لم يكن اجتماع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم السبت الماضي بوزير العدل عمر مروان، ورؤساء الهيئات القضائية وعدد من شباب أعضاء تلك الهيئات، والذي عقده على نحو مفاجئ، مجرد لقاء عابر لتكريم من وصفتهم الرئاسة في بيانها بـ"ممثلين عن شباب القضاة المتميزين"، بل كان مقصوداً به ترسيخ تبعية السلطة القضائية بشكلها الحالي الذي أرسته تعديلات السيسي على الدستور في أبريل/نيسان 2019 لرأس النظام. بالإضافة لاستحداث سنّة جديدة بتكريم السلطة التنفيذية للقضاة على عملهم مقابل عقاب واستبعاد وفصل وحظر آخرين، في مشهد تتلاشى فيه الحدود بين السلطات ويكرس فيه شعور شباب القضاة بغياب الاستقلال وتغيّر أخلاقيات وأهداف العمل القضائي، خصوصاً مع توسع النظام في اتباع أساليب غير معتادة لتقييم القضاة بصورة أقرب لتقييم أداء العاملين المدنيين بالدولة والموظفين الإداريين.
وكشفت مصادر بوزارة العدل ومحكمة شمال القاهرة ومجلس الدولة، لـ"العربي الجديد"، أنّ اجتماع السيسي برؤساء الهيئات وممثلي شباب القضاة هو الحلقة الأخيرة من سلسلة فعاليات نظمتها الوزارة بتعليمات من دائرة السيسي المخابراتية والرقابية لتكريم القضاة الأكثر إنتاجاً وإنجازاً للقضايا خلال العام القضائي الماضي، ومع بدء العام القضائي الجديد بداية الشهر الحالي. إذ عمّمت الوزارة تعليمات جديدة منذ بضعة أشهر على إدارات التفتيش بجميع الهيئات القضائية لتقييم جميع القضاة، بناءً على حجم الإنجاز وكمية القضايا والتقارير التي تكتب شهرياً.
ترسيخ الاهتمام بحجم الإنجاز وعدد القضايا، له آثار بالغة السلبية على مستقبل جميع الهيئات القضائية وطريقة إدارة مرفق العدالة
ومن الطبيعي أن تجرى عملية متجددة شهرياً لحساب الإنجاز في جميع الهيئات والمحاكم، لكنها تستخدم في الأساس لقياس مدى كفاءة الدوائر واتخاذ الإجراءات تجاه العناصر الأقل في الالتزام والإنتاجية. لكن ما حدث في الأشهر الأخيرة بتعليمات وزارة العدل، هو دخول جميع الدوائر بقضاتها ومحققيها في حالة سباق لإنهاء أكبر قدر ممكن من القضايا، وغلق أكبر عدد من الملفات، للحصول على مكافآت أدبية وتشجيعية وصرف حوافز الإثابة المرتبطة بها.
وأوضحت المصادر أنّ ترسيخ الاهتمام بحجم الإنجاز وعدد القضايا وغيرها من الاعتبارات ذات المعايير الكمية في نفوس القضاة الشباب، له آثار بالغة السلبية على مستقبل جميع الهيئات القضائية وطريقة إدارة مرفق العدالة. فعلى الرغم من الاعتراف العام بجميع الهيئات بأنّ بطء التقاضي من العناصر الأساسية لغياب إحساس المواطنين بإمكانية تحقيق العدالة في مصر، إلا أنّ الحلول التي سبق تقديمها في مختلف النقاشات والمؤتمرات منذ الثمانينيات من القرن الماضي وحتى الاجتماعات السابقة على تعديل الدستور العام الماضي، كانت تتعلق بزيادة أعداد القضاة والموظفين، وتوجيه المزيد من المخصصات لتطوير آليات إقامة الدعاوى ومتابعتها وتسهيل عرضها على لجان الخبرة والفحص التي تتعطل فيها معظم منازعات الأشخاص. إذ لا يكون حلّ الأزمة بالضرورة بسرعة غلق القضايا وإصدار الأحكام من دون الاهتمام في المقام الأول بتحقيق العدالة في كل منازعة معروضة على القاضي.
وكشفت المصادر عن ظهور مؤشرات سلبية في نوعية الإنجاز بالعديد من المحاكم، نتيجة تسابق القضاة، وخصوصاً الشباب منهم، على إنجاز أكبر قدر من القضايا، مثل ارتفاع نسبة الأحكام الصادرة بعدم القبول والشطب إلى ما يتعدى سبعين في المائة في بعض الهيئات، وارتفاع نسبة الأحكام الصادرة برفض دعاوى المواطنين إلى مستويات غير مسبوقة في مجلس الدولة تحديداً. فضلاً عن زيادة نسبة الأحكام الصادرة بنماذج موحدة للحيثيات في قضايا الموظفين والأحوال الشخصية والنزاعات المدنية الأخرى، مع ظهور أخطاء فنية عديدة بها نتيجة غياب التدقيق وضعف مستوى الفحص بعد كتابتها.
وعلى الرغم من هذه السلبيات وتحذير عدد من كبار القضاة منها، إلا أنّ وزارة العدل لم تتراجع عن استمرار المطالبة بإنهاء أكبر قدر من المنازعات، وذلك تنفيذاً لتعليمات السيسي، التي لا ترتبط فقط بالرغبة في تصوير الأمر على أنه إنجاز لنظامه في وسائل الإعلام، ولكن أيضاً لتخفيض أكبر نسبة ممكنة من القضايا المتداولة في المحاكم قبل استحداث منظومة التقاضي الممكنن الجديدة التي ليس من المتوقع أن تتمكن من استيعاب جميع الدعاوى العالقة حتى الآن. وبالتالي، أصبح يتوجب على وزارة العدل اتخاذ التدابير التي تمكّن من تخفيض تلك الأعداد تمهيداً لتسجيلها إلكترونياً.
ظهور مؤشرات سلبية في نوعية الإنجاز بالعديد من المحاكم
وعلى صعيد آخر، تعمّد النظام المصري استحداث فكرة تكريم القضاة لسبب مهم آخر، وهو تكريس صورة السيسي كرئيس لجميع السلطات بالدولة. وهي فكرة أصبح لها أصل في الدستور بعد تعديله ليملك السيسي سلطة اختيار وتعيين جميع رؤساء الهيئات القضائية بما فيها المحكمة الدستورية العليا بالمخالفة لقاعدة الأقدمية وبموجب التحريات الأمنية والرقابية فقط، محصناً بذلك القانون المشوب بالبطلان الذي أصدره للغرض ذاته عام 2017، فضلاً عن تمكينه بموجب التعديل الدستوري من تأسيس مجلس أعلى لتلك الهيئات (لم ينشأ حتى الآن) لضمان وحدة القرارات والاتجاهات، بما يهدر استقلال كل هيئة قضائية حتى في التصرف في أموالها.
ولم يترك النظام هذا التعديل الدستوري في الفراغ، بل أصبح له أثر واقعي يحاول إلصاقه بعقول وضمائر شباب القضاة منذ مرحلة ترشيحهم واختيارهم، إذ تم إخضاع جميع الهيئات بإلحاق المرشحين الناجحين في المقابلات الشخصية تمهيداً للالتحاق بالعمل، للدراسة في الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للمخابرات، بل واستخدام الأكاديمية كأداة ترشيح أخيرة ونهائية لاختيار القضاة، شأنهم في ذلك شأن المتقدمين للعمل الدبلوماسي والوظائف الحكومية الأخرى. ورضخ مجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى لهذا التوجه الجديد، بعد تلقيهما تأكيدات بأنه "من المستحيل التصديق على تعيين قضاة جدد من دون إخضاعهم للدورات التدريبية"، مما يعني تقليص سلطة إدارة الهيئات في الاختيار، وأن الآلية التي فرضت على مجلس الدولة هي أن يتم إبلاغ أسماء المقبولين الذين اجتازوا الاختبارات والمقابلات الشخصية، ثم يتم ترشيحهم من قبل الجهات الأمنية والسيادية والرقابية، ليتم إلحاق المرشحين المجازين أمنياً بالأكاديمية، وفي النهاية لا يتم تعيين إلا من اجتازوا هذه الدورة.
تعمّد النظام المصري استحداث فكرة تكريم القضاة لتكريس صورة السيسي كرئيس لجميع السلطات بالدولة
وذكرت المصادر القضائية أنّ الشهرين المقبلين سيشهدان استحداث دورات تدريبية في الأكاديمية للقضاة المعينين والموجودين سلفاً بجميع الهيئات، لتصبح تلك الدورات أداة لتقييمهم ومعرفة انتماءاتهم وتطوير التعاون مع بعضهم تمهيداً لاختيارهم لوظائف قيادية قضائية وإدارية في المستقبل. وهو ما يبرهن على رؤية السيسي للقضاء كجزء من السلطة التنفيذية، يصلح لممارسة السياسات التفريخية ذاتها التي تُتبع لإعداد القيادات الجديدة الموالية في الحكومة.
على صعيد آخر، ربطت المصادر القضائية بين اتجاه السيسي الجديد لتكريم نماذج من القضاة وتقديم الشباب منهم، وبين زيادة أعداد القضاة المفصولين بعد محاكمتهم تأديبياً في الأشهر الثلاثة الأخيرة لمشاكل سلوكية ومخالفات قانونية. وكشفت عن تلقي الرئاسة نصائح من بعض الشخصيات القضائية الموثوقة باتخاذ خطوات لتحسين صورة العلاقة بين السيسي والقضاء، بعدما تولد لدى الرأي العام انطباع بأنه يتعامل بعنف وبطش مع القضاة، وتسرب آثار ذلك الانطباع إلى داخل الأوساط القضائية ذاتها، لا سيما بعد قرارات السيسي الحاسمة العام الماضي التي أخضعت القضاة لقانون ضريبة الدخل، وحرمتهم مصادر دخل أخرى، بإنقاص عدد الوظائف التي يمكن ندبهم إليها بالإضافة لعملهم الأصلي.
وسبق أن قال مصدر قضائي رفيع المستوى لـ"العربي الجديد" في يناير/كانون الثاني الماضي، إنّ تناقص المزايا المالية الخاصة بالقضاة في عهد السيسي، ومحاصرة تطلعاتهم، جعلت مئات القضاة، خصوصاً من الشباب، يقدمون استقالاتهم العام الماضي لشعورهم بعدم وجود مزايا تستحق تحمل العديد من المشكلات الأخرى، مثل التوجيه في القرارات والأحكام، والتدخل في العمل، والضغط لزيادة الإنتاج الكمي للأحكام، خصوصاً في المحاكم المدنية والأسرية، بحجة تحقيق العدالة الناجزة. فضلاً عن تدخل العديد من الجهات في عمل القضاة بدعوى مراقبة حجم إنجاز عملهم، مثل الرقابة الإدارية التي سمح لها وزير العدل السابق حسام عبد الرحيم بالتوغل في القضاء.
وجاء ذلك بعدما فشل مجلس القضاء الأعلى في إقناع النظام بإعادة تقييم أسس احتساب ضريبة الدخل، بحيث يتم استبعاد كل من بدل القضاء وبدل التمثيل من الوعاء الضريبي لكل قاض، استناداً إلى البند الرابع من قواعد تطبيق جدول المرتبات الخاص بقانون السلطة القضائية الساري حالياً "46 لسنة 1972". لكن وزارة المالية من جانبها، تتمسك باحتساب البدلين استناداً إلى فقرة أخرى من نفس البند، والتي تنص على أنه "لا يجوز أن يزيد مجموع البدلات مهما تعددت على 100 في المائة من المرتب الأساسي"، وهو الأمر الذي تم تجاوزه بأضعاف مضاعفة نتيجة التوسع في استحداث وزيادة البدلات للقضاة على مدار السنوات العشرين السابقة.