقتال دفاعًا عن الثورة ومكاسبها من جهة أولى، وتطلعها إلى المشاركة في التسوية والانخراط فيها، وتقديمها التنازلات المتدرجة من أجل الوصول إلى اعتراف أميركي - إسرائيلي من جهة ثانية، على نحو أدّى إلى المحافظة على حد أدنى من الوحدة الوطنية.
وتكرر هذا الموقف في الانتفاضة الثانية، ثم في مواجهة صفقة ترامب؛ المعروفة بصفقة القرن، إذ شهدت الساحة الفلسطينية وحدة في الموقف بعد الانقسام الذي أحدثه اتفاق أوسلو، الذي وضع السلطة الفلسطينية الوليدة في مواجهة معارضيها، إذ نصت الرسائل المتبادلة بين إسحاق رابين وياسر عرفات على التزام السلطة بمحاربة العنف و"الإرهاب" وملاحقة مفتعليه، فنشأت معارضة ترى في هذا الاتفاق تصفية للقضية الفلسطينية، واندفع بعض أطرافها إلى مقاومته، عبر تصعيد العمل المسلح ضد الاحتلال، مقابل سلطة تأمل بتوسيع صلاحياتها ونطاقها الجغرافي، عبر مفاوضات مع الاحتلال، وتحقيق رؤيتها بالوصول إلى مفاوضات الحل النهائي، وتحصيل الحد الأدنى من مشروعها لحل الدولتين.
لذا فقد رأت السلطة أن هذا النمط من المعارضة من شأنه أن يجهض مشروعها، ويمنعها من تطبيق التزاماتها. لذا تصدت السلطة لمنفذي العمليات المسلحة ولأطرهم القيادية، وطاردتهم وسجنتهم، لكن إزاء حداثة السلطة، وقوة الدفع التي تمتعت بها في بداياتها، ووجود اتجاه لدى قطاع واسع يرغب في منح هذا المشروع فرصته، أمكن احتواء حدة الانقسام.
رأت السلطة أن هذا النمط من المعارضة لأوسلو التي لجأ بعض أطرافها إلى تصعيد العمل المسلح ضد الاحتلال من شأنه أن يجهض مشروعها
اندلعت الانتفاضة الثانية بعد فشل مفاوضات الحل النهائي، واتخذت طابعًا مسلحًا، وشجعها ياسر عرفات في البداية، على أمل إقناع الطرف الإسرائيلي بأن مفتاح أمنه بيد الجانب الفلسطيني، وشاركت في فعالياتها الفصائل الفاعلة كلها. ومع استشهاد ياسر عرفات، بل حتى في آخر أيامه، دُشّن عهد جديد، مرجعيته خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، أصبح بمنزلة "خريطة طريق"، عمودها الفقري "وجود قيادة فلسطينية تتصدى بحزم للعنف والإرهاب"، ويشكّل ذلك الخطوة الأولى الواجب اتخاذها، قبل إحراز أي تقدم في العملية السلمية، أو حتى البدء بمفاوضاتها.
بذلك، مهّدت خريطة الطريق وشروط الرباعية الدولية الطريق نحو الانقسام، الذي هو في جوهره انقسام سياسي على المشروع الوطني الفلسطيني، ولا يمكن حله إلا انطلاقًا من إدراك ذلك، وما عدا ذلك لن يتعدى المناورات السياسية المألوفة، أو الادعاء بتشكيل حكومات توافق وطني لا تعكس تمثيلًا حقيقيًا لطرفي الانقسام، ولا تملك من مضمون التوافق غير اسمه.
ثمة ثلاثة خيارات لإنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني، الذي تحول تدريجيًا إلى انقسام جغرافي ونشوء سلطتين ومراكز قوى ومصالح. وعمليًا، فقد جُرّبت هذه الخيارات الثلاثة من غير تحقيق أي إنجاز في مسارهما. يتمثل الخيار الأول في الاحتكام إلى اللعبة الديمقراطية، أي إجراء الانتخابات والقبول بنتائجها كاملةً، جُرّب ذلك في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، لكن لم تعمّر هذه التجربة طويلًا، إذ تم الانقلاب على نتائجها.
أعلن توني بلير مقرر الرباعية الدولية أن على حكومة حماس، أو أي حكومة تشارك فيها، أن تعترف بإسرائيل وباتفاق أوسلو، كشرط مسبق للتعامل معها. وأُغلق الباب على هذا الطريق بعد نكوص الرئيس محمود عباس عام 2021 عن مقررات الأمناء العامين، وإلغاء الانتخابات المقررة بموافقة ورضا إسرائيلي وإقليمي ودولي.
الخيار الثاني، ويتمثل في نشوء ظرف يحمل طرف من أطراف الانقسام على تغيير موقفه، كأن تخضع السلطة للضغط الشعبي، وتقر بفشل مشروعها السياسي، وتنهار بفعل إجراءات الاحتلال الرامية إلى تقليص صلاحياتها، وتحويلها بشكل كامل إلى أداة من أدوات الحكم العسكري. أو بالضغط على سلطة حماس عبر الحصار، والاجتياحات العسكرية الإسرائيلية، ومن خلال إجراءات السلطة الفلسطينية والضغوط العربية.
الخيار الثالث وهو الاتفاق على برنامج سياسي مشترك، وهي مسألة لا ريب في أنها تُنهي أي مبرر للانقسام، وتسمح بتشكيل أُطر فلسطينية موحدة، بما فيها الاتفاق على شكل السلطة الفلسطينية ومهماتها، وإعادة بناء منظمة التحرير، إلا أن الواقع؛ وعلى مدى عمر الانقسام الحالي، برهن على صعوبة الوصول إلى مثل هذا التوافق، على الرغم من بعض حالات الانفراج التي حدثت، ولها أسبابها.
مثل الموقف من صفقة القرن، أو نتائج اجتماع القاهرة، أو الاتفاق على إطار قيادي موحد، وهي اتفاقات لم ترَ النور، والسبب في ذلك أن لكل طرف برنامجه النقيض تمامًا لبرنامج الآخر، ويحمل إلغاءً كاملًا لمشروعه. ولذلك نجد إصرار الرئيس محمود عباس على ضرورة الموافقة على "برنامج السلطة الوطنية والتزاماتها"، وشروط الرباعية الدولية لأي طرف يريد المشاركة في السلطة الفلسطينية.
ثمة باب آخر قد يشكّل حلًا لمشكلة الانقسام السياسي والجغرافي المستعصية، وهو حل قائم على إبعاد السلطة الفلسطينية عن المشروع السياسي (نظريًا هي كذلك، إذ إن الطرف المعني بالمشروع السياسي، وحتى بالمفاوضات هي منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن توضع العربة أمام الحصان)، فلا يعود الالتزام بخريطة الطريق وشروط الرباعية شرطًا لتشكيل الإدارة التنفيذية، ولا يعود الاتفاق على برنامج سياسي شرطًا لإدارة شؤون المواطنين، وتتحول السلطة الفلسطينية إلى سلطة تقدم الخدمات لمواطنيها، أي تقدم لهم ما أمكنها من خدمات في قطاعات التعليم والصحة والبيئة والبلديات والأشغال والتنمية والكهرباء والماء والقضاء، والمهمات الشرطية المباشرة، دون تمييز جغرافي.
وتنقل الملفات السياسية إلى أروقة منظمة التحرير بعد إعادة بنائها، وهناك يمكن أن تتشكل أغلبية وأقلية، ويمكن للمعارضة أن تعبّر عن نفسها، وبذلك تعود منظمة التحرير الفلسطينية مظلة للفلسطينيين جميعاً. يعني هذا الاقتراح؛ أن تتخلى السلطة الفلسطينية عن وظائفها المتعلقة بكونها "حكومة تحت الاحتلال"، وبتلك المتعلقة بالتنسيق الأمني مع العدو، وأن تتحول إلى سلطة خدمات لشعبها.
من المرجح أن تتعرض السلطة في هذه الحالة إلى مضايقات وملاحقات وضغوطات من قبل سلطات الاحتلال، كما كان حال البلديات الفلسطينية المنتخبة قبل اتفاق أوسلو، فتبتعد بذلك عن الحلول والمفاوضات والترتيبات الأمنية، وتصبح خيارات الشعب الفلسطيني السياسية مفتوحة مجدداً، بعيداً عن أي اشتراطات حالية، وتصبح أشكال مقاومته كلها متاحة أيضًا.
يمكن لهذا الحل أن ينجح في ظل فشل المسار السياسي الحالي، وفي ظل حاجة الشعب الفلسطيني إلى الاحتفاظ بمؤسساته، بل وحاجته إلى تطويرها، وهي التي نجح في بنائها سابقاً رغم أنف الاحتلال وعبر نضاله الطويل.