يبدو أن السياسات والخطابات الروسية، وخصوصا منذ غزو أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير/ شباط، سرّعت تقريب لحظة تاريخية فارقة في سياسات "دول الشمال" الدفاعية، بذهاب فنلندا والسويد نحو عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ويعتبر التغيّر في مواقف يسار الوسط في الدول الاسكندنافية (السويد والنرويج والدنمارك، بالإضافة إلى أيسلندا وفنلندا)، تأييدا للتوجه أكثر نحو العسكرة وعضوية الحلف الغربي، تحديدا في هلسنكي واستوكهولم.
فعلى مدار شهرين من النقاشات، تحملت دوائر يسار الوسط الاسكندنافي العبء الأكبر لتغيير مزاج السويديين والفنلنديين، وبقية دول الشمال، باعتبار التحالف الغربي حاميا لدولهم، وتغيير الخطاب من أن عضويته "تزيد من حدة الصراع" إلى مخففة لحدته.
وأفضت تلك النقاشات إلى نشوء ما يسميه المحللون "إعادة صياغة ما ترسخ في أعقاب الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية 1991".
وشهدت السويد وفنلندا، خلال الشهرين الماضيين، جرأة متزايدة على تحدي الخطاب الروسي التحذيري. ولا يمكن بالطبع إغفال الضمانات الغربية للبلدين للمضي قدما في العضوية. فمقابل التحذيرات الروسية، تصاعدت في هلسنكي نبرة استعادة تاريخ المواجهة بين الجانبين (حرب الشتاء 1939)، بل وقدرة البلد الصغير على حشد 850 ألف مقاتل.
وبالنسبة لاستوكهولم، المستنفرة عسكريا من بداية العام الحالي، فقد توافقت أحزابها الجمعة الماضي على اعتبار عضوية الأطلسي "ضمانا لأمن السويد"، وأنه سيصبح "جزءا من الأمن الجماعي للناتو"، كما أكدت وزيرة الخارجية، آن ليند. هذا إلى جانب طرح كل السيناريوهات والمزايا والسلبيات بشأن الخطوات الروسية التالية، بما فيها فرضية تعرض السويد لهجوم روسي.
خسائر روسية: فشل المراهنة على الانقسام
ونقاش دول الشمال التوافقي على "الناتو" يكشف عن تقهقر مراهنة روسيا على الانقسامات داخل ساحاتها السياسية. فلسنوات عملت الدوائر المحيطة بالكرملين على نسج علاقات بنخب اليمين القومي في الدول الاسكندنافية، كباقي الحالة الأوروبية، التي لم تستثن لا باريس ولا روما، ولا حتى ألمانيا.
وساهمت المتغيرات المتسارعة منذ بداية العام الحالي 2022 في محاصرة خطاب معسكر مهادنة موسكو.
وسرّع غزو أوكرانيا، واستدعاء الكرملين للتهديدات النووية، والعمل الأطلسي الدؤوب على دعم كييف عسكريا، في تسويق نظرية أن سياسات روسيا "تحمل سمات إمبريالية"، حتى بين بعض أطراف اليسار. فالناتج المباشر للمتغيرات تعكسه الاستطلاعات بارتفاع نسب تأييد عضوية فنلندا والسويد في الحلف، وبشكل لم يكن متاحا قبل تكثيف التسليط على سرديات موسكو المبررة للحرب.
ويمكن القول إن رئيستي وزراء السويد وفنلندا، ماغدالينا أندرسون (55 عاما) وسانا مارين (36 عاما)، لعبتا دورا في إرباك خطط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإنه يواجه طرازا جديدا من السياسيين في بلديهما، حيث استطاعتا قلب مزاج حتى جمهور "الاجتماعي الديمقراطي"، وبعرض صورة بوتين كـ"تسلطي ذكوري"، بما أتاح حتى إجراء مقاربات بين نمط ونظام الحكم الاسكندنافي والروسي.
متغير الجغرافيا السياسية
وبالطبع ليس خبرا سارا للكرملين عودة هذه الزاوية الهامة من الجوار الأوروبي إلى العسكرة. فتاريخ السويد الحربي مع الروس يبقى ماثلا في سردية بوتين القومية حيال خلق حالة توجس عام من الغرب. فالذهاب نحو "الأطلسي" يعني عمليا وضع حد لسياسة الحياد التي انتهجتها السويد بعد حروب نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر.
بل إنه، وبغض النظر من يحكم في الكرملين مستقبلا، يصعب العودة بالسويد وفنلندا إلى فترة حكم أولف بالمه ومارتي أهتيساري، اللذين اختارا في سبعينيات القرن الماضي انتهاج سياسة "إنسانية" و"وساطة دولية"، بسببها ترسخ مزاج عام يرفض الانحياز إلى الأحلاف في البلدين.
اليوم يجد بوتين نفسه أمام جغرافيا سياسية مختلفة تماما. وحنينه إلى "حلف وارسو"، بخلق تحالف من نوع ما مع دول سوفييتية سابقة، أغلبها في وسط آسيا، لا يبدو أنه سيسعفه في تغيير الوقائع المستجدة.
في حسابات الربح والخسارة تشير الوقائع المستجدة إلى أن سردية إبعاد شبح "الأطلسي" عن حدود روسيا تعاني اليوم أكثر مما كانت في ذروة سخونة الحرب الباردة.
وعلى ما يبدو أن فنلندا بحدودها الروسية الممتدة لنحو 1300 كيلومتر تتحول في الاستراتيجية الأطلسية إلى حائط صد دفاعي. واستوكهولم، التي كانت سابقا في مواجهة دول سوفييتية (البلطيق) ووارسو، تبدو مع عضويتها في الأطلسي كمن يسد آخر الثغرات الروسية في جيب كالينينغراد، وخصوصا مع تزايد حشود الناتو في المنطقة.
في المجمل، لا تبدو عضوية فنلندا والسويد في "الأطلسي" مجرد توسيع عضوية، حتى وإن حاولت موسكو مؤخرا الإيحاء بأن الأمر ليس ذا أهمية.