تعديل العقيدة النووية الروسية: محاولة ابتزاز في زمن التوترات

01 يوليو 2024
غواصة نووية روسية في كرونستاد، 19 يونيو 2024 (أنتون فاغانوف/ رويترز)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ترقب عالمي لتعديلات موسكو المحتملة على عقيدتها النووية التي قد تخفض عتبة استخدام السلاح النووي، مع تساؤلات حول كونها استراتيجية ضغط سياسي أو تمهيدًا لاستخدام نووي محتمل في النزاع الأوكراني.
- التعديلات المتوقعة قد توسع شروط استخدام النووي لتشمل الضربات الاستباقية، مع تأكيدات على ضرورة تحديث العقيدة لتعزيز قدرات روسيا الردعية ومواجهة التهديدات.
- الهدف من التعديلات المرتقبة هو منح روسيا مرونة أكبر في استخدام النووي وإجراء تجارب نووية لتبريد "الرؤوس الساخنة" في الغرب، مع توقعات بإمكانية تجميد النزاع الأوكراني دون اللجوء للسلاح النووي.

مع ترقب العالم تعديل موسكو العقيدة النووية الروسية التي من شأنها توسيع قائمة حالات استخدام السلاح النووي وخفض عتبته، وفق ما ألمح إليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين أخيراً، ثمة تساؤلات فرضت نفسها في ما إذا كان الإجراء مجرد مساومة سياسية أم احتمالاً حقيقياً لشن موسكو هجوماً نووياً في أوكرانيا لحسم الحرب الدائرة منذ 24 فبراير/شباط 2022.

ومع ذلك، بدا الأمر، من جهة روسيا، أقرب إلى الابتزاز النووي والتأثير النفسي على الخصوم الجيوسياسيين، عبر إظهار الحزم في رفع درجة التصعيد ثم التوصل إلى اتفاق سلام بشروط مرضية لموسكو. أما استخدام السلاح النووي في حد ذاته، فتراجع إلى المشهد الخلفي ولم يعد العنصر الأهم في العقيدة النووية الروسية المراد تعديلها، لعدم تحول الحرب الأوكرانية إلى دمار شامل بين روسيا والولايات المتحدة، المستحوذتين معاً على نحو 88 في المائة من إجمالي الترسانة النووية العالمية، بحسب تقرير لاتحاد العلماء الأميركيين، نُشر في 29 مارس/آذار الماضي، أظهر امتلاك موسكو 5580 رأساً نووياً، في مقابل 5044 للولايات المتحدة. واستحوذا معاً على 10624 رأساً نووياً، من أصل 12121 في العالم.

جوهر العقيدة النووية الروسية

ونصّت العقيدة العسكرية الروسية على جواز استخدام السلاح النووي في حالتين اثنتين فقط، الأولى في حال تعرض روسيا أو حلفائها لهجوم بالسلاح النووي أو غيره من أسلحة الدمار الشامل، والثانية عند تعرض روسيا لهجوم بأسلحة تقليدية مهددة لوجودها كدولة. أما وثيقة "أساسيات سياسة الدولة لروسيا الاتحادية في مجال الردع النووي" بنسختها الحالية المؤرخة في عام 2020، فحددت أربعة شروط لاستخدام السلاح النووي. الشرط الأول، ورود معلومات موثوق بها بانطلاق صواريخ بالستية لمهاجمة أراضي روسيا أو حلفائها، والشرط الثاني هو استخدام العدو سلاحاً نووياً أو غيره من أسلحة الدمار الشامل بحق روسيا أو حلفائها. والشرط الثالث، هو مهاجمة العدو منشآت حكومية أو عسكرية روسية مهمة لتعطيل ردة فعل القوات النووية الروسية. والشرط الرابع هو تعرّض روسيا لهجوم بالأسلحة التقليدية، مهدّد لوجود الدولة بحد ذاتها.

وعلى الرغم من حديث بوتين عن عدم احتياج روسيا في المرحلة الحالية إلى شن ضربة نووية استباقية، إلا أن الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، لم يستبعد احتمال تضمين العقيدة النووية الروسية المعدلة مثل هذه الخاصية. ولفت في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنه "من البديهي أن العقيدة النووية الروسية تحتاج منذ فترة طويلة إلى تحديث، إذ يرى قطاع عريض من الخبراء العسكريين الروس ضرورة في تمكين روسيا من شن ضربة نووية استباقية مثلما هو وضع الولايات المتحدة، وهي بالمناسبة الدولة الوحيدة التي سبق لها استخدام السلاح النووي في مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في عام 1945".

بوريس ميجويف: التعديلات المرتقبة ستمنح روسيا مزيداً من الحرية النووية

واعتبر بلوخين أن حرمان روسيا نفسها بنفسها من إمكانية، ولو نظرية، لشن ضربة نووية استباقية زاد من تراخي الغرب، مضيفاً: "نظراً للتغيرات التي طرأت على الوضع الجيوسياسي العالمي، أتوقع تحديثاً وتعديلاً لعقيدتنا النووية بهدف تبريد الرؤوس الساخنة في الغرب، من دون أن يعني ذلك أن تلجأ روسيا لشن ضربة استباقية تلقائياً".

من جهته، توقع كبير الباحثين في معهد المعلومات العلمية حول العلوم الاجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، بوريس ميجويف، منح العقيدة النووية الروسية المعدلة موسكو حرية أكبر في مسألة استخدام السلاح النووي، لا سيما الشق التكتيكي منه. وقال ميجويف في حديث لـ"العربي الجديد": "يبدو أن التعديلات المرتقبة ستمنح روسيا مزيداً من الحرية في ما يتعلق باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية أو إجراء تجارب نووية، ولكنني آمل أن يكون لهذه الحرية معنى رمزي من شأنه التأثير النفسي على العدو حتى تكف كييف عن شن الضربات على شبه جزيرة القرم، والمواقع المدنية في العمق الروسي باستخدام الأسلحة الغربية".

تنظير لاستخدام النووي

واعتبر ميجويف أن الحرب الروسية الأوكرانية دخلت مرحلة من المتاح إنهاؤها من دون اللجوء إلى ورقة السلاح النووي، مضيفاً: "يخفّض طرفا النزاع سقف طموحاتهما، إذ لم تعد روسيا تخطط للسيطرة على المدن الكبرى مثل كييف أو حتى أوديسا، بينما لم تعد أوكرانيا حازمة في طلباتها بشأن العودة إلى حدود عام 1991، مما يدل على أن الأمور تتجه نحو تجميد النزاع مع تثبيت خطوط التماس الحالية".

ومنذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في عام 2022، دعا عدد من المنظرين الروس البارزين إلى تعديل العقيدة النووية الروسية وإعادة أجواء الرعب النووي، وحتى إلى استخدام السلاح النووي، ضد إحدى الدول غير النووية في حلف شمال الأطلسي "ناتو". وفي منتصف العام الماضي، أثار الرئيس الشرفي لمجلس إدارة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية في روسيا، سيرغي كاراغانوف، جدلاً واسعاً بنشره مقالاً بعنوان "استخدام السلاح النووي قد ينقذ البشرية من الكارثة العالمية"، رأى فيه أن روسيا "بالغت في وضع عتبة عالية لاستخدام السلاح النووي"، معيداً تفاقم الوضع إلى "التطفل الاستراتيجي" ونسيان البشر أهوال الحروب الكبرى وتلاشي الخوف حتى من الأسلحة النووية.

ووصف كاراغانوف في مقاله، الذي نشر في مجلة بروفايل الروسية حينها، اختراع السلاح النووي بأنه "تدخل إلهي" بعد شن البشرية حربين عالميتين راح ضحيتهما عشرات ملايين الأشخاص في النصف الأول من القرن الـ20، داعياً إلى "استعادة الخوف من التصعيد النووي" عبر "خفض العتبة المبالغ فيها لاستخدام السلاح النووي والصعود على سلم الردع بواسطة التصعيد". وجزم كاراغانوف أن "الولايات المتحدة لن تشن ضربة ضد روسيا لحماية الأوروبيين، ولن تضحي بمدينة مثل بوسطن (الأميركية) انتقاماً لمدينة أوروبية صغيرة مثل بوزنان البولندية"، ليخلص إلى أن "المنتصر لا يحاكم".

وكاراغانوف هو من المستشارين السياسيين المقربين من الكرملين، وأدار الجلسة العامة بمشاركة بوتين في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي بين 5 يونيو/حزيران الماضي و8 منه، حتى أن الرئيس الروسي وصفه بأنه محلل سياسي "برّاق" و"عدواني"، معترفاً بأنه قارئ لكتاباته. ولقي طرح كاراغانوف لفكرة التصعيد النووي تأييداً لدى غيره من المنظّرين الروس البارزين، بمن فيهم مدير معهد الاستراتيجية والاقتصاد الحربي العالمي التابع للمدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، دميتري ترينين، الذي توقع عدم ردّ واشنطن على ضربات نووية روسية على بلدان "ناتو" بضربة نووية على روسيا، مساهماً في تشتيت "أسطورة" المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي الخاصة بالدفاع المشترك، و"سيؤدي إلى أعمق أزمة في الناتو وربما تفككه".

قسطنطين بلوخين: لن تلجأ روسيا لشن ضربة استباقية تلقائياً

تهديد دول "ناتو"

وفي مقال بعنوان "النزاع الأوكراني والسلاح النووي" نشر بموقع مجلة "روسيا في السياسة العالمية" عطفاً على مقال كاراغانوف، رأى ترينين الذي ترأس مركز كارنيغي في موسكو لسنوات طويلة حتى إغلاقه في عام 2022، أنه في حال شنّت روسيا ضربة نووية "قد تصاب النخب الأطلسية ببلدان ناتو والاتحاد الأوروبي بحالة الذعر وستسحقها قوى قومية، تكون رأت بأم عيونها أن أمن دولها يعتمد على بناء علاقات متوازنة مع روسيا لا على المظلة النووية الوهمية الأميركية".

وظهر أن أفكار المنظرين الروس لاقت قبولاً لدى الكرملين أيضاً، إذ أكد بوتين في ختام زيارته الأخيرة إلى فيتنام (19 ـ 20 يونيو الماضي)، أن موسكو باشرت النظر في تعديل العقيدة النووية الروسية المتعلقة بخفض عتبة استخدام السلاح النووي. وأرجع بوتين التعديلات المقترحة إلى "العلم بأن العدو المحتمل يعمل على تطوير عناصر جديدة من شأنها خفض عتبة استخدام السلاح النووي"، مثل "قنابل ذات قوة منخفضة للغاية". وادعى في الوقت نفسه أن بلاده ليست في حاجة حالياً إلى إمكانية شن ضربة نووية استباقية، لأنه "سيتم القضاء على العدو حتما عند الرد على ضربة".

من جهته، اعتبر  سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي المعني بقضايا العلاقات مع الولايات المتحدة ومنع الانتشار والرقابة على الأسلحة، أن الدول الغربية أساءت تقييم جاهزية روسيا لـ"الدفاع عن نفسها وضمان مصالحها". وقال ريابكوف خلال فعالية "قراءات بريماكوف"، المخصصة للدبلوماسي والسياسي السوفييتي والروسي الراحل، يفغيني بريماكوف، في موسكو الثلاثاء الماضي: "لا أريد حتى أن أفترض أن سوء التقدير هذا قد يكتسب طابعاً مأساوياً وكارثياً".

وأوضح أن المشاركين في النقاش خرجوا بنتيجة مفادها بأن هناك مخاطر عالية لوقوع صدام عسكري مباشر، بما في ذلك بين القوى النووية، مضيفاً أن "هناك أسئلة تتعلق بكيفية عمل الرؤية الكلاسيكية للردع النووي. خرجنا بنتيجة مفادها بأنه يجب التفكير في كيفية التصرف وتقليص مخاطر الصدام المباشر". واعتبر ريابكوف أن "الخصوم يضعون شروطاً غير مقبولة مسبقاً" للحوار، مقترحين العودة إلى المفاوضات "وفق المقاييس وبتلك المحافل والأطر"، مثلما كانت "قبل بدء المرحلة الراهنة من الأزمة الأكثر حدة" في العلاقات بين روسيا والغرب.