لا يمكن التقليل من حدة الصدامات والتصدّعات الداخلية التي تعيشها إسرائيل على خلفية التعديلات القضائية التي تريد حكومة بنيامين نتنياهو إجراءها، ويقودها وزير القضاء ياريف ليفين ورئيس لجنة القانون والدستور سيمحا روتمان لتقويض الجهاز القضائي، بحيث يصبح الكنيست (البرلمان) صاحب اليد العليا في العديد من القرارات، ويحرم المحكمة العليا من حق النظر في قراراته.
وعشية انطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين ممثلي الحكومة والمعارضة في مقر الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، اليوم الثلاثاء، ظهر مزيد من الخلافات، ليس بين الطرفين المذكورين فقط، بل حتى داخل حزب الليكود نفسه. وشهدت كتلة الحزب البرلمانية أمس الإثنين جلسة مشحونة، لها دلالتها، علاوة على استمرار حرب التصريحات بين مختلف الأطراف المؤيدة والمعارضة للتعديلات القضائية والتي سبقت استئناف الحوار واستمرار الاحتجاجات الشعبية، التي دخلت أسبوعها التاسع عشر، بعد انتهاء جولة العدوان الأخيرة على غزة.
ومن المؤشرات على حدة الخلافات، تسجيلات نشرتها القناة 12 الإسرائيلية، مساء أمس الإثنين، من جلسة كتلة "الليكود"، إذ تحدثت النائبة كيتي شيتريت، ممثلة الحزب في الحوار الجاري لدى الرئيس الإسرائيلي، عن تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، مطالبة أعضاء حزبها بعدم إطلاق تصريحات يمكن أن تمسّ بالمفاوضات. وأضافت أنه من المزعج تصريح البعض أن "الإصلاحات قد ماتت، وهذا أسوأ ما يمكن القيام به". وردت النائبة طالي غوتليب بأن حكومة اليمين خسرت الفرصة للتحكم برئيس المحكمة العليا، مطالبة زميلتها بالصمت بادعاء عدم معرفتها بالشؤون القضائية، وأنها لا تمثلها.
وجاء النقاش المحتدم على خلفية استئناف الحوار لدى هرتسوغ، وقرار نتنياهو في هذه المرحلة إقامة لجنة تعيين القضاة بموجب تركيبتها الأصلية، لتشمل ممثلاً عن المعارضة كالمعتاد، امتصاصاً لغضب المعارضين ولإدراكه بأن طلب إرجاء الحوار بين الأطراف سيؤدي إلى نسفه وإلى تبعات لا تحمد عقباها.
يطالب وزير القضاء بتمرير قانون واحد على الأقل من القوانين المتعلقة بالقضاء في الأسابيع القريبة
في المقابل، يطالب وزير القضاء ياريف ليفين بتمرير قانون واحد على الأقل من القوانين المتعلقة بالقضاء في الأسابيع القريبة، بعد التصديق على الموازنة العامة بالقراءتين الثانية والثالثة، في موعد أقصاه 29 مايو/ أيار الحالي، خصوصاً ما يتعلق بتغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة. أما نتنياهو فيفضّل، بحسب القناة 12، انتهاء دورة الكنيست الصيفية من دون تشريع قوانين "الإصلاحات" كي لا يبدو أنه ماضٍ بها من دون اكتراث لما يحصل في الشارع الإسرائيلي والساحة السياسية، ولمنح فرصة للحوار لدى الرئيس الإسرائيلي.
"ستقوم حرب"
كثيرة هي الأمثلة التي تعكس حدة الخلافات في الواقع الإسرائيلي في هذه الفترة. نشر النائب المعارض زئيف إلكين من حزب "المعسكر الرسمي" برئاسة بني غانتس أمس الإثنين، تغريدة عبر "تويتر"، اعتبرها "الليكود" تحدياً له. وكتب إلكين: "انتصار أول في المعركة على لجنة تعيين القضاة. في الأول من مارس/ آذار طلبت إقامة انتخابات للجنة بناء على القانون القائم، الائتلاف (الحاكم) صُدم وأراد تعديل النظام المعمول به من أجل تأجيل الانتخابات. اليوم (أمس الإثنين) هو اليوم الأخير لتعديل النظام، وبحسب ما يُنشر فإن الائتلاف خضع والانتخابات هذه المرة لن تُؤجّل وستُجرى بموجب القانون القائم".
وسرعان ما رد سكرتير الحكومة يوسي فوكس، بتغريدة على "تويتر" قال فيها إن لجنة تعيين القضاة ستشمل ممثلين اثنين عن الائتلاف بدلاً من ممثل واحد وآخر عن المعارضة، قبل قيامه بحذف تغريدته بعد انتقادات شديدة طاولته.
وأضاف فوكس، في رده على إلكين: "اعتقدت أن ممثلي كتلتك في المحادثات في منزل رئيس الدولة، يصلون برغبة حقيقية للتوصل إلى اتفاق حول تغيير تركيبة لجنة اختيار القضاة ـ وليس من أجل الفوز على الائتلاف". وأضاف أنه "في حال لم تفض المفاوضات إلى اتفاق، سيُنتخب ممثلان عن الائتلاف في اللجنة، ولن تجتمع اللجنة فعلياً إلا إذا رغب وزير القضاء بالأمر".
في غضون ذلك، قالت النائبة المعارضة يفعات شاشا- بيطون، في حديث لموقع "يديعوت أحرونوت"، أمس الإثنين، إنه "من دون وجود ممثلين عن المعارضة في اللجنة، ستكون هناك حرب"، مضيفة: "في حال عدم التزام الائتلاف بالاتفاقيات أو الإقدام على خطوة أحادية الجانب، سنخرج من غرفة المفاوضات".
نائب معارضة: من دون وجود ممثلين عن المعارضة في لجنة تعيين القضاة، ستكون هناك حرب
حدة التعابير التي استخدمتها شاشا- بيطون، تعكس الكثير من الواقع الإسرائيلي المتصدّع، وتعكس آراء معظم المعارضين لتقويض الجهاز القضائي، وهي التي عبّرت عن محنة إسرائيل بقولها: "نفعل كل شيء من أجل إنقاذ المجتمع الإسرائيلي"، في إشارة إلى الخطر المحدق.
كانت هذه مجرد أمثلة من حرب التصريحات في الساعات الأخيرة، الأمر الذي استدعى تدخّل هرتسوغ، الذي قال في بيان صادر عن ديوان أمس الإثنين، إنه "لا يوجد هنا رابحون وخاسرون. في حال حدوث ذلك دولة إسرائيل ستخسر". وذكّر بأن "الائتلاف وافق على طلب رئيس الدولة بعدم إرجاء الموعد المحدد في القانون لاختيار ممثلي الكنيست في لجنة تعيين القضاة، وذلك لإتاحة الفرصة أمام مواصلة الحوار".
كما طالب هرتسوغ الأطراف المختلفة بالامتناع عن التصريحات السياسية التي لا تخدم التوصل إلى تفاهمات، مؤكداً أن "إسرائيل تمر في فترة بالغة الأهمية ومصيرية"، وأن "الفعل الأسهل هو تفجير المفاوضات".
سبب الخلاف والمخارج الممكنة
تحت العنوان العريض لخطوات الحكومة الرامية لتقويض الجهاز القضائي والالتفاف عليه، ومساعي نتنياهو للتمسك بحبل نجاة إزاء قضايا الفساد التي تلاحقه، تتركز الخلافات في هذه المرحلة تحديداً على الجانب المتعلق بتركيبة لجنة اختيار القضاة.
ويتوجب على وزير القضاء ياريف ليفين عقد لجنة تعيين القضاة حتى 15 يونيو/ حزيران المقبل، ولكن حتى إن فعل ذلك، فإنه يسعى لعدم السماح باختيار قاضيين جديدين للمحكمة العليا مكان اثنين سيخرجان للتقاعد، ولا اختيار الرئيس المقبل للمحكمة، خلفاً للرئيسة الحالية إستير حيوت.
القانون الذي يطالب ليفين بتغييره كجزء من "الانقلاب على القضاء"، ينص على أنه لقضاة المحكمة العليا الذين يشكّلون ثلث أعضاء لجنة اختيار القضاة، الاعتراض على أي مرشح يقترحه ليفين. وعليه لن يكون بالإمكان تعيين قاضيين جديدين ولا رئيس جديد للمحكمة إلا بوجود اتفاق بين الوزير ورئيسة المحكمة إستير حيوت.
سبب ذلك، أن اختيار قاضٍ للمحكمة العليا يتطلب اليوم غالبية مكوّنة من سبعة من أصل تسعة أعضاء يشكلون لجنة اختيار القضاة، وهي أغلبية لا يملكها الائتلاف الحكومي اليوم. في غضون ذلك، نسب موقع "يديعوت أحرونوت" أمس الإثنين، تصريحات لمن وصفه بالمصدر الرفيع في جهاز القضاء، والذي أكد أن إمكانية التوصل إلى اتفاق من هذا النوع بين وزير القضاء ورئيسة المحكمة العليا معدومة.
جرت العادة على اختيار قضاة جدد للمحكمة العليا الإسرائيلية قبل نحو نصف عام من موعد تقاعد القضاة، وعليه يُفترض عقد لجنة اختيار القضاة في الفترة القريبة. وبالأصل، يجب إقامة لجنة اختيار القضاة خلال ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة، لكن في ظل التعديلات القضائية، مدد الكنيست الموعد شهراً إضافياً، انتهى فعلياً أمس الإثنين.
من أجل تشكيل اللجنة، يجب اختيار ممثلين عن الحكومة، وزير القضاء ياريف ليفين ووزير آخر. كذلك، يجب انتخاب عضوي كنيست، وبحسب المتّبع اليوم، يُعيّن أحدهما من الائتلاف والآخر من المعارضة. وبما أن تصويت الهيئة العامة للكنيست يسري في هذه المسألة، ونظراً للأغلبية الساحقة للائتلاف في الكنيست، فقد ينتخب اثنين من ممثليه من دون إلقاء بال للمعارضة.
بحسب التوقعات، سيحظى الائتلاف بأغلبية في اللجنة المنتخبة، ما يمكّنه من اختيار قضاة لمحاكم الصلح والمحاكم المركزية، لكنه لن يملك الأغلبية لاختيار قضاة للمحكمة العليا.
هذه الخلافات بشأن تركيبة اللجنة هي حلقة أساسية في الخلافات بين ليفين وطاقم المفاوضات في مقر الرئيس الإسرائيلي، ما قد يدفع إلى تدخّل نتنياهو في ظل الاحتجاجات الشعبية الحاصلة وتحذيرات الأجهزة الأمنية المتكررة من الشرخ بين الإسرائيليين وتبعات ما يحدث وحتى تأثيره على المؤسسة الأمنية والعسكرية، لا سيما بعد انضمام طيارين وعسكريين للاحتجاجات. من هنا ستتشكّل لجنة اختيار القضاة في نهاية المطاف، لكن فاعليتها ستبقى مرهونة بوزير القضاء الذي يتولى فعلياً رئاستها، وهي المكونة في صيغتها الحالية من تسعة أعضاء، وتحديداً من ثلاثة قضاة في المحكمة العليا، ممثلَين عن نقابة المحامين ووزيرين ونائبين في الكنيست.
ستتشكّل لجنة اختيار القضاة في نهاية المطاف، لكن فاعليتها ستبقى مرهونة بوزير القضاء الذي يتولى فعلياً رئاستها
يُضاف إلى ذلك، ما نشرته صحيفة "هآرتس" في الآونة الأخيرة وكررته في عددها الصادر أمس الإثنين، من أن الائتلاف معني بالمضي في تعيين قاضيين للمحكمة العليا، بالاتفاق مع رئيستها إستير حيوت، من دون تغيير طريقة اختيار القضاة، وذلك على ضوء إدراكه عدم إمكانية استكمال التغييرات بتركيبة لجنة اختيار القضاة قبل موعد تقاعد الرئيسة الحالية للمحكمة، والقاضية عنات بارون في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
إقرار التعديلات القضائية بأي ثمن؟
بات ياريف ليفين يشعر بنفاد الوقت منه عدا عن شعوره بالامتعاض، في ظل عدم إحراز أي تقدم ملموس في لقاءات الحوار السابقة مع المعارضين لخطته، واحتمال تهاوي المخطط الذي يقوده بأكمله. وقد يدل على ذلك ما نقلته وسائل إعلام إسرائيلية عنه، من بينها القناة 12، أمس الإثنين، بأنه يرغب بتمرير جزء من التعديلات خلال الأسابيع المقبلة، متسائلاً: "ماذا لي في هذا المنصب إن لم يُمرَّر جزء من الإصلاح على الأقل؟" في إشارة إلى المعضلة التي يعيشها.
سموتريتش: إذا حصل اتفاق (مع المعارضة) فهذا جيد، وإن لم يحدث ذلك، فسنضطر للمضي قدماً بالطريقة التي نفهمها نحن
لكن ليفين في نهاية الأمر ليس وحيداً، فهو يمثل ائتلافاً كاملاً يسعى لفرض سيطرته على جهاز القضاء. وزير المالية بتسلئيل سيموتريتش، قال لإذاعة الجيش أمس إنه "حتى لو أقيمت لجنة تعيين القضاة بتركيبتها الحالية، فإن هذا لا يدل في أي حال على إهمال نوايانا. إن حصل اتفاق (مع المعارضة) فهذا جيد، وإن لم يحدث ذلك، فسنضطر للمضي قدماً بالطريقة التي نفهمها نحن". وزعم سيموتريتش في اللقاء نفسه أن "الجمهور معني بتغيير طريقة اختيار القضاة. الجمهور منحنا أغلبية، هو يريد ذلك وهذا ما سيحدث. أعتقد أنه لا يمكن إعادة العجلة إلى الخلف".
تغذية الصدع
في الوقت الذي يتغنى فيه سيموتريتش وليفين وسائر أقطاب الحكومة ومن يقف على رأسها بامتلاكهم أوسع قاعدة جماهيرية، أظهرت استطلاعات رأي عديدة في الأسابيع الأخيرة تراجع شعبية نتنياهو، حتى في أوساط اليمين، على خلفية التعديلات القضائية، وعدم امتلاكه أغلبية في حال جرت انتخابات جديدة للكنيست، فيما عادت لترتفع في الاستطلاعات بعض الشيء عقب العدوان الأخير على غزة.
لكن نتنياهو نفسه يدرك أن حجم التظاهرات الأسبوعية المناهضة لإضعاف الجهاز القضائي، لن تتراجع، على الأقل في الفترة القريبة المقبلة، وهي التي وفّرت مشاهد غير مسبوقة من احتقان ومواجهات على مدار تسعة عشر أسبوعاً.
في المقابل، خرج نحو 200 ألف متظاهر في 27 إبريل/ نيسان الماضي في تظاهرة في القدس المحتلة تأييداً لخطة الحكومة، ما منح نتنياهو شحنة معنوية عبّر عنها في حينه بتغريدة عبر "تويتر" حول مدى تأثره "بالدعم الهائل للمعسكر القومي". أما رئيس لجنة التشريعات البرلمانية سيمحا روتمان فغرّد في حينه: "نحن أمام فرصة لن تتكرر، يجب ألا نستسلم. من يتخلى عن إصلاح الجهاز القضائي سيتخلى عن محاربة الإرهاب".
وتعكس التظاهرات الضخمة في كلا الطرفين حجم الصدع الذي تعيشه إسرائيل وتغذيه، بينما الأمر يتجاوز الدفاع عن "الديمقراطية" بالنسبة للمعارضين أو عن الحكومة وتوجهاتها بالنسبة للمؤيدين، ليطاول الصراعات التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي والانقسامات فيه ونمط حياته والليبرالية مقابل التديّن ومعايير أخرى تؤثر في طابع دولة الاحتلال.
تحديات غلاء المعيشة والخلافات مع السلطات المحلية
الاحتجاجات ضد التعديلات لإضعاف جهاز القضاء ليست التحدي الداخلي الوحيد أمام حكومة نتنياهو، ولكنها تبقى الأمر المركزي في هذه الفترة، فيما يتنامى التذمّر من موجة الغلاء التي تشهدها إسرائيل في مختلف المجالات ووصولها إلى مستويات غير محمولة، يرافقها التضخم المالي وارتفاع نسبة الفائدة المصرفية.
قبل أعوام قليلة أدى ارتفاع أسعار بعض المنتجات، إلى خروج تظاهرات ضخمة، في مشهد يقترب من التكرار اليوم إذا لم توفر الحكومة الحلول.
يتنامى التذمّر من موجة الغلاء التي تشهدها إسرائيل في مختلف المجالات
في اليومين الأخيرين، فتحت حكومة نتنياهو جبهة خلافات إضافية مع السلطات المحلية التي تعارض مساعي الحكومة سنّ قانون جديد تحت مسمى "صندوق الأرنونا"، والذي يقتطع جزءاً من مداخيل السلطات المحلية من ضرائب الأملاك المفروضة على المصالح التجارية وتجميعها في صندوق واحد، ومن ثم إعادة توزيعها بحيث تستفيد سلطات على حساب أخرى. وتشير تقديرات إلى أن المستوطنات وبلدات اليهود المتدينين (الحريديم) ستكون الأكثر استفادة من ذلك، في الوقت الذي تفضّل فيه كل سلطة الاحتفاظ بالمبالغ التي تجمعها لخدمة سكانها. هذا الأمر دفع البلديات والمجالس للشروع بإضراب قد تلحق به خطوات احتجاجية إضافية.