أكد كبير المحللين العسكريين والاستراتيجيين في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بن باري، في لقاء مع "العربي الجديد"، أن الجيش البريطاني لم يعد قوياً كما كان، في إشارة إلى التحذيرات التي أطلقها جنرال أميركي رفيع المستوى في الخريف الماضي.
وكانت "سكاي نيوز" قد سرّبت قبل أسبوع تصريحات سرّية وجّهها الجنرال الأميركي إلى وزير الدفاع البريطاني بن والاس، محذّراً من تراجع المستوى القتالي للجيش البريطاني والقوات المسلّحة.
وأشار الخبير العسكري إلى أن حجم الجيش البريطاني خلال السنوات الماضية تقلص إلى نصف الحجم الذي كان عليه عندما انضمّ إلى صفوفه خلال الحرب الباردة. ومع أن الجيش الأميركي أيضاً فقد حجمه منذ ذلك الحين، إلا أنه تراجع بنسبة أقل من نسبة تقلص الجيش البريطاني.
وتشير أرقام وزارة الدفاع إلى أن الجيش البريطاني، وقوامه اليوم لا يتعدّى 72 ألف جندي، شهد تراجعاً كبيراً في عدد أفراده اعتباراً من النصف الأخير من القرن العشرين، إذ أخفقت كل المحاولات التي خاضتها بريطانيا للاحتفاظ بإمبراطورتيها التي اختفت فعلياً بحلول السبعينيات، مما قلّل أيضاً من عدد النزاعات التي شاركت فيها المملكة المتحدة.
ويعتقد باري أن الجيش البريطاني اليوم غير قادر سوى على إنتاج فرقة ميكانيكية واحدة، بينما يستطيع الجيش الألماني إنتاج فرقتين من هذا القبيل، وكذلك حال الجيش الفرنسي، موضحاً أن معدّات الجيش باتت قديمة جداً ومتداعية، حيث يعود تاريخ تصنيع العربات المصفّحة، والبالغ عددها ألف عربة، إلى الستينيات والسبعينيات، بينما يبدو سلاح الجو الملكي والبحرية الملكية بحالة أفضل بكثير فيما يخصّ التحديث، إذ بنيت أقدم سفينة تابعة للبحرية الملكية في أواخر التسعينيات، وبنيت أقدم مقاتلات القوات الجوية الملكية عام 2003.
باري: ليس واضحاً حتى الآن بالنسبة إلى المراقبين، ما إذا كانت الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة والقيادات العليا في الجيش، كافية أو ملائمة لمتطلّبات اللحظة الراهنة أو سريعة بما يكفي، مقارنة مع بعض الجيوش الأخرى في حلف شمال الأطلسي
وكانت التصريحات التي سرّبتها "سكاي نيوز" قد فتحت جدلاً واسعاً حول ضرورة إجراء تحديثات عاجلة في قطاع الجيش، وسط تصاعد المخاوف من خطر الغزو الروسي على أوكرانيا، ومن الحروب غير التقليدية والمخاطر التي أدرجتها الحكومة في مراجعتها العسكرية السنوية. كما أثارت تلك المخاوف أسئلة إضافية حول أداء حكومات حزب المحافظين المتعاقبة منذ وجودهم في الحكم قبل 13 عاماً.
يشير باري إلى أن الحكومة على علم بكل هذه المعطيات المقلقة، وأنها أجرت في عام 2021 ما سمته المراجعة الشاملة والمتكاملة للسياسة الخارجية والأمن والدفاع والتنمية، وأقرت انطلاقاً منها خطة لتحديث القوات المسلحة الثلاث. إلا أن الخطة بحسب باري استندت في حينه إلى فرضية إنجاز هذا التحديث بحلول نهاية العقد، في غياب تهديد تقليدي روسي. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا قضى على تلك الفرضية، ما دفع الجيش والحكومة إلى ما يسمّى بالتحديث الذاتي وبخطوات سريعة إلى الأمام.
وليس واضحاً حتى الآن بالنسبة إلى المراقبين، ما إذا كانت الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة والقيادات العليا في الجيش البريطاني كافية أو ملائمة لمتطلّبات اللحظة الراهنة أو سريعة بما يكفي، مقارنة مع بعض الجيوش الأخرى في حلف شمال الأطلسي، خاصة أن الجيش البريطاني لديه أصلاً بعض نقاط الضعف مثله مثل الجيش الأميركي.
وكان لافتاً ألا تثير التصريحات المسرّبة جدلاً بريطانياً أميركياً، لا سيما وسط انعدام اليقين الذي خلّفه الغزو الروسي على أوكرانيا، والأزمات الحقيقية التي تعيشها المملكة اليوم، في ظلّ غلاء المعيشة، وارتفاع أسعار الطاقة والوقود، وعجز الملايين عن تأمين الاحتياجات الأساسية، إضافة إلى شلل كبير تعاني منه قطاعات حيوية عدة كقطاع الصحة والنقل العام والتعليم وغيرها. إلا أن معظم الأطراف المعنية في الحكومة البريطانية، ووزارة الدفاع، اعترفت بحجم التضاؤل الذي ألمّ بالجيش والقوات المسلحة وبضرورة الاستثمار والرسملة والتحديث بشكل عاجل.
ويضيف باري أن الجيش الأميركي على الرغم من نقاط ضعفه، إلا أنه قادر على خوض حرب مدرعة بالوحدات والتشكيلات والمركبات، كما هو حال بعض جيوش "ناتو"، وهو أمر مهمّ وحاسم للغاية، وقد أثبتت صحّته الحرب في أوكرانيا. كما أن الجيش الأميركي يتميز، بحسب باري، بتشكيلاته القتالية المكوّنة من 15 ألف عنصر يقودهم لواء، إذ تتكون معظم الجيوش الكبرى وفرقها العسكرية، بما فيها الجيش الأميركي، من ثلاثة ألوية، في حين أن الجيش البريطاني بفرقته الميكانيكية الثقيلة الواحدة لديه فقط لواءان مدرّعان.
باري: تخفيض الإنفاق الدفاعي بشكل حاد من نسبة 5.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1984، إلى 2.2 بالمائة عام 2004، كانت له التداعيات الأبرز على تضاؤل عدد أفراد الجيش البريطاني وقدراته الدفاعية
ويوضح باري أن تخلّي الجيش البريطاني عن مركبة المشاة المدرّعة القتالية، مثل مركبة برادلي الأميركية ومركبة ووريور البريطانية، ليكون بذلك الجيش الوحيد في حلف "ناتو" الذي يتخلّى عنها لأسباب تتعلق بعدم القدرة على تحمّل تكاليف كل التحديثات المطلوبة. وبالتالي، ليس واضحاً اليوم ما إن كان الجيش يمتلك مخزوناً كافياً من الإمدادات وقطع الغيار.
يُذكر أن تخفيض الإنفاق الدفاعي بشكل حاد من نسبة 5.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1984، إلى 2.2 بالمائة عام 2004 كانت له التداعيات الأبرز على تضاؤل عدد أفراد الجيش وقدراته الدفاعية. ويعزو باري عدم فعالية الجيش بشكل أساسي إلى ضعف الاستثمار المتواصل والمستمر في قضية تحديثه على مدار الثلاثين عاماً الماضية.
وعلى الرغم من الأموال الطائلة التي خصّصت لتحديث معدّاته خاصة في أفغانستان والعراق، إلا أن ذلك التمويل كان يرمي إلى مكافحة التمرد وليس للقتال في مناورة حربية. كما أن قضية التأخّر في تحديث برامج صيانة الآلات والمعدات شكّلت تحديات إضافية. فبرنامج صيانة المركبات المدرعة المتوسطة واجه صعوبات كبيرة عام 2007، وتم سحب تمويله، بالضبط كما حدث مع نظام مدرّعة أجاكس البريطانية الذي كلّف الحكومة ما يقارب الـ5 مليارات، إلا أنه ما يزال متأخراً.
وعما إذا كانت المملكة في شبه حالة حرب اليوم، يقول باري إن العالم بأسره يعيش حالة خطيرة بعد الحرب المروّعة التي قادتها روسيا ضدّ أوكرانيا، والتي قد تشهد تصعيداً في مرحلة من المراحل، مذكّراً بالتوتر الكبير بين إيران من جهة ودول الخليج والولايات المتحدة من جهة أخرى، إضافة إلى التوتر الكبير بين الصين وجيرانها في تايوان واليابان في بحر الصين الجنوبي. وأيضاً هناك كوريا الشمالية المسلحة نووياً بشكل خطير. العالم، كما يقول باري، يعيش حالياً حالة حرب وسط منافسة مستمرة وخوف من تصعيد محتمل أو انفجار ما.