أربك رئيس مجلس السيادة السوداني، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، الكثير من الحسابات السياسية، بإعلانه، مساء أول من أمس الإثنين، انسحاب المؤسسة العسكرية من الحوار الوطني، والتزامها التخلي عن الحكم مباشرة بعد حدوث توافق بين المدنيين على تشكيل حكومة جديدة.
خطوة البرهان جاءت في خطاب وجّهه للشعب السوداني، لم يكتفِ فيه بالانسحاب من حوار حلّ الأزمة السياسية، بل أردفه بتعهدات بحلّ مجلس السيادة الانتقالي عقب تشكيل حكومة كفاءات مستقلة بواسطة المدنيين، على أن يكتفي العسكر بتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة.
توقيت خطاب البرهان في ظلّ حراك سوادني متصاعد
توقيت خطاب البرهان جاء بالتزامن مع تصاعد الحراك الثوري الرافض لاستمراره هو شخصياً وبقية المكون العسكري في الحكم، والمطالب بعودتهم إلى الثكنات، وهو حراك ممتد منذ تاريخ وقوع انقلاب البرهان (على الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك) في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحصيلته حتى الآن 114 قتيلاً وآلاف المصابين.
من صلاحيات المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعيين وزراء
وزادت وتيرة الحراك والمقاومة للانقلاب خلال الأيام الماضية، لا سيما بعد مليونية 30 يونيو/ حزيران الأخيرة في أكثر من 25 مدينة، ولاحقاً أنتجت اعتصامات مناطقية في عدد من أحياء العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني، وسط السودان، تحت إصرار من لجان المقاومة، "دينامو" الحراك الثوري، على عدم التراجع إلا بعد هزيمة الانقلاب وتشكيل السلطة المدنية الكاملة ومحاسبة قتلة الشهداء.
كما أنّ توقيت خطاب البرهان تزامن مع غياب نائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، عن الشأن السياسي المركزي. وقضى دقلو حتى يوم أمس، نحو 3 أسابيع في إقليم دارفور، موطنه الأصلي، مهتماً بإعادة ترتيب البيت الدارفوري وذلك برفقة عضوي مجلس السيادة، الهادي إدريس والطاهر حجر. دقلو، وطوال وجوده في الإقليم، لم يبد أي اهتمام بالمسائل المركزية، ومنها حتى التوتر بين السودان وإثيوبيا الذي أعقب إعدام أديس أبابا 7 جنود سودانيين كان الجيش الإثيوبي قد أسرهم. ويوجد أكثر من تفسير لذلك، منها وجود خلافات بين دقلو والبرهان قد تكون سبباً وراء خطاب الأخير.
البرهان يأخذ باليسار ما منحه باليمين
وحاول قائد الجيش إظهار قدر من الجدية في نيته التخلي عن السلطة والعودة إلى الثكنات وحل مجلس السيادة، لكنه اشترط لذلك حدوث توافق سياسي بين المدنيين لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة. وربما يراهن البرهان هنا بالتحديد على عدم توافق المدنيين، ولا سيما أنه يسيطر على عدد من القوى السياسية التي وقفت في صفّه منذ اليوم الأول للانقلاب. وإذا لم يحدث التوافق، فإن ذلك سيبقي البرهان أطول فترة ممكنة في السلطة، وفي الوقت ذاته، يصور للداخل والخارج أنّ الأزمة لم تعد مرتبطة بالجيش، بل هي صراع بين مدنيين.
ومهما يكن، فإنّ البعض يرى أن مجرد إعلان البرهان الانكفاء على الجيش ومغادرة المشهد السياسي، هو حدث في حدّ ذاته ما كان ليحدث لولا الضغط الشعبي المستمر، ولولا فشل البرهان خلال أكثر من 8 أشهر من انقلابه في تنفيذ وعوده التي أعلنها في اليوم الأول من الانقلاب، من تشكيل للحكومة وللبرلمان والمحكمة الدستورية وغيرها من المؤسسات، مقروناً بعجزه عن إحداث اختراق في جدار العزلة الدولية والإقليمية التي ضربت على الانقلاب منذ اليوم الأول.
وسريعاً ما يواجه من يثمّنون نقطة عودة العسكر إلى الثكنات بمنطق مضاد، هو أن خطاب البرهان أخذ باليسار ما أعطاه باليمين: فقد اقترح تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع، يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ويكون مسؤولاً عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بهما من مسؤوليات، على أن تستكمل مهام المجلس بالاتفاق مع الحكومة التي يتم تشكيلها لاحقاً.
لم يسم البرهان بشكل قطعي القوى المدنية والثورية والوطنية التي عليها واجب التحاور
البرهان، بحسب المعلومات والتسريبات، لم يُكمل بقية فصول مقترح قيام مجلس أعلى للقوات المسلحة، والذي سبق أن قدمه المكون العسكري في السودان للآلية الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، التي تتوسط في الشأن السوداني، حيث يتوسع المقترح في صلاحيات ومهام المجلس بما يشمل حق تعيين وزراء الخارجية والدفاع والداخلية، ومدير جهاز المخابرات العامة، ومدير قوات الشرطة ومحافظ مصرف السودان المركزي، وكل ذلك يعني السيطرة الكاملة على كل الملفات المهمة، وترك الحكومة المقترحة ذات صلاحيات تشريفية وهامشية.
وبعيداً عن ذلك، لجأ بيان البرهان إلى إلباس بعض العبارات غموضاً، فلم يسم الخطاب بشكل قطعي وواضح القوى المدنية والثورية والوطنية التي عليها واجب التحاور تحت إشراف الآلية الثلاثية لتشكيل الحكومة التنفيذية، وغفل عن المرجعية الدستورية للحكومة، وهل هي الوثيقة الدستورية لسنة 2019 أم وضع دستور انتقالي جديد؟ كما أبدت حركات الكفاح المسلح تساؤلها عن عدم ذكرها في الخطاب وهل يعني ذلك تجاوزها؟ وتجاهل الخطاب أيضاً الحديث عن قضايا دمج القوات المسلحة، بما فيها قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، والإصلاحات الأمنية والعسكرية التي تقود إلى جيش وطني مهني مهمته حماية الحدود والدستور، كمطلب ظلّ حاضراً لدى كثير من السودانيين، سواء على مستوى الشارع أو الأحزاب السياسية .
ردود الفعل بين الرفض والترحيب
ردود الفعل من القوى السياسية على خطاب البرهان تأخرت ساعات طويلة، خصوصاً تحالف قوى "إعلان الحرية والتغيير"، الذي رفض، عصر أمس الثلاثاء، في بيان، قرارات قائد الجيش ووصفها بأنها "مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي"، داعياً السودانيين إلى مواصلة التظاهر.
وقال التحالف إن "قرارات قائد السلطة الانقلابية مناورة مكشوفة وتراجع تكتيكي... واجبنا جميعاً الآن مواصلة التصعيد الجماهيري بكافة طرقه السلمية من اعتصامات ومواكب والإضراب السياسي وصولاً إلى العصيان المدني الذي يجبر السلطة الانقلابية على التنحي"، وأكد أن "الشعب السوداني لن ينطلي عليه بيان البرهان وسنستمر في المقاومة السلمية"، وأنّ "محاولة السلطة الانقلابية تصوير الأزمة كصراع بين المدنيين ما هي إلا ذر للرماد في العيون". واعتبر التحالف أن "البرهان يقبل ظاهرياً مبدأ عودة الجيش للثكنات مع إفراغ هذا المبدأ من محتواه". وكتب ياسر عرمان، عضو المكتب التنفيذي للتحالف، مقالاً اعترض فيه على الخطاب لما فيه من تناقضات وتكتيكات لشرعنة الانقلاب، داعياً إلى مواصلة العمل الثوري.
لجان المقاومة: أمام قائد الجيش طريق واحد نحو المشانق
بدورها، لم تتردد لجان المقاومة السودانية في إصدار بيان رفض جملة وتفصيلاً كل ما جاء في خطاب البرهان، وذكرت بالحرف الواحد أن أمام قائد الجيش، ومن خلفه من الانقلابيين، "طريق واحد نحو المشانق والمقاصل للجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب السوداني"، مبينة أن البرهان "يريد فقط من خطابه التموضع في مستقبل الدولة السودانية بشكل جديد" وأنّ الثورة السودانية "تواصل انتصاراتها الباسلة كل يوم لتؤكد للعالم أن هذا الشعب عصي على التركيع".
وكان حزب الأمة القومي بقيادة مبارك الفاضل المهدي، وهو أحد مكونات التحالف، قد سارع إلى الترحيب بخطاب البرهان، وكذلك فعل "الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل".
أما تحالف "الحرية والتغيير" الآخر، المسمى بقوى الميثاق الوطني، وهو أهم التحالفات الداعمة للانقلاب، فعقد مؤتمراً صحافياً، ظهر أمس، وأصدر بياناً تلاه أمينه العام مبارك أردول، أكد فيه أن الخطاب حوى نقاطاً إيجابية عدة وأخرى غامضة تحتاج إلى استجلاء أكثر. وأكد البيان "دعم التحالف للسلام الشامل والكامل والتحول الديمقراطي والحوار الذي يشمل كل القوى السياسية السودانية، عدا حزب المؤتمر الوطني، حزب الرئيس المعزول عمر البشير"، كما جدّد دعمه للآلية الثلاثية كمسهل للحوار، وشدّد على ضرورة الالتزام باتفاقية السلام الشامل الموقعة في جوبا عام 2020 بين الحكومة وحركات الكفاح المسلح، ودعا كل القوى السياسية إلى التوافق لتشكيل حكومة توافقية.
وقال المتحدث باسم قوى الميثاق الوطني محمد زكريا، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ خطاب البرهان جاء مقتضباً ويحتاج إلى استجلاء المواقف حول بعض النقاط الغامضة، مشيراً إلى أن الخطاب أشبه بإعلان المبادئ ولم يدخل في التفاصيل التي غالباً ما يسكنها الشيطان. أما أبرز النقاط الغامضة، فهي تتمثل في طبيعة ومهام هياكل السلطة الانتقالية ومدة الفترة الانتقالية ووضعية اتفاقيات السلام، بحسب زكريا.
في المقابل، رأى زكريا أن أهم النقاط الإيجابية، هي رمي الكرة في ملعب المدنيين للوصول إلى حلول عبر الحوار المباشر، مؤكداً أنهم الأكثر حرصاً على الحوار والجلوس مع جميع القوى السياسية، بل وإلحاق حركات مسلحة وأحزاب سياسية مثل حركة عبد العزيز الحلو (الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال)، وعبد الواحد محمد (حركة جيش تحرير السودان)، والحزب الشيوعي، بالعملية السياسية، على أن يجلس الجميع على الطاولة من دون اشتراطات مسبقة.