أكثر من انفعل بالحرب الإسرائيلية على غزة في الولايات المتحدة الأميركية كان الوسط الجامعي. فمع تفاقم كارثتها الإنسانية، انشق بين مؤيد لإسرائيل وناقم عليها، مع تعاطف واسع مع الشعب الفلسطيني. وقد جرى التعبير عن ذلك بأشكال مختلفة شملت التظاهرات ومحاولات الاستقطاب والحملات الإعلامية والجدل الساخن داخل الحرم الجامعي في أميركا وبما أدّى إلى ارتفاع وتيرة التوتر بين الفريقين، بقيادة الطلبة الفلسطينيين والعرب من جهة والطلبة اليهود والمتعاطفين معهم من جهة أخرى.
وبفعل التصعيد ودخول لغة الكراهية إلى الخطاب وما رافقه من احتكاكات، تحركت النعرات ضد المسلمين واليهود وتطورت إلى مضايقات وتهديدات خاصة في وسائل التواصل واستهداف الأملاك والأماكن الخاصة ورفع الشعارات الاستفزازية وارتفاع صوت الانتقام في الجامعات كما في الشارع.
ومع أن ضحايا هذه الضخ كانوا من بين الفلسطينيين أكثر من غيرهم إلا أن الاهتمام والتركيز كان على الجهة الأخرى. وصحيح أن التعبيرات المعادية للسامية ازدادت في المدة الأخيرة بنسبة 400%، حسب التقديرات، لكن معها ازدادت تعبيرات الإسلاموفوبيا. ومنها ما حصل بالعنف الدموي (طعن طفل فلسطيني عمره ست سنوات حتى الموت وإطلاق النار على ثلاث طلاب فلسطينيين في جامعة فرمونت قبل أيام أصيب أحدهم بالشلل النصفي).
مع ذلك تحركت الجهات المعنية ليس فقط لسد المنافذ أمام الصوت الفلسطيني في الجامعات الأميركية، بل أيضاً لتوبيخ المسؤولين فيها بزعم أنهم تساهلوا مع هذا الصوت وعملوا على تمكينه من تأكيد نفسه في الساحة الطلابية المهمة. وقد تبدّى ذلك بأوضح صورة في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة التربية في مجلس النواب، الثلاثاء الماضي، مع رؤساء جامعات أم. أي. تي، وهارفارد، وبنسلفانيا، لاستجوابهم عن "الحوادث المعادية للسامية" في هذه المؤسسات الشهيرة.
اللافت كان الانحياز الفاقع في الجلسة، إذ لم تكن الإسلاموفوبيا على جدول أعمال اللجنة. واللافت أكثر أن الاستجواب جرى بلغة التأنيب والترهيب مع التلويح بوجوب إقالة هؤلاء المسؤولين من مواقعهم الأكاديمية بسبب تراخيهم مع الطلاب الفلسطينيين.
والذريعة أن هذه الصروح العلمية تركت الطلاب الفلسطينيين وأنصارهم يدعون إلى "الانتفاضة" في الأراضي المحتلة والتي هي بمثابة "الدعوة إلى العنف ضد المدنيين الإسرائيليين وإلى إبادة اليهود"، كما أخذ عليهم السماح بالهتاف داخل الحرم الجامعي بشعارات مثل "فلسطين ستبقى حرة من النهر إلى البحر"، مع ما ينطوي عليه ذلك من "حضّ لقتل اليهود"، بل ذهبوا إلى حد طرح السؤال على رؤساء الجامعات الثلاث عما إذا كانوا "يعترفون بحق إسرائيل في الوجود". أسئلة واتهامات غريبة تذكّر بسنوات المكارثية في أوائل خمسينيات القرن الماضي التي قامت بحملة ضد تغلغل شيوعي في مؤسسات الدولة، كانت غايتها إخراس الخصوم. فأجواء اللحظة الراهنة في واشنطن تسودها التعمية المتعمدة لحجب مآسي جنوب غزة وما تنذر به من مخاطر التفريغ البشري للقطاع "قدر الإمكان".
كما تعكس أيضاً الحملة التي تقوم بها الجهات النافذة لصالح إسرائيل في واشنطن، لضبط الاعتراضات في الكونغرس وإسكات ما أمكن من أصوات الاعتراض ولو على حساب التعديل الأول من الدستور الذي يكفل حق التعبير للمواطن كما للمقيم طالما بقي صوته ضمن القانون.
ولوحظ في الآونة الأخيرة بعد انتقال القتال إلى جنوب غزة، ضمور الانتقادات رغم أن عدد الضحايا المدنيين يتزايد بوتيرة أعلى أو ليس أقل مما كان عليه في شمال القطاع. وكذلك هو حال المعونات الإنسانية وتردي الأوضاع المعيشية والصحية هناك حسب تحذيرات الأمم المتحدة.
كذلك لوحظت العودة إلى نغمة "حق إسرائيل في إنهاء مهمة حملتها العسكرية"، وذلك برغم التلميحات عن تزايد التوتر بين الإدارة ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخصوص انفلات العملية العسكرية وتداعياتها.
وتسابق المرشحون الجمهوريون الأربعة، ليل الأربعاء، في مناظرتهم الرابعة والأخيرة، في المزايدة على دعم إسرائيل وحتى "إرسال قوات أميركية" لمؤازرتها، كما قال المرشح كريس كريستي.
فالمشهد إذن موتور وممنوع النقد ولا مكان للصوت الآخر، فكيف إذا كان فلسطينياً. المطلوب محاصرة ومعاقبة من "يسهّله" أو يتغاضى عنه حتى لو كان ذلك ضمن القانون، بل ضمن الدستور.