لم تصل المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، بين العسكر والمدنيين في السودان إلى أي نتائج عملية حتى الآن، رغم انقضاء مهلة حددها المدنيون للتوقيع على اتفاق مبدئي.
وكانت قوى إعلان الحرية والتغيير أعلنت، في 16 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، أنها ستوقع على "اتفاق إطاري" (مبدئي) مع الجيش يضمن تشكيل حكومة مدنية بالكامل، مشيرة، وقتها، إلى أن الاتفاق جزء من عمل سياسي لإنهاء الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان العام الماضي.
وانتهت يوم السبت الماضي المهلة التي أعلنتها "الحرية والتغيير" ولم يحدث ما وعدت به، فيما تطفو على السطح، في بعض الأوقات، تعقيدات سياسية، ويتزايد النشاط المناوئ لفكرة التسوية بين العسكر والمدنيين.
وكان "تحالف الحرية والتغيير ــ الكتلة الديمقراطية" (وهو تحالف سياسي جديد)، تحفظ على التفاهمات بين العسكر وقوى تحالف الحرية والتغيير، والتي بدأت منذ يوليو/تموز الماضي برعاية سعودية أميركية، وتوسعت لاحقاً عبر لجنة رباعية تضم أميركا والسعودية والإمارات وبريطانيا، بينما تُشرف الآلية الثلاثية، المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة التنمية الحكومية "إيغاد"، من بعيد، على بعض التفاصيل الخاصة بالصياغات النهائية والتجهيز والتسهيل للحوار.
استبعد إبراهيم توقيع "الحرية والتغيير" منفرداً على اتفاق
واستندت المفاوضات إلى مشروع دستور انتقالي اقترحته نقابة المحامين السودانيين المحسوبة على تحالف الحرية والتغيير. وجرى نقاش كثيف حول مشروع الدستور، الذي رحبت به اللجنة الرباعية قبل أن تسوقه للعسكر الذين وافقوا عليه مع اقتراح بعض التعديلات التي وافقت عليها قوى إعلان الحرية والتغيير.
وتوسعت بعد ذلك، دائرة القبول بالمشروع لتشمل، إضافة إلى تحالف الحرية والتغيير، كلا من المؤتمر الشعبي (حزب الراحل حسن الترابي)، والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل فصيل محمد الحسن الميرغني، وجماعة أنصار السنة. كما وافقت ثلاث من الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام مع الحكومة على مشروع الدستور.
خطة "الحرية والتغيير" مبنية على مرحلتين
وبنى التحالف خطته في التفاوض مع العسكر على مرحلتين، الأولى هدفها التوصل لاتفاق إطاري يُبنى على التفاهمات التي جرت بين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري وأطراف قوى الانتقال الديمقراطي، والثانية هي مرحلة الاتفاق النهائي، وفيها يتم تطوير الاتفاق الإطاري بمشاركة واسعة من بقية القوى السياسية وأصحاب المصلحة.
وسيشمل الاتفاق النهائي ملفات خاصة بالعدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري، وتطوير اتفاق السلام الموقع بين الحركات المسلحة والحكومة في العام 2020، بالإضافة إلى ملف تفكيك نظام الرئيس المعزول عمر البشير وإنهاء هيمنته على مؤسسات الدولة.
ما بين مهلة العشرة أيام وتاريخ اليوم، استمر الحراك الخاص بالتفاوض، حيث جلس ممثلون عن العسكر وعن "الحرية والتغيير" حول طاولة مفاوضات مرة واحدة، فيما اجتمعت الآلية الثلاثية بالعديد من الأطراف، آخرها أول من أمس الأحد، حيث التقت بكل القوى السياسية المؤيدة لمشروع الدستور الانتقالي المقدم من نقابة المحامين. كما عقد تحالف الحرية والتغيير اجتماعاً أجاز فيه تصوراً نهائياً للاتفاق الإطاري، وبعث به إلى قوى سياسية أخرى للتعليق عليه، وشرع في استلام ملاحظاتها.
محاولة عرقلة الاتفاق بين العسكر و"الحرية والتغيير"
في موازاة ذلك، سعى مناهضو التقارب بين العسكر و"الحرية والتغيير" نحو عرقلة الاتفاق المرتقب، خصوصاً "تحالف الحرية والتغيير ــ الكتلة الديمقراطية"، برئاسة جعفر الميرغني، والذي تم الإعلان عن تأسيسه في 3 نوفمبر الحالي.
وأكد "التحالف" الجديد، في أكثر من مناسبة، رفضه لما يدور في الغرف المغلقة بين المكون العسكري و"الحرية والتغيير"، باعتباره اتفاقاً ثنائياً يعيد تجربة الشراكة بين الطرفين. كما واصل تحالف نداء السودان، المحسوب على النظام القديم، حملاته ضد التقارب، وسير، أخيراً، موكباً نحو مقر بعثة الأمم المتحدة رفضاً لما يعدُه تدخلاً منها في الشأن الداخلي وفرض الحلول على السودانيين.
كما تعرضت العملية السياسية بين العسكر و"الحرية والتغيير" إلى اختبار، عقب مقتل اثنين من المتظاهرين في مواكب مناهضة للانقلاب يومي 23 و25 الشهر الحالي، وهو ما أشعر تحالف الحرية والتغيير بالقلق، معتبراً، في بيان، أن "العنف تجاه المتظاهرين السلميين واحد من محاولات عرقلة العملية السياسية الجارية".
ومع ذلك التأخير والتأجيل، سعى نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) لمنح مزيد من قوة الدفع للتسوية السياسية. وأكد، خلال لقاء جماهيري أول من أمس، دعمه الشخصي للتسوية، موجهاً رسائل مبطنة لكل من يقف ضدها، بمن فيهم أنصار النظام السابق و"الحرية والتغيير ــ الكتلة الديمقراطية"، أو متردد حيالها حتى داخل المكون العسكري.
وتيرة الحل تمضي بشكل جيد
واعتبر المتحدث باسم تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير شهاب إبراهيم أن "وتيرة الحل السياسي للأزمة السياسية في البلاد تمضي بشكل جيد حتى الآن، رغم ما يلازمها من بطء".
ووضع "البطء في إطار رغبة التحالف وإلحاحه على فتح أبواب النقاش والتداول بشكل واسع، ليس لصالح الاتفاق الإطاري وحده، بل بخصوص الاتفاق النهائي أيضاً، لكي يستوعب قوى سياسية حقيقية، تنضم للقوى الداعمة للانتقال الديمقراطي".
وأشار إلى أن تحديد سقف 10 أيام كان من باب التقديرات السياسية، وأنهم اكتشفوا أهمية الحاجة لمزيد من الوقت للنقاش مع الآخرين. وأوضح إبراهيم، لـ"العربي الجديد"، أن التحالف يستهدف قوى جديدة، مثل لجان المقاومة السودانية، وأساتذة الجامعات والمجموعات النسوية، والأجسام المطلبية في الولايات. وبيّن أن بعضاً منها تفاعل مع تصورات "الحرية والتغيير"، وأرسل ملاحظاته حول الاتفاق الإطاري وما يجب أن يكون عليه الاتفاق النهائي.
واستبعد إبراهيم فكرة توقيع تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير منفرداً على اتفاق "لحرصه الشديد على إشراك أكبر عدد من قوى الثورة والقوى الأخرى التي رفضت انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول (2021)".
وتوقع أن يتم الأسبوع المقبل الإعلان عن تشكيل كتلة سياسية جديدة هدفها مساندة الحل السياسي وآلياته. وحول رفض جزء من الشارع وشريحة من القوى الثورية المعارضة للانقلاب لمبدأ التسوية مع العسكر، أقرّ إبراهيم بأن لهذا الأمر تأثير على محاولات التوصل إلى حل سياسي، لكنه أشار إلى أن وتيرة الرفض تقل بنسبة كبيرة بمجرد مناقشة محتوى ما تم التوصل إليه، وهو حسب تقدير "الحرية والتغيير" يحقق الكثير من مطالب الثورة.
وحول جدية العسكر هذه المرة، رأى إبراهيم أن تحالف قوى الحرية والتغيير غير معني بجديتهم أو عدمها، لأنه يدرك أنهم وصلوا لهذه المرحلة من التنازلات جراء تواصل الضغط الشعبي والحراك الدبلوماسي. وبيّن أن "العسكر يراهنون بشكل أساسي على تفكيك الحركة الجماهيرية وخلق انقسامات داخلها، وهذا ما يتعامل معه التحالف بترياق مضاد، لخلق أكبر جبهة تحسن شروط الحل السياسي لصالح الدولة المدنية الديمقراطية".
تأخير التوقيع نتيجة لظهور شارع مناوئ للتسوية
في المقابل، فإنّ القيادي في تحالف "نداء أهل السودان" عمار علاء الدين رأى أن تأخير التوقيع على الاتفاق الإطاري هو نتيجة لظهور شارع جديد مناوئ للتسوية السياسية وما يكتنفها من تدخلات خارجية، وهو ما ظهر من خلال مواكب الكرامة التي سيرها نداء أهل السودان في الأسابيع الماضية، ومن خلال الاستقبال الشعبي الكبير الذي حظي به رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني، وهو من أبرز الرافضين للتسوية السياسية بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمكون العسكري.
وأضاف علاء الدين، لـ"العربي الجديد"، أن "الشارع الجديد دفع اللجنة الرباعية لتقليل جرعات دعمها وضغطها من أجل التسوية السياسية"، معتبراً أن "المكون العسكري نفسه فقد حماسته للتسوية بعد شعوره بموجات الرفض".
وقال إن "الخلافات داخل المنظومة المؤيدة للحل السياسي عطلت التوقيع على الاتفاق الإطاري، وذلك عقب تصريحات من الحرية والتغيير قسمت فيها القوى المؤيدة إلى "قوى ثورة" من حقها أن تستحوذ على كل شيء وقوى "انتقال" عليها البقاء على الهامش. هذا عدا عن التعديلات التي جرت على مشروع الدستور، ما دفع كثيرين للتراجع عن تأييده".
واعتبر علاء الدين أن "موضوع التسوية السياسية برمته في طريقه للفشل، ولا مجال أمام المكون العسكري سوى الدعوة إلى طاولة مستديرة يدعو لها كل المكونات السياسية لمناقشة المبادرات الحالية والتوافق على وثيقة واحدة لإدارة الفترة الانتقالية بوفاق شامل، انتهاء بقيام انتخابات حرة ونزيهة".
عمار علاء الدين: موضوع التسوية برمته في طريقه للفشل
أما أستاذ العلوم السياسية صلاح الدومة فعزا تأجيل خطوات الحل السياسي لنشاط ما أطلق عليه "الكتلة الخبيثة" التي يديرها النظام القديم، وهو نشاط هدفه الرئيس عرقلة أي جهد لا يعيده إلى السلطة مرة أخرى. واعتبر أن "أذرع تلك الكتلة تمتد لداخل كل الأحزاب لتمرير أجندتهم".
وأضاف الدومة، لـ"العربي الجديد"، أن تلك الكتلة بانتظار متغيرات سياسية محلية ودولية، تهيئ لهم مناخ الانقلاب على السلطة لإعادة ترتيب الأوراق من جديد". واعتبر أن "المخابرات المصرية جزء فاعل في أدوات فرملة التسوية السياسية بين المدنيين والعسكر، وقامت بعمل كبير أخيراً لتحقيق هدف إبقاء البرهان في سدة الحكم".
وحمّل المخابرات المصرية مسؤولية "دعم خطوة إغلاق الموانئ السودانية أثناء حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وحركت الفتنة على الحدود بين السودان وإثيوبيا، كما أنها حركت الآن أذرعها المدنية ووقفت وراء عودة محمد عثمان الميرغني للبلاد للحد من مساندة ابنه محمد الحسن الميرغني للتسوية السياسية". لكن الدومة قطع "بعدم نجاح الجهود المصرية، لأن السودانيين أدركوا أهمية توافقهم لإيصال بلادهم إلى بر الأمان".