قالت مصادر قضائية مصرية في محكمة النقض ومجلس الدولة، إنّ هناك حالة من عدم الارتياح تعم أوساط القضاة بسبب التوجيهات التي صدرت من رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، بتعيين الإناث في الوظائف القضائية بالنيابة العامة ومجلس الدولة، تنفيذاً للاستحقاق الدستوري عام 2014، والذي رفض كل من مجلس القضاء الأعلى والمجلس الخاص الإداري لمجلس الدولة تنفيذه على مدى سبع سنوات. وعلى الرغم من تصدير هذا التوجّه على أنه تنفيذ للدستور، فإنّ المصادر لفتت إلى أنّ السيسي يصرّ على تغيير وجه القضاء المصري خلال سنوات حكمه، لعدم رضاه عن توجهات القضاة و"مناطحتهم" للسلطة التنفيذية.
وقبل 11 عاماً، ثارت أزمة في مجلس الدولة بسبب فتح باب التعيين للخريجات. وعلى الرغم من تأييد سوزان ثابت قرينة الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك لهذا الأمر، وخروج تظاهرات من أمانات المرأة في الحزب الوطني الحاكم آنذاك، ومنظمات حقوقية مستقلة، تطالب بتعيين المرأة قاضية، إلا أنّ الدولة وقتها رضخت لقرار الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة برفض تعيين الإناث، وتجاهلت قراراً صدر آنذاك من المحكمة الدستورية العليا بعدم اختصاص الجمعية العمومية بالتدخل في أمور التعيينات.
وعارض القضاة أيضاً المادة 11 من الدستور الحالي لدى وضعها من قبل لجنة الخمسين، نظراً لنصها صراحة على المساواة بين الذكور والإناث في التعيين بالجهات والهيئات القضائية، وهو النص الذي شاركت في وضعه عدد من السيدات عضوات اللجنة وقتها، مثل الوزيرة السابقة ميرفت التلاوي والمحامية منى ذو الفقار والأكاديمية هدى الصدة. وعلى الرغم من إلحاح الوزارات والجهات الحكومية المعنية طوال السنوات السبع الماضية على هذا الشأن، لكن مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة رفضا فتح باب التعيين للخريجات الجدد، كما صدرت العديد من الأحكام برفض دعاوى أقامتها خريجات من كليات الحقوق والشريعة والقانون.
السيسي يصرّ على تغيير وجه القضاء المصري خلال سنوات حكمه
كل هذه المقدمات، جعلت صدور توجيهات السيسي لوزارة العدل بتنسيق الأمر، ذات أثر كبير محتمل على العمل القضائي، خصوصاً أن وزير العدل المقرب من دائرة السيسي المستشار عمر مروان، لم يعلن حتى الآن كيفية تنفيذ هذا القرار، مع الأخذ في الاعتبار أنه فرض تعتيماً كبيراً داخل الوزارة على الحديث عن الأمر.
وذكرت المصادر القضائية أن مروان أجرى لقاءات مكثفة خلال اليومين الماضيين برئيسي مجلس الدولة محمد حسام الدين، ومجلس القضاء الأعلى عبد الله عمر شوضة، وعدد من رؤساء المحاكم وأعضاء مجالس إدارة أندية القضاة، ليتشاور معهم في كيفية تنفيذ التوجيهات الرئاسية، واصفاً إياها بأنها "نهائية ولا تقبل المناقشة".
ووصفت المصادر الأمر بأنه من مؤشرات إصرار السيسي -الذي ينتمي شقيقه لمحكمة النقض ويعمل عدد من أفراد أسرته الذكور بالنيابة العامة ومجلس الدولة والإناث بالنيابة الإدارية- على تغيير وجه القضاء المصري بالكامل خلال سنوات حكمه، لعدم رضاه عن "توجهات القضاة وتحكمهم المنفرد بالقضاء ومناطحتهم للسلطة التنفيذية".
وبحسب المصادر، فإنّ المجتمع القضائي في مجلس الدولة والقضاء العادي منقسم إلى ثلاثة فرق تجاه هذه التطورات. الفريق الأول وهو الأكبر، يرفض تعيين المرأة قاضية نهائياً لاعتقادات وأسباب مختلفة؛ منها إيمان بعض القضاة بعدم جواز تولي المرأة القضاء وفق الشريعة الإسلامية، التي لا يجب أن تتضارب معها الأحكام القضائية الصادرة من المحاكم المصرية، وفق قراءتهم للمادة الثانية بالدستور، وفشل تجربة الاستعانة بالقاضيات في المحاكم المتخصصة والجنائية منذ عام 2005، واللاتي يبلغ عددهن الآن ستين قاضية. وكذلك بسبب انخفاض إنتاج وضعف كفاءة الإناث عضوات النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة من وجهة النظر المتحفظة لهذا الفريق.
وزير العدل لم يعلن حتى الآن كيفية تنفيذ قرار السيسي
أما الفريق الثاني من حيث الحجم والتأثير، فيمكن القول إنه مكوّن من قضاة لا يرون غضاضة في تعيين القاضيات، لكن لديهم تحفظات متعددة على التوقيت، بسبب مشاكل تشريعية وإدارية قد تؤدي لإفشال التجربة من وجهة نظرهم، وباحتمال تمييز القاضيات عن القضاة في العمل الذي يتطلب في المعتاد التنقل من مكان لآخر والعمل في محافظات مختلفة، خصوصاً في أول سنوات الوظيفة. كما يعترض بعض أعضاء هذا الفريق على تدخل السيسي في الأمر باعتباره رئيساً للسلطة التنفيذية، ويرون أن تدخله من خلال وزير العدل هو تكريس لتحكمه المتوسع في إدارة السلطة القضائية منذ فرض نفسه كمتحكم في رئاسة الهيئات منذ 2017.
أما الفريق الثالث، وهو الأقل عدداً وصاحب الصوت الأكثر انخفاضاً في مجموعات القضاة على مواقع التواصل الاجتماعي، فهو المؤيد لتوجيهات السيسي، باعتبارها تنفيذاً للدستور، وتنهي فترة خالف فيها القضاء استحقاقاً صريحاً بدون مبرر قانوني أو موضوعي.
وكشفت المصادر أنّ الموضوع الأكثر شغلاً للمجتمع القضائي حالياً، هو البحث في الاحتمالات المختلفة لكيفية تعيين القاضيات، فالمرجح أن يتم فتح باب التقدم للإناث مع الذكور ابتداء من خريجي دفعة 2021. ويصرّ مجلس القضاء الأعلى ومجلس الدولة على عدم العودة عن الإعلان الذي سبق وأصدراه للتعيين بداية العام الحالي مقصوراً على الذكور. والمرجح أيضاً، وفق المصادر، الاتفاق بين الهيئتين برعاية وزير العدل، على تعيين الإناث بنسبة رمزية لا تزيد على عشرة بالمائة، على أن تكون هذه الدفعة تجريبية لتقييم الوضع لمدة عام.
وبداية العام الحالي، أعلن السيسي ووزير عدله عمر مروان، تخصيص العام الحالي 2021 لـ"النهوض بشباب القضاة" من خلال الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للمخابرات، استكمالاً لخطة تدجين القضاء التي بدأها منذ خمس سنوات. إذ سيتم استحداث دورات تدريبية في الأكاديمية للقضاة المعينين الموجودين سلفاً بجميع الهيئات، لتصبح تلك الدورات أداة لتقييمهم ومعرفة انتماءاتهم وتطوير التعاون مع بعضهم، تمهيداً لاختيارهم لوظائف قيادية قضائية وإدارية في المستقبل. وهو ما يبرهن على رؤية السيسي للقضاء كجزء من السلطة التنفيذية، يصلح لممارسة السياسات التفريخية ذاتها التي تتبع لإعداد القيادات الجديدة الموالية في الحكومة.
ترجيح بتعيين الإناث بنسبة رمزية لا تزيد على عشرة بالمائة
كما أبرمت النيابة العامة بروتوكول تعاون لمدة عامين مع الأكاديمية يستهدف وفق المعلن "الارتقاء بأعضاء النيابة العامة والإداريين بها، وتطوير وتنمية قدراتهم ومهاراتهم العلمية والإدارية في شتى المجالات، مواكبةً لتطورات العصر الحديث". كما وقّعت على بروتوكول مماثل كل من هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، بهدف "صقل وتنمية خبرات وقدرات أعضاء النيابة، لمواكبة كافة التطورات القانونية والإدارية والتقنية، وتوفير متطلبات تحقيق العدالة الناجزة وضبط منظومة العمل الإداري وإرساء قيم ومعايير المساءلة والنزاهة والشفافية"، وفق المعلن.
لكن الواقع أنّ القضاة يدرسون في الأكاديمية العديد من المناهج البعيدة عن القانون وحقوق الإنسان. إذ تهتم الأكاديمية بمناهج بحثية خاصة بحروب الجيلين الرابع والخامس والأمن القومي والإرهاب، في بوادر إعادة توليد لتجربة زرع التنظيم الطليعي في الجسد القضائي في نهاية ستينيات القرن الماضي (في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر). وأصبح عدد كبير من القضاة الجدد يدينون بالولاء إلى الأكاديمية، بانخراطهم في برامج مستدامة بها، والتي هي في الحقيقة ليست معهداً للتدريب بالمعنى المعروف، بقدر ما هي وعاء سياسي لتأييد النظام وتفريخ أجيال تدين له وحده بالولاء.