تجمع الأطراف السياسية التركية في الفترة الأخيرة، على مسألة حاجة البلاد لإعداد وكتابة دستور جديد وإقراره. إلا أن هذه الأطراف منقسمة فيما بينها من ناحية النظرة للدستور الجديد، والسباق في سرعة إنجاز المسودة، وإقناع الناخبين بصحة مطلب كل طرف، خصوصاً بعد الإعلان، أخيراً، عن اكتمال أول مسودة من قبل حزب الحركة القومية.
ويبدو أن مسألة الدستور ستكون من المحددات الهامة لمرحلة ما قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المنتظر إجراؤها في العام 2023، لأن إقرارها قبل ذلك قد يؤثر على العملية الانتخابية، أو أنها قد تكون ورقة سياسية بيد الأطراف، وقد تؤثر على نتائج الانتخابات، فهناك إجماع سياسي وشعبي على ضرورة إعداد دستور جديد، عوضاً عن الدساتير التي أقرت بعد الانقلابات العسكرية في 1961 و1982 وهي دساتير انقلابية، ولم تنفع تعديلات عديدة بالتوصل إلى تغيير شامل يتعلق بالحقوق والحريات.
بدأت النقاشات حول موضوع إعداد دستور جديد من قبل المعارضة قبل نحو عامين
وبدأت النقاشات حول موضوع إعداد دستور جديد من قبل المعارضة قبل نحو عامين، مع انتقادات عديدة طاولت نظام الحكم الذي تغير من البرلماني التعددي إلى الرئاسي في العام 2018، وهو ما أثار حفيظة المعارضة، التي اتهمت الرئيس رجب طيب أردوغان بالسعي لصلاحيات تجعله المسيطر على كامل مفاصل الحكم في البلاد، وإلغاء مبدأ فصل السلطات ومسألة الرقابة على المؤسسات بين بعضها البعض. وتطالب المعارضة بعودة النظام البرلماني التعددي المعزز، ليفسح المجال للرقابة وتبادل الحكم، فيما دافع التحالف الجمهوري الحاكم عن النظام الجديد، بأن أقوى دول العالم، مثل أميركا وفرنسا، تتمتع بهذا النظام، القادر على تلبية السرعة في تنفيذ القرارات، معتبراً أن النظام البرلماني مليء بالبيروقراطية.
والدستور الحالي هو الذي أقر في 1982، وحصلت عليه تعديلات 19 مرة. وترى أوساط قانونية أن معدل عمر الدساتير العام يبلغ 19 سنة، ولكن حصلت تعديلات عديدة على الدستور الحالي، وصلت فيه إلى نظام رئاسي، وطريقة تعيين المحكمة الدستورية العليا والمجلس الأعلى للمدعين العامين والقضاة من قبل الرئيس، وهو ما أضعف السلطة القضائية وأثر على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث. وفي الوقت نفسه، فإن المعارضة تطالب بعودة النظام البرلماني عبر رئيس حكومة قوي، لديه من الصلاحيات الكافية لمواجهة الرئيس. كما أن من المطالب بالتغييرات، أن يكون الرئيس حيادياً من دون أن ينتمي لأي حزب سياسي، بمعنى أن يكون رئيساً لجميع المكونات المجتمعية.
وحالياً، وفق التعديلات الأخيرة على الدستور فإن الرئيس يحق له الانتماء لأي حزب يريد، وهو ما قلل الثقة بنزاهة الرئيس الذي يفترض أن يكون لجميع المواطنين حسب ما تقول المعارضة. كما أن النظام الرئاسي يعطي الرئيس حقوقاً كبيرة في التعيينات المرتبطة بالوزارات ونواب الوزراء والمسؤولين، ما قلل من سلطة البرلمان الرقابية. ولهذا فإن أبرز المواد التي تطالب المعارضة بتغييرها هي تلك المتعلقة بالقضاء، وبنظام الحكم البرلماني، وصلاحيات الرئيس، والتي ترتبط مباشرة بالحقوق والحريات الفردية في البلاد.
أما التحالف الحاكم فيرى من ناحيته أن هناك بنوداً ثابتة لا يمكن تقديم تنازلات فيها، من شكل الدولة وتعريف المواطنين، فيما المواد التي تحتاج للتغيير هي المتعلقة بالحقوق والحريات وفسح مجال كبير لها، وتعزيز ضمان حرية التعبير بشكل يتناسب مع خطة عمل إصلاح الحقوق والحريات التي أعلن عنها أردوغان وفق المعايير الأوروبية، ورفع أي قيود موضوعة فيما ينظم حقوق الأفراد والمواطنين. ومن المواد التي يطالب بتغييرها تلك المتعلقة بالحد الأدنى المطلوب في الانتخابات لدخول مجلس النواب، والمعروفة اصطلاحاً بالعتبة البرلمانية، حيث هناك مطالب بتخفيض النسبة، التي تبلغ حالياً 10 في المائة من الأصوات إلى 5 في المائة. ولتغيير الدستور يحتاج البرلمان إلى 400 صوت من أصل 600، أي بأغلبية الثلثين. كما يحتاج إلى 360 صوتاً لعرض الدستور الجديد، أو التغييرات، على الاستفتاء الشعبي. وفي كلتا الحالتين لا يمتلك التحالف الحاكم هذه الأغلبية، حيث يبلغ عدد نواب حزب العدالة والتنمية الحاكم مع حلفائه 337 نائباً فقط.
تطالب المعارضة بأن يكون الرئيس حيادياً وألا ينتمي لأي حزب سياسي
وفي أحدث حلقات السعي المحموم بين التحالف الحاكم وتحالف الشعب المعارض، أعلن زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت باهتشلي، شريك "العدالة والتنمية" في الحكم، الثلاثاء الماضي، عن مقترح لدستور جديد، مكون من 100 مادة، استجابة لدعوة أطلقها أردوغان قبل أشهر لإعداد دستور جديد، انسجاماً مع مطالب المعارضة التي تلاقي صدى شعبياً، ليحقق بذلك سبقاً على المعارضة التي لم تعلن عن أي مشروع لها، رغم تكثيف تبادل الزيارات والمشاورات، والحديث عن اقتراب تحقيق المسودة، خصوصاً مع تأسيس رئيس الوزراء السابق علي باباجان حزب "دواء"، منشقاً من حزب العدالة والتنمية، ومعرفته بخفايا سياسة الحزب الحاكم وأردوغان.
وأوضح باهتشلي، في مؤتمر صحافي، أن حزبه "أتم مرحلة التجهيز لمقترحه بشأن دستور جديد مكون من 100 مادة، وبات من الواجب الوطني الاتفاق وإعداد دستور جديد للبلاد، وأن على جميع الأحزاب السياسية المشاركة في إعداد دستور جديد، بمعزل عن الأحكام المسبقة والتشكيك والشبهات". واعتبر أن "الجهات السياسية التي ستتهرب من المشاركة في إعداد الدستور الجديد للبلاد، بحجج مختلفة، ستدفع ثمن ذلك في صناديق الاقتراع"، حيث يعتزم الحزب تقديم مقترحه لحليفه بداية، ومن ثم لبقية الأحزاب السياسية، قبل الكشف عنه للرأي العام.
وعقب الإعلان من قبل باهتشلي، رحب حزب "العدالة والتنمية" بالمقترح الجديد، فيما اعتبر كمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري أبرز أحزاب المعارضة، أن عرض الدستور الجديد "تهرّب من الاستحقاقات اليومية للمواطن التركي المتعلقة بالوضع الاقتصادي ولقمته". ويُتوقع أن تستمر المناقشات في الأيام المقبلة ضمن هذا الإطار، وصدور ردود فعل لاحقة، خصوصاً أن هذا الإعلان سيؤدي إلى تحفيز المعارضة والعمل أكثر للتوافق على مسودة الدستور. ولكن كل طرف يعاني من نقاط سلبية تؤثر عليه، فاستطلاعات الرأي تظهر تراجع التحالف الحاكم، الذي لديه تحدي الحصول على النسبة الكافية لتمرير أي دستور، والمعارضة منقسمة ما بين يسار ويمين، وهناك خلافات بين الأحزاب القومية والكردية. ويبدو من المستحيل وجود نقطة تلاق بين الحكومة والمعارضة، بسبب دفاع كل طرف عن نظام حكم مختلف، وهو ما يعني أن مسألة الدستور ربما تبقى عالقة في الفترة المقبلة، ومسار شد وجذب بين الأطراف السياسية، ربما تستمر لما بعد الانتخابات المقبلة.
علي باكير: لا يوجد خلاف حول وضع الدستور، ولكنْ هناك خلاف حول أهداف ودوافع الأطراف السياسية
الكاتب والباحث بالشأن التركي في جامعة قطر، الدكتور علي باكير، قال، لـ"العربي الجديد"، حول إشكالية الدستور الجديد والأهداف منه والدوافع له، "أعتقد أن خطوة إعداد دستور جديد للبلاد مهمة للغاية، بالنظر لأن الدستور القديم وقع في عهد الانقلاب الأول في تركيا، وتم إدخال تعديلات عديدة عليه، لكنه لم يلب الطموحات الشعبية. والآن تركيا باتت في موقع مختلف، وهناك حاجة إلى دستور جديد يعبر عن هذا الواقع، ويعزز من الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية للشعب. وأعتقد أن الخطوة في غاية الأهمية من ناحية الدوافع". وأضاف "هناك أهداف بالنظر إلى الانتخابات المقبلة في العام 2023، وربما تحصل تعديلات تؤثر على آلية الانتخابات وعلى صلاحيات الرئيس ومدة وصلاحية انتخاب الرئيس، وكلها مواضيع مهمة ذات إشكالية بالنسبة لبعض الفرقاء السياسيين. ومجرد طرحه للنقاش أمر مهم ومفيد للجميع. ولا يوجد خلاف حول وضع الدستور، ولكنْ هناك خلاف حول أهداف ودوافع الأطراف السياسية. أعتقد أن الصراع ينطلق من تخوف المعارضة من أن يستغل التحالف الحاكم طرح مشروع الدستور في الانتخابات المقبلة، وهو تخوف كبير ورئيسي، وهناك تخوف في مضمون بعض التعديلات المقترحة فيما يتعلق بصلاحيات الرئيس وانتخابه".
من جهته، قال الصحافي يوسف سعيد أوغلو، لـ"العربي الجديد"، إن "مسألة إعداد الدستور ستمثل إشكالية كبيرة في الفترة المقبلة، وتحدٍيا كبيرا للتحالف الحاكم وأحزاب المعارضة، حيث يمتلك كل طرف أوراق قوة ونقاط ضعف. ولكن يحسب للتحالف الحاكم تحقيقه السبق في هذا الإطار، حيث عجزت المعارضة عن طرح رؤيتها للدستور منذ عامين، رغم أن مطالبها في النظام البرلماني لها صدى شعبي، إلا أن مكوناتها من اليسار واليمين والتيار المحافظ مختلفة وغير قابلة للتجانس، ودليل ذلك عجزها عن طرح المسودة حتى الآن". وأضاف أن "التحالف الحاكم من ناحيته يمتلك نقاط قوة، تتمثل بهدف مشترك فيما يتعلق بالنظام الرئاسي، ولكنْ هناك تخوف من عدم تحقيق النسبة الكافية من الأصوات لتمرير المشروع، لهذا يسعى التحالف الحاكم لجذب أحزاب معارضة إلى صفه، مثل حزب السعادة والحزب الجيد. ولكن ربما لن تنجح هذه الجهود بسبب الموقف من نظام الحكم، ولهذا فإن الأيام المقبلة تعد بمزيد من السجالات السياسية حيال الدستور".