شهدت الأيام الأخيرة في تونس سلسلة مواقف متواترة رافضة للوضع السياسي والاجتماعي الذي يفرضه الرئيس قيس سعيد على البلاد، لا سيما بعد التعاطي الأمني مع المحتجين على مكب النفايات في مدينة عقارب بولاية صفاقس.
وجاءت هذه المواقف من أحزاب ومنظمات وشخصيات وطنية وقضاة ومستقلين، ترفض كلها الحكم الفردي وتدعو لحوار يعيد البلاد إلى سكة الشرعية الدستورية من خلال بحث حلول تشاركية عبر حوار وطني، على خلفية تزايد الضغوط الاجتماعية وموجات الإضرابات والاحتجاجات التي تجتاح قطاعات وجهات كثيرة في البلاد، بسبب الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المرشحة للتصاعد في قادم الأيام.
وأمس الثلاثاء، أعلنت 70 شخصية وطنية في تونس؛ من وزراء ونواب سابقين وأكاديميين وإعلاميين، في بيان مشترك عن "تجندهم للدفاع عن الديمقراطية والعودة إلى الشرعية الدستورية في ظل ديمقراطية تمثيلية تكفل الفصل بين السلطات وتحمي الحقوق والحريات"، كما تعهدوا بـ"العمل مع كافة المنظمات الاجتماعية والأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية والتواصل مع المواطنين بهدف التصدي لنظام الحكم الفردي المطلق والدفاع عن الحريات وضمان الفصل بين السلطات".
واعتبر الموقعون على البيان أنّ "أي إصلاح يمس النظام السياسي أو القانون الانتخابي أو الوضع الدستوري للقضاء، لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال حوار وطني جامع وشامل يبلور الخيارات ويحدد آليات العودة إلى الشرعية الدستورية".
وفي نفس اليوم أصدر عدد من القضاة التونسيين بياناً نبهوا فيه إلى "الخطر المحدق الذي يتهدد السلطة القضائية في وجودها بعد التوجه نحو رفع الغطاء الدستوري عليها وضرب ضمانات استقلالها والتحريض على قضاتها"، داعين إلى "توحيد الصّفّ والتجنيد لحمايتها حماية للحريات والدولة والنظام الديمقراطي".
ودعا القضاة، الرئيس التونسي، للتوقف عن "ازدراء القضاء والقضاة في محاكمات إعلامية وبخطاب يستجلب التعدّي اللفظي والمادي عليهم والإضرار بسمعتهم"، كما دعوه إلى "توفير مناخ التعامل الندّي مع سامي القضاة وخصوصاً مع رئيس المجلس الأعلى للقضاء ممثل السلطة القضائية".
وفي السياق ذاته، أصدرت أحزاب "التيار الديمقراطي"، و"التكتل من أجل العمل والحريات"، و"الجمهوري"، بياناً اعتبرت فيه أنّ "مائة يوم من انفراد قيس سعيد بالسلطة، لم تأت بأي حلول أو تصورات أو مبادرات، بل أدت إلى مزيد تعفين الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بداية بضرب الحريات، مروراً بتشويه الخصوم وتقسيم التونسيين وغياب الحلول للأزمة المالية وتواصل إفلات الفاسدين من العقاب، وانتهاء بالجنوح لاستعمال الحلول الأمنية القمعية التي أدت إلى وفاة مواطن في مدينة عقارب".
ومع توتر الأوضاع الاجتماعية في عدد من الجهات، ومن بينها احتجاجات عقارب جنوب شرقي البلاد، تتجه الأنظار إلى المسيرة التي دعت لها حملة "مواطنون ضد الانقلاب" يوم الأحد المقبل، قبالة البرلمان في باردو، والتي قد تشكل رسالة مهمة أخرى تعكس موجة الرفض لسعيد وقراراته التي أعلنها منذ 25 يوليو/تموز الماضي.
ويتضح من خلال هذه المواقف أن دائرة الرافضين والمعارضين لسعيد تتسع يوماً بعد يوم، فيما تنحصر دائرة مؤيديه بسبب انفراده بالقرار وعدم إنصاته لأي كان والذهاب في مشروعه السياسي الخاص.
واعتبر الأمين العام لحركة "الشعب" الداعمة لسعيد، زهير المغزاوي، أنّ الحديث عن اختصار التدابير الاستثنائيّة "خطوة مهمّة وحركة الشعب طالبت بذلك منذ الإعلان عن هذه التدابير".
وأكّد المغزاوي، في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، أنّ الحركة "طالبت بضرورة أن تكون التدابير في أقصر وقت ممكن … وحركة الشعب، مع فكرة أهميّة إجراء الحوار مع الشباب، تعتبر أنه لا يقلّ أهميّة عن الحوار مع الأحزاب والمنظّمات الوطنيّة التي تؤمن بالمسار الديمقراطي وساندت الإجراءات التي تمّ اتخاذها ولم تتورّط في نهب المال العام".
موقف الاتحاد التونسي للشغل يحدد طبيعة المرحلة القادمة
ومع مواقف الأحزاب والمنظمات، يبقى موقف الاتحاد العام التونسي للشغل فاصلاً في هذا الاتجاه، وهو الذي يحدد طبيعة الساحة الاجتماعية والاقتصادية قبل السياسية، وستكون بداية مشاوراته مع الحكومة، الإثنين المقبل، مؤشراً على طبيعة المرحلة القادمة.
وقال الأمين العام المساعد للاتحاد، سامي الطاهري، في تصريحات صحافية اليوم الأربعاء، على هامش اجتماع نقابي، إنّ المنظمة ستنظر في مآل الاتفاقيات الممضاة مع الحكومات السابقة، وترفض تحميل المواطن عبئاً إضافياً برفع الدعم أو الترفيع في الأسعار، وأن الاتحاد لن يقبل أن يتحمل الإجراء أعباء سياسات فاشلة أو مزيد إثقال كاهلهم بالضرائب".
العودة للدستور
أما الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري"، عصام الشابي، فاعتبر أنه "ليس أمامنا من خيار اليوم في البلاد، فإما الاستمرار في الحكم الفردي والوصول إلى الفوضى لا قدر الله، أو التوحد في رفض ذلك والعودة للدستور".
وأوضح الشابي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ أحداث مدينة عقارب "بيّنت أن تعاطي الدولة التونسية مع الكارثة البيئية لا يحمل لا رؤية جديدة ولا قيادة جديدة للدولة، وإنما هو نفس التعامل الأمني مع المحتجين، وانسحاب الأمن وتدخل الجيش والإضراب العام يعكس العجز في إيجاد حلول، لأنه لا يمكن أن تسيّر البلاد بالخطب والشعارات التي تعيد إنتاج نفسها وتسعى لتقسيم التونسيين، الذين ربما انبهروا في البداية ببعضها ولكنهم تفطنوا اليوم إلى أن واقعهم صعب ومرير".
وأضاف "أعتقد أن هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المعقد سيفرض إلى جانب الضغط السياسي والمدني على رئيس البلاد أن يقبل بالحوار ويضع حداً للنهج الذي يسير فيه، لأن الحقيقة الاقتصادية لا تخضع للخطابات وإنما تعترف فقط بالأرقام والمعادلات الرياضية".
وأضاف الشابي "نأمل أن يكون هذا سريعاً وأخشى أن يتأخر بعد فوات الأوان عندما يصبح بلا جدوى وأن تكون الفاتورة باهظة، ولا بد من تسريع الخطى نحو الرجوع إلى تفعيل الدستور والشرعية الدستورية والتفريق بين السلطات".
وعن الموقف السياسي والحزبي العام وتشتت أصوات المعارضة التونسية، وإمكانية الالتقاء حول الاتحاد العام التونسي للشغل من أجل صياغة موقف في اتجاه حوار وطني، قال الشابي إن "موقف الاتحاد وازن ومتزن كما عهدناه دائماً، ولكن لا بد من أن تكون كل القوى الحية والقوى المدنية إلى جانب الاتحاد والمنظمات الوطنية الواعية بدفع البلاد نحو الاتجاه الصحيح".
وقال إنّ "تجمع الأحزاب الأربعة، الجمهوري والتيار وآفاق والتكتل، يسعى إلى أن يتوسع أكثر ليشمل المستقلين والشخصيات الوطنية وبقية القوى لتجميع كل الجهود من أجل إخراج البلاد من مآزقها، لأن أصوات المعارضة مشتتة اليوم وكلها مهمة والتعددية هامة، ولكن في اللحظات الفارقة، لا بد أن تجتمع كل القوى المدنية والديمقراطية والحزبية لتزن وتؤثر في المشهد وفي طبيعة الحل".
منظمة "العفو الدولية" قلقة من محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية
في الأثناء، قالت منظمة "العفو" الدولية، اليوم الأربعاء، إنّ المحاكم العسكرية في تونس تستهدف المدنيين بشكل متزايد، وفي بعض الحالات، بسبب انتقادهم العلني للرئيس قيس سعيد.
وقالت المنظمة، في بيان لها، اليوم الأربعاء إنه "خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة وحدها، حقق القضاء العسكري مع ما لا يقل عن عشرة مدنيين، أو حاكمهم، بشأن مجموعة من الجرائم. وسلّطت المنظمة الضوء على أربع حالات مثل فيها مدنيون أمام القضاء العسكري لمجرد انتقادهم الرئيس: وهي حالة المذيع التلفزيوني عامر عياد، وحالتا النائبين في البرلمان عبد اللطيف العلوي وياسين العياري، وحالة الناشط على "فيسبوك"، سليم الجبالي.
وقالت إنه "لا ينبغي أبداً محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية. ومع ذلك، في تونس، يبدو أن عدد المدنيين الذين يمثلون أمام نظام القضاء العسكري يتزايد بمعدل مقلق للغاية – ففي الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة".
#تونس | في الأشهر الثلاثة الماضية وحدها، فاق عدد المدنيين الذين مثلوا أمام المحاكم العسكرية عددهم في السنوات العشر السابقة مجتمعة.
— منظمة العفو الدولية (@AmnestyAR) November 10, 2021
ندعو السلطات التونسية إلى حماية حرية التعبير وعدم محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية.https://t.co/tatL7NWI2n
وقالت هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "العفو" الدولية، "بينما يناقش التونسيون المستقبل الغامض لبلدهم، من المهم أكثر من أي وقت مضى أن تحمي السلطات حقهم في القيام بذلك بحرية – حتى عندما يُعتبر ذلك “مهيناً” – دون خوف من الاضطهاد".