فاجأ زعيم حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون الجميع بإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022، ليل أمس الأحد، إذ جرت العادة أن يختار اليسار مرشحه بالتوافق بين الأحزاب، وهو ما لم يحصل هذه المرة على ما يبدو مع انتقادات وجهت إليه، الأمر الذي يفتح الأبواب أمام أزمة لتيار اليسار وانقسامات جديدة.
ميلانشون الذي ترشح مرتين سابقاً للانتخابات الرئاسية عامي 2012 و2017، يبدو أنه يسير بعيداً عن الطريق التقليدي، مع إعلانه أنه سيحصل على ترشيحات 150 ألف مواطن فرنسي عبر منصة رقمية من أجل اعتماد ترشحه رسمياً، في "آلية أكثر ديمقراطية" من الآلية التقليدية التي تنصّ على قيام 500 رئيس بلدية بطرح اسم المرشح الرئاسي ليخوض السباق رسمياً، وفق ما قال في مقابلة على قناة "تي إف 1".
"نعم، أنا جاهز. أقترح ترشيحي (...) لدي برنامج، فريق جاهز للحكم. 2022 هو وقت التغيير. المجتمع في طريق مسدود. (...) لدينا الوسائل للابتكار، للقيام بالأشياء بشكل مختلف، لإلغاء الملكية الرئاسية (...) أنا قطب من الاستقرار"، هكذا جاء إعلان ميلانشون المفاجئ. ليضيف وكأنه الحل السحري لأزمات فرنسا بالقول: "عندما يكون كل شيء سيئ ويبدو وكأنه ليلة مظلمة، يتعين عليك إشعال النور حتى تعتقد أن هناك نهاية للنفق".
لكن اللافت أن فكرة ميلانشون عن حصوله على ترشيحات شعبية بدل رؤساء البلديات ليست مجرد استعراض قوة، بل تعكس عمق الأزمة في صفوف اليسار، إذ بمجرد طرحه هذه الفكرة هو يحاول القول إنه يتمتع بقاعدة شعبية في اليسار لا تتمتع بها أي شخصية سياسية أخرى، وهذا أمر لا يمكن لأحد أن يتجاهله، ما سيسمح له بالتأسيس لتوازن قوى ملائم في المناقشات المستقبلية مع الشركاء اليساريين، خصوصاً أن أوساط هذا السياسي المثير للجدل تتحدث بكثرة أخيراً عن أن فكرة أن يكون هناك مرشح واحد من اليسار هي مجرد وسيلة لمنع ترشح جان لوك ميلانشون.
وفي أول موقف قد يحمل تبعات، أو ربما يكون الشرارة الأولى لاعتراض اليسار على ترشح ميلانشون، قال السكرتير الأول للحزب الاشتراكي أوليفييه فور، في مقابلة على قناة "إل سي إي"، اليوم الاثنين، إن ما فعله ميلانشون لم يكن موفقاً: "هل تعتقد أن هذا هو الوقت المناسب؟ في خضم أزمة صحية واقتصادية واجتماعية، والإرهاب في أقصى درجات التأهب".
وأضاف ساخراً "فتح إيمانويل ماكرون زجاجة نبيذ جيدة الليلة الماضية. لأن اليسار ودعاة حماية البيئة بحاجة إلى أن يجتمعوا إذا كانوا يريدون الفوز. وجميع أولئك الذين من خلال مغامراتهم الشخصية (...) بطموحاتهم الأنانية، يهددون هذا التجمع المحتمل ويفرشون السجادة الحمراء تحت أقدام إيمانويل ماكرون".
صحيفة "لوموند" قالت، الاثنين، إنه ما من شك في دخول ميلانشون سباق الرئاسة بحملة انفرادية، لا سيما أنه ومساعدوه يدركون ضعف الكتلة اليسارية التي تقدر في استطلاعات الرأي بحوالي 25٪ إلى 30٪ من الأصوات. وإذا أراد اجتياز الجولة الأولى، فعليه أن يجمع العديد من القوى حوله، وبالتالي هو طرح مسألة حصوله على 150 ألفاً من الترشيحات الشعبية ليحرج بها الشيوعيين وينتزع دعمهم من البداية، إذ من المفترض أن يكون للحزب الشيوعي الفرنسي.
ردّ الحزب جاء سريعاً، لكنه غامض إلى حدّ لا يمكن أن يكون جواباً على هذه التساؤلات. وقال السكرتير الوطني للحزب فابيان روسيل: "قام جان لوك ميلانشون باختياره. أنا أحترمه. سوف يقوم الشيوعيون بعملهم في الوقت المناسب. في الوقت الحالي، الأولوية هي مواجهة الوباء، والمقاومة والعمل من أجل إخواننا المواطنين".
لكن في المقابل، لدى ميلانشون حظوظ جيدة إذا ما بلور تحالفاً مع اليساريين من جماعة أنصار البيئة، المعروفين باسم "الخضر"، وهم للتو حققوا نتائج في غاية الأهمية خلال الانتخابات البلدية مع اكتساحهم العديد من بلديات المدن الكبيرة، مثل مرسيليا وليون، منهين هيمنة حزب اليمين عليها لسنوات طويلة.
وفي صفوف أنصار البيئة، تنحصر المنافسة المعروفة حتى الآن بين بانيك جادو وإريك بيول وساندرين روسو، لكن الحزب لم يعلن إطلاقاً، لا علناً ولا بالهمس، عن نيته تقديم مرشح بعد، ما يسمح لميلانشون بالاستفادة من هذا الفراغ في صفوف "الخضر"، فهو مقرب منهم بشكل يسمح له بارتداء قبعة المرشح البيئي بسهولة.
من جهة ثانية، تقول "لوموند" إن ترشح ميلانشون يمكن أن يعرقله الترشح المحتمل للاشتراكي ووزير الصناعة الأسبق أرنو مونتبورغ، الذي بات يفضل أخيراً السباحة في "المياه الأيدولوجية" ذاتها التي يفضلها ميلانشون، ويمكن أن يكون منافساً جاداً له، إذا ما اتفق اليسار على تسميته، لا سيما أنه كان مرشحاً لانتخابات عام 2017.
يشار إلى أنه في انتخابات عام 2017، حقق ميلانشون أرقاماً كادت أن تؤهله لخوض جولة ثانية من الانتخابات، تنافس بها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، وهذا سيناريو ليس واضحاً بعد إن كان سيتكرّر في الانتخابات المقبلة، ففي الشكل هو مشابه تماماً لما جرى عام 2017، عندما أعلن ترشحه على القناة ذاتها والبرنامج التلفزيوني ذاته، لكن هذه المرة تبدو مارين لوبان أقرب منافسيه في الانتخابات الماضية، متقدمة بشكل مريح في استطلاعات رأي عدة، كما أن سمعة ميلانشون تغيّرت بشدة خلال الأعوام الأخيرة.
ويتهم ميلانشون الأحزاب السياسية ووسائل إعلام بالسعي إلى تشويه صورته أمام الفرنسيين، كما أنه نال، أواخر عام 2019، حكماً بالسجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ وغرامة 8 آلاف يورو، لإدانته بتهم "التمرد والتحريض" بعد المداهمة التي يذكرها الفرنسيون جيداً لمقر حزبه في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018. وقال حينها إن حكم المحكمة مسيّس، مندّداً بتوقيت هذه الإدانة التي تزامنت مع اتساع رقعة الحراك الشعبي ضد إصلاحات النظام التقاعدي.