عاش أهالي مدينة الجيزة المصرية نهاراً عصيباً، أول من أمس الاثنين، بعد الإعلان عن إخلاء أكبر مجمع قضائي، وربما أكبر مكان لتجمع المواطنين في المدينة، وهو محكمة شمال الجيزة الابتدائية. وجاء ذلك بعد الإبلاغ عن الاشتباه بوجود قنبلة تبيّن في النهاية أنها هيكل مزيف شبيه بالقنبلة ترك في أحد حمامات المحكمة، حسب ما تمّ توزيعه على الصحف ووسائل الإعلام بواسطة مديرية أمن الجيزة، لتستعيد ذاكرة مواطني المحافظة للمرة الأولى منذ بضع سنوات، مشاعر القلق والترقب التي كانت تنتابهم من الاعتداءات التي وقعت في الجيزة وضواحيها المكتظة بالسكان، كالهرم وفيصل وأكتوبر والشيخ زايد وكرداسة، واتُهمت فيها مجموعات إسلامية مختلفة مثل "خلايا حركة حسم"، وجماعة "أجناد مصر"، وبعض التابعين لتنظيم "ولاية سيناء".
واللافت أنّ هذا الإنذار الكاذب الذي أخاف المواطنين في محافظة شهدت قراها الريفية التابعة لمركزي أطفيح والصف، أوسع حراك شعبي في سبتمبر/أيلول الماضي ضدّ حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، جاء بعد ساعات معدودة من خطاب ألقاه السيسي يوم الأحد الماضي خلال الندوة التثقيفية السنوية للقوات المسلحة بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. واستعاد السيسي في خطابه أيضاً نغمة إرهاب المواطنين وتخويفهم من الجماعات الإسلامية و"الإخوان المسلمين" و"المؤامرات" التي تحاك ضدّ مصر في عواصم قريبة وبعيدة. وكرر فيه الهجوم على ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، وادعى أنها "سبب انهيار" العديد من المؤشرات الاقتصادية في مصر وتراجعها في مختلف المجالات.
هناك هدف بترهيب المواطنين وجعلهم تحت ضغط البحث عن الأمن أولاً قبل أي شيء آخر
وعلى خلفية التزامن الذي تكرر عشرات المرات بين خطابات السيسي وقراراته، وحدوث اعتداءات في عمق مصر أو في سيناء، وسواء كان هناك رابط بين البلاغ الكاذب الأخير غير معروف المصدر وبين عبارات السيسي من عدمه، فإنّ الهدف من الأمرين كان واحداً، وهو ترهيب المواطنين وجعلهم تحت ضغط البحث عن الأمن أولاً قبل أي شيء آخر، وهي المعادلة التي راهن الرئيس المصري ونظامه على استمرارها لسنوات، وربما لعقود منذ صعوده إلى السلطة. ففي ظلّ الغياب التام للسياسة والإعلام الحرّ، والتغييب الدائم لأصوات الجماهير وتجاهل مطالبهم وتحدي معارضتهم بمزيد من الإجحاف والتصعيد والإجراءات التي تزيد الأعباء على كاهلهم، يقدم السيسي دائماً اعتبارات الأمن "أحسن من سورية والعراق"، مرهباً المواطنين من مصير محتوم إذا أقدموا على طلب التغيير "ربنا أنقذ مصر وخلقني طبيب"، وحاشداً في عباراته ألفاظاً دينية الطابع محاولاً بها إقناع البسطاء بتأييد الله له "سأحاججكم أمامه يوم القيامة".
لكن ظاهرة ترهيب المواطنين التي تطفو على السطح بعد كل حراك شعبي وتكررت خلال أزمة التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وتظاهرات سبتمبر/أيلول 2019، قبل أن يتبع السيسي المسار نفسه حالياً، لا تتوقف عند العبارات الإنشائية واصطناع الخطر الميداني، بل تتضمن بشكل أساسي حملات تخوين وتنكيل واصطناع قضايا لمختلف الجماعات والتيارات السياسية المعارضة وعلى رأسها بالطبع "الإخوان المسلمين". وينسب السيسي للجماعة الاتهام تلو الآخر، ويعلّق عليها مسؤوليات أكبر بكثير من تأثيرها الواقعي في الشارع المصري، في محاولة لنفي إمكانية حدوث حراك شعبي تلقائي من دون توجيهات أو حشد أو قيادة، كما حصل في المناطق الريفية الشهر الماضي وأصاب النظام بالمفاجأة والدهشة. فبدون مقدمات وخارج سياق اللحظة السياسية الراهنة، أشار السيسي في خطابه الأخير إلى رفضه المصالحة مع الإخوان "وكل تيار يداه ملطختان بدماء المصريين"، على الرغم من تأكيد مصادر حكومية عدة لـ"العربي الجديد"، أنّ مسألة المصالحة وعودة الإخوان من الخارج، وتخفيف الضغوط عليهم بالداخل، ليست محل نقاش في الوقت الحالي إطلاقاً، بعدما أغلق السيسي نفسه الباب في وجه العديد من الوساطات في السنوات الأربع التالية لانقلاب يوليو/تموز 2013.
وأوضحت المصادر أنه قبيل الاجتماع الذي عقده السيسي مع وزير العدل عمر مروان ورؤساء الهيئات القضائية وممثلين من أعضائها الشباب في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، تواصلت دائرة السيسي الشخصية مع وزارة العدل والنيابة العامة، واستطلعت آراء بعض المسؤولين في الجهتين حول مستجدات القضايا القائمة ضد الإخوان والإسلاميين والنشطاء اليساريين والحقوقيين. وكشفت أنّ شخصيات نافذة في دائرة السيسي عبّرت عن ضرورة إيجاد حلول أكثر كفاءة وتأثيراً لتسريع المحاكمات وضمان توقيع أقصى عقوبة بحق السجناء الإسلاميين، وعدم إتاحة الفرصة لإفلاتهم، كما أشارت إلى عدم رضا السيسي على بعض الأحكام التي صدرت أخيراً بإلغاء العقوبات وتخفيفها، نظراً لما يمثله المعتقلون "من خطورة داهمة على سلامة المجتمع".
وذكرت المصادر أنّه من الأسباب الرئيسية لفتح هذه المناقشات الآن، هو رفع تقرير أمني للسيسي زعم ضلوع عدد من العناصر الإسلاميين الذين صدرت قرارات بالعفو عنهم في السنوات الماضية في الحشد للحراك الشعبي الأخير في المناطق الريفية. وباستطلاع "العربي الجديد" مدى صحة هذه المعلومة من المصادر الحقوقية التي تدافع عن المعتقلين في حراك الشهر الماضي، قالت إنّ "عدداً ضئيلاً لا يتجاوز العشرة، من بين أكثر من ألفين ومائة شخص عرضوا على النيابة حتى الآن، سبق أن اعتقلوا في السنوات بين 2013 و2015، وبالتالي فإنّ المعلومة التي تضمنها التقرير الأمني إما مبالغ في صحتها أو تأثيرها، وإما مغلوطة بالكلية".
شخصيات نافذة في دائرة السيسي عبّرت عن ضرورة ضمان توقيع أقصى عقوبة بحق السجناء الإسلاميين
وأوضحت المصادر الحكومية أنّ المناقشات التي دارت حول تسريع الأحكام وتغليظ العقوبات، فشلت في إيجاد حلول جديدة ترضي السيسي وتتماشى مع الدستور، خصوصاً أنّ القضاء المصري يعرف نظاماً جديداً منذ ثلاث سنوات، يضمن سرعة الحكم في القضايا أمام محكمة النقض، وتأييد معظم الأحكام من المرة الأولى من دون إعادتها لمحكمة أول درجة، وتعديلها من دون إلغائها وإعادة النظر فيها، فضلاً عن إجازة تجاهل سماع الشهود، وتشديد العقوبات في العديد من أنواع الجرائم، وهو ما يجعل من الصعب إيجاد وسائل أخرى للتنكيل بالمتهمين.
وأضافت المصادر نفسها أنّ دائرة السيسي أبدت ارتياحها للحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري أخيراً، بشطب خمسة محامين إسلاميين معتقلين، بعضهم ينتمي لجماعة "الإخوان المسلمين"، من نقابة المحامين، ووصفهم بأنهم "إرهابيون وتلوثت أيديهم بالدماء"، بحجة أنهم مدرجون على قائمة الإرهاب بسبب "اتهامهم" في قضية تمويل جماعة الإخوان رقم 653 لسنة 2014 التي تم التحفظ بسببها على أموالهم، على الرغم من أنها ليست السبب في حبسهم، وهو الحكم الذي يبدو قابلاً للتكرار في نقابات أخرى.
وفي سياق التنكيل المدني بالإسلاميين أيضاً، كشفت المصادر أنّ دائرة السيسي دعت وزارة العدل لإعادة مناقشة مقترح إسقاط الجنسية المصرية عن المتهمين بالانتماء لجماعات إرهابية، وتوقيع عقوبات اقتصادية واجتماعية عليهم وعلى ذويهم، بحرمانهم من بعض المزايا المتاحة لباقي المواطنين. وهو أمر وصفته المصادر بأنه "تكليف شديد الصعوبة، لا سيما بعد تعثّر إصدار مشروع مشابه في خريف 2017 لعيوب دستورية واضحة"، مشيرة إلى أنه "من الممكن إعادة التداول في هذا المقترح بمجلس النواب الجديد، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية امتداده ليشمل تعديل مادة الجنسية في الدستور، وسط الموجة الثانية المنتظرة من التعديلات على دستور 2014".
وتنصّ المادة السادسة من الدستور على أنّ "الجنسية حق لمن يولد لأب مصري أو لأم مصرية، والاعتراف القانوني به ومنحه أوراقاً رسمية تثبت بياناته الشخصية، حق يكفله القانون وينظمه، ويحدد القانون شروط اكتساب الجنسية"، وبالتالي فهي لا تجيز بذاتها إسقاط الجنسية كعقوبة خاصة إذا كان حاملها لا يحمل غيرها.
ومنذ ثلاث سنوات بالتمام، أقرت الحكومة مشروع قانون أعده وزير العدل السابق حسام عبد الرحيم، يسمح لمجلس الوزراء بإسقاط الجنسية عن المصري المتمتع بها وحدها أو مع جنسية أخرى "في حالة صدور حكم قضائي يثبت الانضمام إلى أي جماعة، أو جمعية، أو جهة، أو منظمة، أو عصابة، أو أي كيان، أياً كانت طبيعته أو شكله القانوني أو الفعلي، سواء كان مقره داخل البلاد أو خارجها، ويهدف إلى المساس بالنظام العام للدولة، أو تقويض النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي لها بالقوة، أو بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة".
ولم يكن المشروع يوقع قرار إسقاط الجنسية كعقوبة تكميلية للأحكام القضائية الصادرة بالإدانة في قضايا الإرهاب أو العنف أو الاغتيال أو التخابر، بل إنه يتحدث عن الانضمام إلى الجماعات والجمعيات والهيئات في الداخل والخارج. وهذا يعني عدم ضرورة حدوث اعتداءات إرهابية أو أعمال عنف أو أي فعل مادي من الأساس، لتصبح الحكومة قادرة على إسقاط الجنسية عن بعض مواطنيها. ويكفي بالتالي أن تصدر محكمة ما، أياً تكن درجتها القضائية، نصاً في صورة حكم قضائي يثبت صفة "الانضمام" على الشخص المرغوب في إسقاط جنسيته.
دائرة السيسي دعت وزارة العدل لإعادة مناقشة مقترح إسقاط الجنسية المصرية عن المتهمين بالانتماء لجماعات إرهابية
وتنطوي هذه الأفكار التي تتجدد الآن على مخاطر ونيات واضحة للتنكيل بالمعارضين والتضييق على الحريات، لكنها تتجاهل عدداً من العقبات الواقعية، فإسقاط الجنسية عن المحبوسين قد يزيد من بطلان استمرارهم في محبسهم. وفي هذه الحالة، قد يحق للسجين "عديم الجنسية" التقدم إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بشكوى رسمية قد ينتج عنها ترحيله من مصر. كما قد يصبح من حق السجين، أو بعض السجناء، نيل حق التقدم بطلب اللجوء السياسي إلى أي دولة ملتزمة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي ينص في مادته 15 على حق كل إنسان في جنسية.
ولا يعالج قانون الجنسية المصري تلك الحالة التي تجاهلها واضعوه منذ 42 عاماً، فالمادة 16 من هذا القانون تحصر إسقاط الجنسية المصرية بالمصري الأصيل (الذي اكتسب الجنسية بالولادة) على 10 حالات جميعها مرتبطة بوجوده في الخارج وعمله لحساب جهات أجنبية أو دول معادية أو منظمات صهيونية أو إذا كان مقيماً في الخارج واكتسب جنسية أجنبية من دون استئذان وزارة الداخلية المصرية. ولذلك، تضمّن المشروع السابق مناقشته عام 2017 تنظيماً للآثار المترتبة على إسقاط الجنسية لتحصر الأمر على الشخص المعني وحده، من دون امتدادها إلى أولاده أو زوجته. ولم تتطرق المادة 16 إلى الآثار المترتبة على إسقاط الجنسية عن المصري المقيم في مصر، ما إذا كانت ستسحب منه بطاقة هويته، أو سيتم ترحيله، أو سيمنع من مباشرة حقوقه الاقتصادية والسياسية.
أمّا إسقاط الجنسية عن المتهمين المطلوبين والموجودين خارج البلاد، فسوف يؤدي تلقائياً إلى سقوط حق مصر في المطالبة بملاحقتهم كمواطنين مصريين مطلوبين لمحاكم مصرية. وسيمنحهم هذا القرار الفرصة للحصول على جنسية أي دولة أخرى أو اللجوء لدول لا تربطها بمصر اتفاقيات تسليم أو تعاون قضائي، ما يعني إنهاء فرصة السلطة المصرية في استعادتهم إلى الأبد.