تشهد بريطانيا اليوم السبت مراسم تتويج الملك تشارلز الثالث، وهي المراسم نفسها التي تجرى منذ مئات السنين، إلا أن بريطانيا لم تشهد تتويجاً منذ 70 سنة.
وكما جرت العادة منذ 900 سنة، ستقام المراسم في ويستمنستر آبي، حيث أقيمت جنازة الملكة إليزابيث في سبتمبر/ أيلول الماضي، وحيث أقيمت مراسم زفاف الأمير وليام وزوجته كيت في عام 2011، بكل ما يحمله المكان من رمزية المسافة بين الحياة والموت، وبين الأبد والفناء.
وكما جرت العادة أيضاً منذ عام 1066، سيتولى رئيس أساقفة كانتربيري التتويج، بما يشي بأبدية الألقاب والمناصب والأمكنة والإرث والرموز، وبأهميتها التي تفوق أهمية الفرد والفردانية والخصوصية والمزاج والحق في الاختلاف.
أتاحت 70 سنة لتشارلز الزمن الكافي ليشكّل شخصيته، ويمتلك رأياً بما يحيط به
يتوّج تشارلز الثالث اليوم ليصبح أول ملك يعتلي العرش في الـ73 من عمره. أول أمير ينتظر 70 سنة ليتمكّن من ممارسة "وظيفته" المفترضة والمنتظرة والموعودة.
للمرة الأولى، سيغادر الحفل، الذي تشرف عليه لجنة أُطلق عليها اسم لجنة "الجرم السماوي الذهبي"، وهو الاسم السري لعملية تتويج الملك تشارلز، وتاج الدولة الإمبراطوري يعتلي رأسه، وهو التاج المزخرف بـ3165 حجراً كريماً، من الياقوت إلى الزمرد والألماس واللآلئ، والذي يثير، في كل مناسبة، الجدل حول كيفية حصول الإمبراطورية البريطانية على بعض أحجاره الكريمة، كحجر "كوهينور" وألماسة "كولينان"، التي يروى أنها "كسرت السكين عندما حاول الحرفيون قطعها للمرة الأولى".
تفتح وعي تشارلز على لقب الوريث
قد يحلو للمرء أن يتخيّل عدد المرات التي جرّب فيها الأمير تشارلز أن يضع التاج الثقيل على رأسه، ليتمرّن ويتحضّر لهذا اليوم "التاريخي". كم مرة انتظر وترقّب وصبر وخطط. هو الذي تفتّح وعيه الأول على لقب الوريث، فلم يتقن شيئاً سوى انتظار اللحظة التي ستتيح له ترسيخ مكانته كرئيس للقوات المسلحة البريطانية والكنيسة الأنغليكانية وملك كندا و14 دولة أخرى.
لم يتقن الرياضة، وكان جسده "هزيلاً" على حدّ وصف والده، ولم يبرع في العزف على آلة "التشيللو"، إذ قال عنه أستاذه إنه "ميؤوس منه".
كان أول وريث للعرش يرتاد المدرسة بدلاً من أن يتلقّى تعليمه على أيدي مدرّسين خاصّين، لكنه فشل في الدراسة، ولم تكن الدرجة التي حصل عليها بعد امتحانات البكالوريا تؤهّله لدخول أي جامعة بريطانية عريقة. لكنه "ملك المستقبل"، فدرس التاريخ في كامبريدج، وحصل بشق النفس على مرتبة الشرف الدنيا من الدرجة الثانية.
في عيد ميلاده الرابع، قال عنه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل إنه "طفل متأمّل"، في حين قالت مربّيته كاثرين بيبلز إنه "شديد الحساسية، وحيد، خجول بشكل مفرط، يبرع في المهام الهادئة كالقراءة والرسم".
إلا أن السبعين سنة الماضية لم تقتصر على التأمّل والهدوء والوحدة والخجل فقط، وهنا يكمن التحدّي الأكبر بالنسبة للملك المتوّج حديثاً لخلافة 70 عاماً و214 يوماً من حكم والدته الملكة إليزابيث الثانية.
لم يستطع تشارلز تكريس صورة مشابهة لوالدته، لا كزوج ولا كأب ولا كابن ولا كالوريث الشرعي لعرش بريطانيا
إذ إن الرجل، البالغ من العمر 73 عاماً، يرث اليوم حكماً اتّسم بالمثالية والهدوء والنزاهة والترفّع والنأي عن الشخصانية والمشاعر والمعتقدات السياسية. يرث 70 عاماً، تكاد تكون الأخطاء فيها نادرة، حيث أتقنت والدته المسافة بين الشخصي والعام، وبين المشاعر الإنسانية وصورة التاج، حيث أغرقت في التعاطف بلا دموع، وفي الحسم بلا صراخ.
تشكيل شخصية تشارلز
إلا أن السبعين سنة، إلى جانب ما مثّلته من زمن مديد ومن تعاقب أجيال وحكومات وحروب وصراعات وحكم طويل مستقرّ في المثالية، أتاحت أيضاً لتشارلز الزمن الكافي ليشكّل شخصيته، بمعزل عن التاج، وليمتلك رأياً بما يحيط به، وليعبّر عن ذلك الرأي وبالتالي ليخطئ.
وليست المثالية، ولا العهد، الأكثر شهرة في تاريخ البلاد، ولا الحكم الأطول على الإطلاق هي وحدها الأمور التي سيرثها اليوم الملك تشارلز، بل سيرث أيضاً أرقاماً تشير إلى أن 3 فقط من كل 10 بريطانيين يرون أن الملكية "مهمة للغاية".
سيرث أسئلة جدية يطرحها جيل بأكمله حول الجدوى من وجود ملكية دستورية في عصرنا هذا. سيرث أكثر من 17 مليوناً ممن تتراوح أعمارهم بين الـ18 والـ25 سنة يعبّرون بوضوح عن "لا مبالاتهم" بالأسرة المالكة ومجوهراتها وقصصها، وما تملكه من ثروات وما تمثّله من تقاليد.
سيرث شعباً متعباً يعيش أقسى أزمة اقتصادية منذ عقود، يكافح للحصول على الحدّ الأدنى من متطلّبات العيش، في الوقت الذي تقول الصحافة في بلاده إن ثروة الملك الشخصية تقدّر بنحو 1.8 مليار جنيه إسترليني، وإنه يتلقى سنوياً 86 مليون جنيه من التمويل العام، وإنه أعفي أخيراً من ضريبة الميراث بعد وفاة والدته، وإنه منذ وفاتها، في سبتمبر الماضي، جنى 2.3 مليون جنيه إسترليني من بيع خيولها "المحبّبة إليها" في المزادات.
وعلى الرغم من تذكير الناخبين المتواصل بأن الملك تشارلز اختار أن يكون تتويجه "أقل سخاء" من تتويج والدته، إلا أن هذا التتويج، الذي نظّم "على الضيق"، سيكلّف الحكومة ودافعي الضرائب 100 مليون جنيه، وسط مأساة اقتصادية تكاد تلغي الطبقة الوسطى.
وفي حين انتشل التاج إليزابيث الثانية من سنواتها الـ25 وبراءتها وإحساسها النادر بالمسؤولية، يتوّج "ملك" اليوم بعمر الـ73، وبماضٍ متقلّب ومثقل بالمآسي العائلية والخيانات والانفصالات والفضائح.
بالنسبة لملايين البريطانيين ما يزال ظلّ الأميرة الراحلة ديانا يلاحق زوجها، وما تزال "معاناتها" و"الإهانات" التي تعرّضت لها من العائلة المالكة ومارستها بدورها لاحقاً على بعض أفرادها، تخيّم على "نزاهة" الملك وأسرته.
تشارلز لم يكرس صورة مشابهة لوالدته
وفي حين تشكّلت مع مرور السنوات والعقود صورة الملكة إليزابيث في المخيلة العامة كالأم والجدّة الوديعة، ذات الشخصية المحبّبة التي تفرّ أحياناً من بين شفتيها ضحكة الأطفال الماكرة، لم يستطع تشارلز تكريس صورة مشابهة، لا كزوج ولا كأب ولا كابن ولا كالوريث الشرعي لعرش بريطانيا.
لم يكن "مخلصاً" كزوج، وابنه الأصغر المتمرّد يتّهمه باستمرار بعدم الاكتراث والاهتمام، بينما اتّهمه سابقاً والداه بالضعف وعدم المسؤولية، في حين اتّهمته الحكومة البريطانية، في أكثر من مناسبة، بالتمرّد على الحياد السياسي الذي يعد مطلباً دستورياً للملكية البريطانية، بعد أن أرسل لمسؤولين سياسيين، بمن فيهم رئيسا الحكومة السابقان مارغريت تاتشر وطوني بلير، رسائل يحثّهما فيها على التدخل هنا والتغيير هناك، "مدمّراً" الجدار الذي شيّدته والدته لأكثر من 70 سنة.
والرسائل الـ27، التي كتبها تشارلز بين عامي 2004 و2005، بعنوان "مذكرات العنكبوت الأسود"، لا تكشف فقط حجم تدخّله في الشأن العام على أعلى المستويات، بل تفرج أيضاً عن آرائه الإشكالية في العديد من القضايا، كشكوكه حول العلم والطب وإيمانه بالعلاجات البديلة والأعشاب، وقدرة الغذاء على علاج السرطانات الأكثر فتكاً.
مخاطر من "أنسنة" التاج
وفي حين كانت الآراء الشخصية للملكة مخبّأة بعناية لأن "الملكية تُرى ولا تُسمع"، يتوّج على عرش بريطانيا اليوم ملك نعرف معظم آرائه من القضايا الرئيسية، وربما نوافق على معظمها، إلا أن "أنسنة" التاج تنطوي على الكثير من المخاطر والتحديات، وتجعل العرش قابلاً للمساس وللنقد وللحوار وللجدل.
يُسقط اعتلاء تشارلز العرش الصورة النمطية الثابتة منذ عقود طويلة، ويلغي مشهد الملكية الصامت
هذه الأنسنة الإيجابية في بعض تجلّياتها يخشى أنها تلغي فكرة الأبد والاستمرار غير المشروط وعدم المساس بالصورة. فالملك الذي يتوّج اليوم في مشهد "أسطوري" هارب من التاريخ ومن أفول الإمبراطوريات الاستعمارية، هو الأمير الذي وصف في عام 2022 الغزو الروسي على أوكرانيا بـ"العدوان الوحشي"، منتقداً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ما تسبّب به من "معاناة مأساوية ودمار". وكان قد قارنه قبلها بسنوات بالزعيم النازي أدولف هتلر، عقب ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وهو ابن الملكة الذي وصف خطة "رواندا" لترحيل المهاجرين بـ"المروّعة"، والوريث الشرعي الذي كتب ونشر في ثمانينيات القرن الماضي قصة للأطفال، بعنوان "رجل لوكناغار المسنّ"، وفي أحد المقاطع يلتقي الرجل المسنّ بملك "ثبتّت مؤخرته بسجادة مطاطية لمنعه من الانزلاق عن عرشه".
وهو الذي تعرف عنه "الرعية" أكثر بكثير مما تجهل، بين وجهات نظره العاطفية حول كل الأمور وتعاطفه مع قضايا الشعوب المقهورة، وتشجيعه للزراعة العضوية، ودعمه لقضايا التغير المناخي، واهتمامه بالهندسة المعمارية وتثمينه للتنوّع العرقي والديني والثقافي.
كما أن تشارلز كان أول فرد من العائلة الملكية البريطانية يتزوج زواجاً مدنياً، عندما ارتبط عام 2005 بكاميلا، ودعا أكثر من مرة إلى "زيادة الوعي العام بخلفيات المهاجرين القادمين إلى بلادنا"، وإقامة علاقات وثيقة مع أشخاص آخرين وأعراق مختلفة و"التعرّف على تاريخهم وكيفية عيشهم، وماذا يأكلون وماذا يعلمون، وما الذي يضحكهم ويبكيهم".
وتجعل هذا الأمور تشارلز، بالمقارنة مع حكومات "هذه الأيام"، حداثياً ومنفتحاً وعالمياً. إلا أن ذلك يعبث مرة أخرى بصورة العرش المكّرسة في الأذهان كمشهد ثابت يجذب السيّاح ويدعم الاقتصاد، ويمثّل بالنسبة للملايين طقساً للفرجة والهرب من الأعباء اليومية والحلم والخيال.
وإذ يتوّج الملك تشارلز اليوم فهو يتوّج بفعل عكسي ورجعي، إذ إن اعتلاءه هو تحديداً العرش يسقط الصورة النمطية الثابتة منذ عقود طويلة، ويلغي مشهد الملكية الصامت، ويفتح باب التساؤلات حول مدى قابلية هذا النظام للاستمرار لسبعين سنة إضافية.