بعد ثلاثة أيام، يعلن مجلس العموم البريطاني اسم الفائز في السباق إلى "داونينغ ستريت" وزعامة حزب المحافظين. يحتاج وزير المالية المستقيل ريشي سوناك إلى معجزة، وفقاً لكل استطلاعات الرأي، حتى يتمكن من الفوز على منافسته الأوفر حظاً ليز تراس، مع أنه كان أكثر "كرماً" منها في خوض اللقاءات الصحافية والإجابة عن أسئلة الناخبين الصعبة.
وفي حين تهرّبت تراس من لقاءات عدة على قاعدة أن الإجابات المقنعة لن تضيف شيئاً إلى فرص فوزها المحسوم، فإنّ المزيد من الإجابات الخاطئة والمحدودة ستنتزع منها بعضاً من الدعم داخل صفوف الحزب. إلا أن ما أدلت به طيلة الأسابيع الماضية كان كفيلاً بإظهار رؤيتها ليس فقط في السياسة الداخلية، بل أيضاً الخارجية.
المأزق الأكبر الذي سيواجهه رئيس الحكومة المقبل، تراس على الأرجح، هو أن الملفات الخارجية شديدة الترابط اليوم مع الملفّات الداخلية والأزمة الاقتصادية. بداية بالغزو الروسي على أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، إلى الحاجة الماسة اليوم لتوحيد الصفوف وإنقاذ بريطانيا من عزلة فرضتها على نفسها، وصولاً إلى العلاقة المهمة مع دول الخليج والبحث عن موارد جديدة تجارياً واقتصادياً؛ حيث إن البريطانيين هم حالياً الأكثر معاناة بين مجموعة الدول السبع وبين دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة أزمة غلاء المعيشة ووصول التضخّم إلى مستويات قياسية.
إلا أن حكومة المحافظين اختارت أن تردّ على أسوأ أزمة تشهدها البلاد بخطاب الأيديولوجيا وليس البراغماتية. وتراس تحديداً اعتمدت خطاباً قومياً معادياً في العلاقة مع الجانب الأوروبي، ولن ينسى ربما حلفاء المملكة المتحدة جملتها الشهيرة: "لقد تعلّمنا من التاريخ أن هناك شيئاً واحداً يفهمه الاتحاد الأوروبي، القوة".
وكانت التوقّعات ترجّح في البداية أن تكون تراس أكثر قدرة من سوناك على إدارة العلاقة مع الخارج، كونها شغلت منصب وزيرة الخارجية وكانت في مقدّمة السياسة البريطانية إزاء الغزو الروسي على أوكرانيا والعقوبات غير المسبوقة على نظام فلاديمير بوتين، وقبلها "بريكست"، والاتفاق المرتبط بمغادرة الاتحاد الأوروبي؛ إلا أن الشهرين الماضيين كشفا عن جوانب جديدة في شخصيتها لا تبعث على الاطمئنان، إن كان في طريقة إدارتها للحوار، أو في طريقة "بيع" أفكارها وخططها في أحلك الأوقات اقتصادياً وسياسياً.
رسائل مبطّنة لتراس
وبغضّ النظر عن الأخطاء التي ارتكبها بوريس جونسون، وكان أول رئيس حكومة بريطاني يقترف هذا الكم من الأخطاء، إلا أنه كان على ما يبدو "ضابط الإيقاع" في الحكومة، إن كان في الملفات الداخلية أو الخارجية. وليس عبثاً أن يتحدث قبل يومين بفم ملآن عن علاقة صداقة قوية جمعته بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، علماً أن العلاقة بين الرجلين مرّت بأسوأ مراحلها خلال السنتين الأخيرتين. بينما رفضت تراس الإجابة عن سؤال المذيعة جوليا هارتلي عما إذا كان ماكرون صديقاً أو خصماً، مكتفية بالقول بطريقة لا تخلو من السخرية: "ليست لدي إجابة"، ثم بعد أن أخذت حاجتها من الصمت كما تفعل دائماً لتتيح للجمهور التصفيق لها، أضافت: "إن فزت في السباق إلى رئاسة الحكومة فسأحاكمه على أفعاله وليس أقواله".
هذا الردّ الخفيف والساخر أطلقته تراس تجاه رئيس فرنسا، أقرب حليف دفاعي وأمني للمملكة المتحدة، وكأنها لم تكتفِ بتراكمات السنوات الخمس الماضية، وبالمفاوضات السيئة حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وعبور المهاجرين وتراخيص الصيد، إضافة إلى بروتوكول أيرلندا الشمالية.
ولم يكن جونسون وحيداً في توجيه الرسائل المبطّنة لتراس، حيث شاركه في ذلك ماكرون من الجزائر، إذ ردّ على المرشّحة الأوفر حظاً لقيادة البلاد بالقول: "المملكة المتحدة دولة صديقة وحليفة قوية بغضّ النظر عن قادتها، وبالرغم من قادتها"، محذّراً من أن البلدين سيواجهان مشكلات خطيرة إن لم يتمكّنا من تحديد ما إذا كانا صديقين أم عدوّين. أي أن ماكرون لا تعنيه مسألة العداء الذي تكنّه تراس، بقدر ما يعنيه اعترافها بذلك وقدرتها على الحسم، خصوصاً أن القضاء يفصل بين البلدين في العديد من الملفات، لا سيما بروتوكول أيرلندا الشمالية، الذي تصرّ تراس على تمرير مشروع قانون يمنح الوزراء صلاحيات بحذف أجزاء مهمة منه، على الرغم ممّا يعنيه ذلك من انتهاك للقانون الدولي والتزامات المملكة.
ولا يمثّل التعاطي مع بروتوكول أيرلندا الشمالية تحدّياً في العلاقة مع الجانب الأوروبي فحسب، بل أيضاً في العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وفي حين لمّح دبلوماسي أميركي لـ"العربي الجديد" إلى أن لا تفضيلات لدى واشنطن بشأن هوية الفائز في هذا السباق وأنها معنية بشكل أساسي بملفات الغزو الروسي على أوكرانيا والعلاقة مع الصين وبروتوكول أيرلندا الشمالية، إلا أنه سبق لمسؤولين أميركيين أن اتهموا تراس باتخاذ "مواقف متطرّفة من دون التفكير في العواقب"، كما أوردت صحيفة "فايننشال تايمز" لا سيما بعد لقاء جمعها بنظيرها الأميركي أنتوني بلينكن قبل عام، وكان، وفقاً لأشخاص اطّلعوا على النقاش، بحسب الصحيفة، "بعيداً عن الدبلوماسية"، حيث شكّكت تراس بـ"العلاقة الخاصة" بين البلدين، مشدّدة على علاقات تجارية أفضل مع كندا واليابان والمكسيك.
تهوّر السياسات الخارجية
ومع أن بريطانيا والولايات المتحدة "قاتلتا" على جبهة واحدة في أوكرانيا، ونسّقتا عن كثب لرفع السرية عن المعلومات الاستخباراتية قبل الغزو وبعده، إلا أن تراس تبدو أكثر صدامية من "حلفائها" في انتظار موقف "أكثر تشدّداً" تجاه روسيا، بينما يرى الجانب الأميركي في صدامية تراس، "المتهورة" في الكثير من الأحيان وغير المدروسة، تضارباً مع بعض مصالحه. وليس إعلان رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي بعد مكالمة هاتفية مع تراس هذا الصيف عن "قلقها البالغ"، سوى البداية ربما في علاقات يسودها التوتّر ولا تساهم مواقف تراس المتصلّبة في التخفيف من حدّتها. "تصريحات بيلوسي لن تردعني عن المضي قدماً ولن أستسلم للضغوط"، هذا ما ردّت به وزيرة خارجية المملكة المتحدة وهذا القدر من "الدبلوماسية" هو كل ما تملك.
وفي العلاقة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، لا تبدو تراس أكثر براغماتية. فقد وعدت بإعلان الصين تهديداً للأمن القومي ورفعها إلى مكانة مماثلة لروسيا التي تُعرّف بأنها "تهديد خطير". حالياً تُعرّف الصين بأنها "منافس منهجي" وفقاً للمراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية التي نشرت العام الماضي. وعلى الرغم من اعتراف المراجعة بأن بريطانيا ستحتاج إلى حماية أمنها القومي من ممارسات الصين، إلا أنها نصّت على إبقاء الاقتصاد مفتوحاً أمام التجارة والاستثمار، لا سيما أن المملكة تستورد من الصين ضعف ما تصدّره من المواد الأساسية المستخدمة مثلاً في القطاع الصحي، كالمعدات الطبية والمضادات الحيوية وغيرها من الأدوية. وبغض النظر عن الاختلافات الجذرية والخلافات بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن اتهام تراس باتخاذ مواقف "غير مسؤولة" كان اتهاماً مشتركاً بين بكين وعواصم أخرى.