يتفاقم الصراع داخل ما يسمى في تونس بالعائلة الدستورية، وهي التي تضم أنصار "الحزب الدستوري"، الذي أسسه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قبل الاستقلال، والمنضمين إلى حزب "التجمع الدستوري" المنحل. وتفرّق الدستوريون بعد الثورة على عدة أحزاب، وفيهم من اختار الانسحاب من الساحة السياسية. واشتد التنافس بين الشخصيات البورقيبية والتجمعية حول قيادة هذا الخزان الانتخابي الهام. وتمكنت رئيسة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسي من التقدم على منافسيها في هذا المجال، إلا أنها تصطدم بمعارضة كبيرة من شخصيات وتيارات بورقيبية تختلف معها جذرياً في التوجهات.
وتؤشر المعطيات الجديدة إلى مزيد من الانقسامات داخل هذه العائلة، ما يحول دون دعوات التوحد والإنقاذ التي ظهرت أخيراً. وأعلن أخيراً تأسيس حزب جديد، وهو "الحزب البورقيبي البلعيدي"، نسبة إلى بورقيبة والزعيم اليساري الراحل شكري بلعيد، والذي أعلنت مؤسسته نصاف الحمامي، أن مؤتمره سيكون في 6 يونيو/حزيران المقبل، ويضم شخصيات وطنية ودستورية. إلا أن دعوة الحمامي، التي جاء فيها أن هذا الحزب سيطرح البدائل لإنقاذ البلاد، قد لا تتحقق بسبب الصعوبات والصراعات التي تواجهها العائلة الدستورية. الحمامي، التي ظهرت سابقاً كمنسقة لحركة "الشباب الوطني"، والتي يروج لها على أنها الحركة التي دعمت الرئيس التونسي قيس سعيّد للرئاسة، أضافت، في تصريح إعلامي، أن 7 من النواب التحقوا بهذا الحزب الجديد.
أُعلن أخيراً عن تأسيس حزب جديد، هو الحزب البورقيبي البلعيدي
ويأتي الإعلان عن هذا الحزب الجديد مباشرة بعد إطلاق "دعوة للإنقاذ" من الأميرال التونسي المتقاعد كمال العكروت، الذي شغل سابقاً منصب مستشار الأمن القومي للرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. وأكد، في رسالة نشرها على صفحته في "فيسبوك"، أنه "حان زمن الإنقاذ، الواجب يدعونا جميعاً، ممن يرفضون تواصل منظومة الفشل والرداءة والتحايل السياسي من كل جهات البلاد لرصّ الصفوف وتجميع القوى".
وكانت موسي قالت، في تصريح سابق، إن العكروت بصدد الاتصال بهياكل الحزب "الدستوري الحر" في جهة الساحل، وذلك في إطار مخطط لتفكيك الحزب. وادعت أن "المخطط اليوم يتمثل في التخلص من الدستوري الحر في المشهد السياسي، وكذلك من عبير موسي في البرلمان". وأضافت أنه ليس لديها أي خوف من فقدان موقعها في "الدستوري الحر"، مشيرة إلى أن "هناك كفاءات مستقلة ملتفة حول حزب".
ونفى العكروت، الأربعاء الماضي، اتهامات موسي بمحاولة إزاحتها من الحزب. وقال، في حديث إذاعي، "ما يجمعني بعبير أكثر مما يفرقنا. وإذا تحولتُ إلى الجهات، أو عملتُ في الميدان، فذلك بدعوة من مواطنين أعرفهم لا غير". وردّت موسي عليه، مساء اليوم نفسه في تصريح تلفزيوني، بأن "هذا غير صحيح، وأنها لا تجتمع بأي كان تعامل مع الإخوان" على حد قولها.
وتتزامن هذه الدعوات والتحركات مع موجة من الاستقالات التي يواجهها "الدستوري الحر"، والتي كشفت عن ضعف وهشاشة هذا الحزب، مع توقع مختصين بروز بدائل له، أو تعديلات داخله، أو إبعاد زعيمته موسي، أمام تحفظ العديد من الدستوريين على ما تقوم به من تجاوزات لا تخدم العائلة الدستورية ولا المشهد السياسي. وكان القيادي السابق في حزب "نداء تونس" منجي الحرباوي اعتبر أن ما تقوم به موسي تصرفات غير مسؤولة، مؤكداً، في تصريح إعلامي، أن هناك من رأى في موسي حبل نجاة للدولة، ولكن ما حصل هو العكس، ومن المتوقع أن يؤثر ذلك على شعبيتها الواسعة.
وعن هذه التطورات، رأى عضو المكتب السياسي في "نداء تونس" سابقاً، بوجمعة الرميلي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011 باغتت الدستوريين، معتبراً أنه أمام سقوط نظام زين العابدين بن علي بحث البعض منهم عن حلول للتموقع والهروب من المحاكمات. وأشار إلى أن "الدستوريين تشتتوا، وهناك من تموقع في النهضة، والبعض داخل النداء، وهناك من أسسوا أحزاباً جديدة، واستمر هذا الأمر إلى حين بروز نداء تونس كقوة على الساحة السياسية". وتابع "مباشرة بعد انقسام نداء تونس تكونت أحزاب ضمّت دستوريين وغير دستوريين، ولكن من أبرز الأخطاء التي وقع فيها هؤلاء أنهم ظلوا يعتبرون أنفسهم أنهم هم الوطنيون فقط". وأشار إلى أنه "كانت هناك عدة عائلات فكرية داخل الدساترة، ومنها اليسار والحزب الشيوعي التقدمي وحركة الراحل أحمد المستيري وأحمد بن صالح، وهناك دساترة حتى في الاتحاد العام التونسي للشغل"، مبيناً أن "العائلة الوطنية هي التي يجب أن تجمع شتاتها، وذلك ليس تحت شعار الدساترة بل ضمن العائلة الوطنية، ويجب استخلاص الدروس من التجارب السابقة لإعادة البناء".
ماجد البرهومي: نسبة هامة من الدساترة ترى أن أي تجميع جديد سيكون خدمة مجانية للنهضة
من جهته، رأى المحلل السياسي ماجد البرهومي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "ما يُعرف بظاهرة الحزب الدستوري الحر، بقيادة عبير موسي، برزت خلال هذه الفترة، لأنها كانت نتاجاً طبيعياً لعشر سنوات من الهرسلة للدساترة وشيطنتهم وإقصائهم من المشهد، وبالتالي نسبة هامة من التونسيين أصبحت ترى في الدساترة المنقذ، ولذلك برز منهم فصيل أكثر عنفاً وميلاً للإقصاء"، مبيناً أن "البعض لم يكن ليتلف حول حزب المبادرة مثلاً، برئاسة كمال مرجان، لو لم يتعاطفوا مع التيار الدستوري ككل". ولفت إلى أن "العائلة الدستورية كبيرة وتضم عديد الشخصيات، وتقريباً الأحزاب الكبيرة حالياً في الساحة هي النهضة والدستوريون، وهو ما يجعل الحزب الدستوري الحر في طليعة نتائج سبر الآراء، خاصة بعد تراجع اليسار"، مبيناً أن "توحيد الدساترة لا يزال أمراً صعباً، وهو ما يجعل الدستوري الحر حالياً المهيمن في الأحزاب الدستورية".
ولاحظ البرهومي أن "نسبة هامة من الدساترة ترى أن أي تجميع جديد سيكون خدمة مجانية للنهضة، بمعنى أن هناك من يحاول ضرب النهضة، فيتعاطفون معها بعد الهجمات المتتالية لرئيسة الدستوري الحر عليها. وهناك من لا يتفق مع موسي فاختار الابتعاد، أو الاكتفاء بمتابعة الوضع، وهو ما لا يُمكنهم من البروز. فبقيت موسي في طريق مفتوح بالعيوب والمساوئ الموجودة لديها، وهي تعيش مرحلتها وتتواجد في الصفوف الأمامية، ولا يعرف الآن مسبقاً إن كانت ستنجح أو تفشل". ولفت إلى أن "العائلة الدستورية إن ارادت التجمع مجدداً فلا بد لها أن تقوم بمراجعات كبيرة ودراسة الواقع جيداً، وعدا ذلك فهو اندثار لهذا التيار أو غيره".