"ترسيم الحدود بين أهل البلد ومحتلِّها يدفع إلى البكاء".
المصالح المتقاطعة التي اجتمعت على فرض ترسيم الحدود الجنوبية في المنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة للبنان مع الاحتلال الإسرائيلي، هي مصالح قوى الاحتلال والهيمنة إقليمياً، والدول الأوروبية والولايات المتحدة دولياً، والعصابات الحاكمة في لبنان محلياً، وهي في تناقض تام مع مصالح شعوب المنطقة، من إيران إلى لبنان مروراً بفلسطين.
فأيّة مصالح اجتمعت كي تفرض هذا الترسيم الذي يتبجح رؤوس السلطة اللبنانية في "إنجازه"؟ بدءاً من رئيس جمهورية أراد أن يتوج عهده الكارثي في كارثة يُروَّج لها كـ "انجاز"، لكنها تكبل اللبنانيين على مدى أجيال، فيما تفتح المدى كلّه أمام المحتل الإسرائيلي، كي يقتنص فرصةً ذهبيةً نادرةً.
يتبارى في ادعاء الفضل في توقيع الاتفاق كل من رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس حركة أمل، رئيس مجلس النواب، نبيه بري، وصهر رئيس الجمهورية، ورئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل. الثلاثة هم أكثر من نالتْ منهم انتفاضة 17 تشرين المجيدة، التي نعيش اليوم ذكراها السنوية الثالثة. فيما يقبع وراء العملية "الدولة" ويرشد "ترسيم" هذه الكارثة/الإنجاز "حزب الله" بكل ثقة ملوحاً بالمُسيّرات الخلبية.
على المستوى الدولي
الحرب الروسية على أوكرانيا، ونتيجتها المباشرة على قطاع الطاقة في أوروبا، التي اعتمدت على مدى سنوات سابقة ورسّخت اعتمادها هذا لعقود قادمة، على أنهار من الغاز الروسي البخس الثمن، في تغذية حاجاتها الضخمة للكهرباء، وفي الصناعات الكبرى والتدفئة، فجهزت البنى التحتية العملاقة لهذا، مكرسة تبعيتها لروسيا في هذا المجال الحيوي، حتى كانت الحرب التي هددت أمنها الطاقوي.
أوروبا المنحازة حكماً لأوكرانيا، بدفع شديد من الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها مضطرة للمساعدة على حلّ هذه المعضلة، والعمل العاجل من أجل تأمين بديل سريع للغاز الروسي أوروبياً، فكانت جولة المستشار الألماني، التي سبقتها جولة الرئيس الأميركي نفسه، إلى البلدان النفطية في منطقتنا العربية، وإلى الكيان الإسرائيلي، في محاولة لحل أزمة الطاقة، على التوازي مع تأمين الظروف اللازمة لاستخراج الغاز من بحر فلسطين بأسرع ما يمكن، دون أية عوائق سياسية، خصوصاً أمنية وتحديداً في المنطقة المحاذية للبحر اللبناني.
من جهة ثانية، يعيش النظام الإيراني أزمته القاتلة، بعد انفجار انتفاضة شعبية بالحجم والاتساع والإصرار الذي نشهده على مدى خمسة أسابيع، بات في وضع المُبتَزِّ في مفاوضاته المتعثرة بخصوص ملفه النووي مع الولايات المتحدة وحلفائها، ما دفعه إلى تقديم؛ بل فرض تنازلات في بحر لبنان، وربما في قضايا أخرى؛ كقضية تبادل السجناء، بات من السهل على الولايات المتحدة وحلفائها ابتزاز إيران، إذ إن سياسة العصا والجزرة أصبحت أكثر يُسرة (فاتِ تنازلات وخذ دوام الاعتراف واستمرار المفاوضات).
على المستوى الإسرائيلي
كان الاحتلال الإسرائيلي جاهزاً لاقتناص الفرصة الذهبية، التي تجلت في الحاجة الأوروبية المُلحّة للغاز، وبالأسعار التي تضاعفت مرات عدة بسبب هذه الحاجة، كل الدراسات وعمليات التنقيب التي أجراها الاحتلال على مدى أكثر من عقد، أكدت وجود كميات ضخمة من الغاز في حقول عديدة قبالة الشاطئ الفلسطيني المحتل والمنطقة المتنازع عليها مع لبنان، لم يتبقَّ أمام إسرائيل سوى استخراج هذا المخزون، وتأمين سبل تصديره.
أما ما يريده من ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع لبنان، هو فرض الاستقرار الأمني على المدى الطويل، كي تُقدم الشركات على العمل بأفضل الشروط الممكنة. وهنا، حصل الاحتلال على أكثر من ما كان يتمنى؛ حقل كاريش كاملاً، إضافة إلى تعويض مهم من حقل قانا، الذي تقول الاتفاقية أنه لبناني بالكامل(!)، وزيادة على ذلك، ربط عملية التنقيب والاستخراج اللبناني من حقل قانا، مع المفاوضات القادمة بين الاحتلال وشركة توتال الفرنسية، المعتمدة من قبل الحكومة اللبنانية، على نصيب الاحتلال من هذا الحقل كـ"تعويض"، هذه المفاوضات التي قد تستغرق سنوات.
إذا صحَّ كلام الخبير الدكتور عصام خليفة عن اتصال حقلي قانا وكاريش جيولوجياً، فإن هذه المفاوضات ستطول، ربما حتى يصبح حقل قانا غير قادر على انتاج كميات تجارية يعتدُّ بها.
بينما حصل الاحتلال على ما يريد ويزيد، في الوقت الأكثر أهمية نتيجة الحاجة للغاز الطبيعي وسعره المرتفع، ينتظر لبنان سنوات قد تطول أكثر من المتوقع، في انتظار وهم حل كارثته الاقتصادية والمالية، التي ورطته بها عصابات المافيا المتحكمة، التي يديرها حزب الله لتخدم أجنداته وأجندات مشغليه.
على المستوى اللبناني
عاشت القوى المسيطرة على السلطة في لبنان أوقاتاً عصيبةً قاتلةً على مدى شهور الانتفاضة الشعبية الكبرى، التي انطلقت في 17 أكتوبر/تشرين أول من العام 2019. هذه الانتفاضة التي عرّت قوى السلطة، وحطمت الهالة التي أحاطت قادتها، ومرّغت وجوههم في الوحل، فبات متعذراً عليهم الخروج إلى الأماكن العامة، أو ريادة المطاعم والمقاهي والحفلات، إلا إذا تحصّنوا بمواكب عسكرية وأمنية مدججة.
لن ننسى عبارة رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي قبل أشهر: "بدنا نروح ناكل بمطعم يا رجل!"، هذه العبارة التي عبّرت بوضوح عن الحصار الفعلي، الذي عانته القيادات والشخصيات السياسية من الناس، على مدى أكثر من سنتين، حين كان الناشطون من ثوار 17 تشرين يلاحقونهم إلى أماكن تواجدهم، ويذيقونهم صنوف التوبيخ والمهانة والبهدلة.
حتى أن القوى الخارجية وقيادات العالم، باستثناء الإيرانيين، كانوا يأبّون التواصل العلني مع قادة النظام اللبناني، ومنهم رئيس الجمهورية، الذي عاش عزلةً حقيقيةً لأشهر طويلةٍ، هذه العزلة التي كسرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بزياراته المتكررة إلى لبنان، ثم زيارات موفديه إليه بُعَيد تفجير مرفأ بيروت، الذي دمّر ثُلثَ العاصمة اللبنانية، وقتل المئات وأصاب الآلاف وشرد عشرات الآلاف، وألحق الأذى المعنوي بكل اللبنانيين، الذين اتهموا السلطة بالوقوف وراءه.
قوى السلطة اللبنانية، التي استعملت كل أسلحتها من أجل القضاء على انتفاضة 17 تشرين، والتخلص من آثارها، عملت بكل جهد واستغلت كل علاقاتها وأدواتها الإعلامية، ومقدراتها المالية كي تستعيد هيبتها وحضورها على الساحتين المحلية والخارجية، وكانت إدارتها الانتخابات الأخيرة ونتائجها مدخلاً لذلك.
لكن استمرار وتسارع وتيرة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي، وانهيار المؤسسات الخدمية، والشلل الإداري والأمني، والانعكاسات المريعة لكل ذلك على حياة الناس، دفعت المئات منهم إلى ركوب زوارق الموت، هروباً من "جهنم الوطن" من جهة، وحاجة قوى السلطة إلى "إنجاز"؛ ولو وهميّاً، تقدمه للناس، وتحديداً الجهة التي نالت الحظ الأوفر من "البهدلة" الشعبية خلال الانتفاضة من جهة أخرى، جعلها تُقبل بكلّ رضوخ على تقديم التنازل تلو التنازل، في مسيرة الابتزاز التي لم تَطُلْ، لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة جنوبي بحر لبنان، بدايةً من التخلي الطوعي عن الخط 29؛ وبالتالي التخلي عن حصة لبنان في حقل كاريش، والاعتراف للاحتلال بتعويضات غير محددة عن حقل قانا.
خط 29، المُثبت علمياً وتقنياً والمُدعم تاريخياً باتفاقات ترسيم حدود الانتداب بين بريطانيا وفرنسا، مطلع عشرينات القرن الماضي، واتفاق الهدنة بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي سنة 1949، الذي اعتمده الجيش اللبناني في المفاوضات غير المباشرة مع الاحتلال في الناقورة، بوساطة أميركية وبرعاية أممية، ما كان يَفرض تعديل المرسوم 6433 لسنة 2011 الذي اعتمد خطأً الخط 23، الذي رفضت السلطة اللبنانية تعديله قبولاً بالضغوط الأميركية، التي مارسها الوسيط آموس هوكستين، وصولاً إلى التراجع عن الملاحظات الأخيرة، حول بعض النقاط المحتلة، ومنها خط العوامات، الذي فرضه الاحتلال داخل الخط 23، الذي يمتد خمسة كيلومتر عن الشاطئ.
يتوج الرئيس اللبناني ميشال عون، قبل أيام من نهاية ولايته، عهده الكارثي بكارثة/إنجاز لم يحلم به اللبنانيون من قبل. فاتفاقية الترسيم التي يتبجح بها هو وباقي رؤوس العصابة الممسكة بالقرار اللبناني، أعلنت بوضوح تكبيل اللبنانيين على مدى أجيال، ومنع حصولهم على حقوقهم الكاملة والحقيقية في مياههم الاقتصادية الخالصة، وفتحت المجال أمام العدو المحتل ليبتز اللبنانيين في الأعوام القادمة، في حدودهم البرية، حيث لا يزال هناك العديد من النقاط التي يتمسك باحتلالها على الحدود البرية، وربما يطالب مستقبلاً بالمزيد.
كما أن الترسيم الكارثة/الإنجاز، الذي يَعِد اللبنانيين بوهم الثروة والتخلص من الفقر بعد سنوات الفقر، هو نتاج النهب الذي مارسه رؤوس مافيا السلطة أنفسهم، على مدى ثلاثين سنة لمقدرات البلد وعرق الناس ومدخراتهم، هذا الترسيم ليس له من الإنجاز إلا ما يتعلق بإعادة الاعتبار لهؤلاء المتسلطين في علاقاتهم الخارجية، التي باركها الرئيس الأميركي جو بايدن، في اتصاله النادر مع الرئيس اللبناني ميشال عون بغرض التهنئة.
اعتبر أركان النظام، موالاة ومعارضة، الترسيم إنجازاً، وبدأ التباري في ادعاء الفضل وبذل الجهود المضنية في "مفاوضات قاسية وعسيرة مع العدو على مدى أكثر من عشر سنوات"، حتى الوصول إلى هذا "الإنجاز"، الذي أمّن للبنان كامل حقوقه البحرية بين كل من نبيه بري وجبران باسيل. (أوف..كدني العَرَق!)، والجميع يعرف تمام المعرفة، أن مفاوضات الترسيم كانت تتحرك وفق حاجات بازار المصالح الخارجية أو الداخلية لأيام ثم تنام سنوات، بانتظار البازار السياسي القادم، إلى أن تقاطعات مصالح دولية، فرضت اتمامها بالشكل الذي انتهت إليه.
على المستوى الفلسطيني
لم أجد تعليقاً يُذكر من قبل السلطة الفلسطينية في رام الله وغزة، ولا حتى من الفصائل. كل ما وجدته هو تعليق ساخر لشاب فلسطيني في لبنان يقول: "إذا رجعت فلسطين بيصير حقل كاريش كله إلنا ونص حقل قانا؟".
خلاصة
استجابة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان مع الاحتلال الإسرائيلي لحاجات ومصالح دولية، تقاطعت على فرضها، جنى منها الاحتلال الإسرائيلي أمناً مديداً، وثروةً هائلةً، في فرصة ذهبية عرف كيف يقتنصها، وجنى منها قادة القوى المسيطرة لبنانياً، إعادة تأهيل نظام سيطرتهم خارجياً وربما داخلياً، وربما أيضاً مزيداً من نهب ديون جديدة، يُحمّلونها للأجيال اللبنانية القادمة، تسمح بها وعود استخراج النفط والغاز من بحر لبنان، بعد سنوات قد تطول.