توسعت دائرة رفض مسودة الدستور المطروح للاستفتاء في الجزائر، على الصعيد السياسي خصوصاً، لتشمل عدداً كبيراً من الأحزاب والقوى السياسية والمدنية، بما فيها تلك التي وافقت على المسار الانتخابي في ديسمبر/كانون الأول الماضي. وانقسمت هذه القوى في طريقة التعبير عن رفضها للمسودة، بين تلك التي تدعو إلى المشاركة في الاستفتاء المقرر في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتصويت بصيغة "لا"، أي الرفض، وبين جهات تدعو إلى المقاطعة وعدم التوجه إلى مكاتب التصويت. وبين هذه الخيارات، تبحث السلطة من جهتها، عن كيفية دعم مشروعها والتعبئة الشعبية لصالحه. ومع إعلان حركة "مجتمع السلم"، كبرى الأحزاب الإسلامية في الجزائر، عن موقفها الرسمي الرافض لمسودة الدستور الجديد، ودعوتها الناخبين إلى التصويت بالرفض، تكون جبهة رفض المسودة قد تعززت بثقل سياسي وشعبي هام، وتكون السلطة قد خسرت في المقابل قوة وازنة عرفت بمواقفها المعتدلة. وكان واضحاً منذ فترة أن الحركة ستتجه إلى قرار الرفض، وذلك لسببين؛ يتعلق السبب الأول بالآلية التي تصفها الحركة بغير التوافقية التي تمّت بها صياغة الدستور. أما السبب الثاني، وهو الأساس، فيرتبط بمضمون الدستور المقترح، والذي تراه الحركة "انقلاباً على مطالب الحراك الشعبي"، بحسب وصف أحد قيادييها، ناصر الدين حمدادوش.
ترى بعض القوى ومكونات الحراك أن مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع، سيخدم السلطة
وإذا كان هذا الموقف يمثل أيضاً تكريساً للقطيعة السياسية المعلنة منذ عام 2012 بين الحركة الإسلامية والسلطة، بعد سنوات من مشاركتها المستمرة في الحكومة، فإنه يظهر أن حركة "مجتمع السلم"، اتخذت الموقف الأقل حدّة إزاء الاستفتاء، إذ تجنبت الدعوة إلى المقاطعة، واختارت التصويت بالرفض، على الرغم من أن هذا الخيار محل انتقاد من بعض القوى ومكونات الحراك التي ترى أن مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع، سيخدم السلطة. وبرأي هؤلاء، فإن السلطة ستكون قد حسمت نتيجة الاستفتاء، لكنها تبحث فقط عن صورة الناخبين والطوابير أمام مكاتب الاقتراع، لرفع نسبة المشاركة.
ويبرر رئيس مجلس شورى حركة "مجتمع السلم"، عبد القادر سماري، في بيانٍ أخير له، اختيار الحركة التصويت بالرفض من دون المقاطعة، بأنه مرتبط بجملة عوامل، أبرزها أن "الإدلاء بالصوت أداء حق وواجب، وهو يعبر عن الإصرار على النضال السلمي والحضاري المستمر، ولأننا لا نريد أن نتعود، أو يتعود شعبنا، على اللامبالاة والانسحاب في المواعيد الانتخابية، فهي السبيل الوحيد الذي نتمسك به لإحداث إصلاح وتغيير حقيقيين، وتمكين الشعب من سيادته". كما أن من جملة العوامل التي دفعت إلى القرار، برأيه، هو "ألا تتحقق أمنية بعض الأطراف التي تسعى إلى تزهيد الناس في الفعل الانتخابي، وتدفعهم إلى اليأس والانسحاب والاستقالة من الحياة السياسية ليخلو لها الجو"، مضيفاً أن الحركة "كانت متهيأة للتصويت بنعم على الدستور لو كانت هذه المسودة تعبر حقاً عن طموحات الشعب، وطالبنا بأن يحتوي الدستور على مادة تنص على أن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي من مصادر التشريع". ومن الأسباب أيضاً، رأى سماري أن "طبيعة النظام لا تزال غامضة بين الرئاسي وشبه الرئاسي أو شبه البرلماني، ولكون المؤسسات الرقابية كالمحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للقضاء ومجلس المحاسبة، لا تزال غير كاملة الاستقلالية وتخضع للتعيينات، كذلك السلطة الوطنية للانتخابات التي لا تزال منقوصة الاستقلالية".
بهذا الموقف، تنضم حركة "مجتمع السلم" إلى كتلة مؤلفة من قوى سياسية أخرى، كانت حسمت موقفها برفض مسودة الدستور، وقررت التصويت ضدّها بصيغة الرفض منذ فترة طويلة، بما فيها قوى سياسية ومدنية كانت شاركت ودعمت مسار الانتخابات الرئاسية في 12 ديسمبر 2019. أحزاب "السيادة الشعبية" وحركة "عزم" و"حركة المجتمع الديمقراطي"، وإن كانت غير معتمدة حتى الآن، إلا أنها تحظى بحضور في الشارع، وأعلنت دعوتها للتصويت بالرفض على الدستور. وقال عضو قيادة "عزم"، توفيق هيشور، في تقدير موقف، إن "الدستور المعروض للاستفتاء لا يعبر عن إرادة حقيقية للبناء والتغيير، وكذا تلك الموجودة في صلب النصوص الدستورية، والتي تعبر عن ردة فكرية حقيقية عن ثوابت ومقومات المجتمع الجزائري، ما يجعل رفض هذه المهزلة (الدستور) واجباً وطنياً وأخلاقياً لا يحتمل التأويل وأنصاف المواقف". وينتظر أن تعلن بعض الأحزاب والقوى الأخرى المنضوية تحت ما يعرف بـ"مبادرة قوى الإصلاح"، عن مواقف رافضة للدستور خلال اجتماعها المقبل، ما عدا حركة "البناء الوطني" (إسلامي) و"جبهة المستقبل" (قومي)، اللتين تدعمان المسودة.
كتلة "البديل الديمقراطي"، التي تضم مجموعة أحزاب تقدمية، كانت السبّاقة ليس إلى رفض المسودة فقط، لكنها رفضت قبل ذلك حتى المشاركة في المشاورات غير الحضورية المتعلقة بالدستور، وتقديم أي مقترحات أو وثائق تخصها. وتضم الكتلة "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" وحزب "العمال" اليساري و"جبهة القوى الاشتراكية" وحزب "العمال" الاشتراكي و"الحركة الديمقراطية الاجتماعية" و"رابطة حقوق الإنسان"، وتدعو الكتلة في المقابل الجزائريين إلى مقاطعة الاستفتاء، وترفض كامل المسار المفضي إلى صياغة الدستور المقترح. وذهب رئيس "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، محسن بلعباس، في الاجتماع الأخير للمجلس الوطني للحزب، يوم السبت الماضي، إلى وصف الاستفتاء على الدستور بالاستفزاز. وقال بلعباس إن "استدعاء الهيئة الناخبة لتزكية مشروع تعديل دستوري، من إعداد إدارة مسؤولة عن الكارثة التي حلّت بالبلد، هو استفزاز بكل المقاييس. ولأن العملية بُرمجت للفاتح نوفمبر (ذكرى ثورة التحرير الجزائرية)، وهي ذكرى عزيزة على الجزائريين، هو استفزاز مزدوج". ويذهب موقف "جبهة العدالة والتنمية" (إسلامي) بقيادة الشيخ عبد الله جاب الله، إلى مقاطعة الاستفتاء ودعوة الجزائريين إلى عدم التصويت، بعدما كانت الجبهة قد قاطعت مشاورات تعديل الدستور، وكذا جلسة التصويت على المسودة في البرلمان.
إزاء هذه المواقف التي ستُضعف الاستفتاء نسبياً، سواء على مستوى نسب التصويت ونسبة الموافقين عليه، ومقابل ضعف أحزاب الموالاة المعروفة ("جبهة التحرير الوطني" و"التجمع الوطني الديمقراطي" وتنظيمات أخرى لم يعد لها أي حضور شعبي)، عمدت السلطة منذ فترة إلى إعادة هيكلة قوى مجتمع مدني موالية تساعدها على تمرير مشروعها وتمثل حاضنة له. وكانت لهذا الغرض أقرّت تدابير لتسهيل اعتماد الجمعيات في ظرف زمني قصير، وأعلن مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالمجتمع المدني، نزيه برمضان، عن اعتماد 6 آلاف جمعية في غضون شهرين، وهو عدد يفوق مجموع ما تمّ اعتماده من جمعيات خلال عام كامل، بالمقارنة مع السنوات الماضية. وتعمد السلطات إلى انتقاء اعتماد الجمعيات التي تظهر مواقف ناشطيها على أنهم من الموالاة.
عمدت السلطة منذ فترة إلى إعادة هيكلة قوى مجتمع مدني موالية تساعدها على تمرير مشروعها وتمثل حاضنة له
عدا ذلك، يبقى أمر آخر يشكل قلقاً بالنسبة للجزائريين، وهو أن تعمد السلطة إلى التلاعب بنتائج الاستفتاء لصالحها، وباستغلال فارق مليوني صوت من الأسلاك النظامية (الجيش والدرك والشرطة)، على الرغم مما في الأمر من صعوبة، بسبب وجود هيئة مستقلة تنظم الانتخابات من جهة، والمراقبة الشعبية التي قد تعيق ذلك أيضاً.
برأي الكثير من المحللين والمتابعين لتطورات الشأن السياسي في الجزائر، فان هذه هي المرة الأولى منذ انتخابات الرئاسة في عام 1995، التي تجد فيها السلطة نفسها في حالة حصار سياسي يضيق عليها المنافذ إزاء مشروع سياسي، وإزاء مستويين من الإقناع المطلوب منها، إقناع الجزائريين بجدوى الذهاب إلى التصويت من جهة، والتصويت لصالح مسودة الدستور ثانياً. ولم يعلن حتى الآن ما إذا كان الرئيس عبد المجيد تبون سيقوم بحملة شعبية لصالح الدعوة إلى المسودة، خصوصاً في ظلّ ظروف الأزمة الوبائية. في هذه الأثناء، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في الجزائر، أن الحملة الانتخابية للدعوة لاستفتاء تعديل الدستور، ستبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، من دون تنظيم تجمعات شعبية بسبب أزمة وباء كورونا.
ورأى المحلل السياسي كمال حجام، أن السلطة وضعت نفسها في مأزق كبير، بسبب خيارها صياغة دستور غير توافقي والسعي لفرضه. وأعرب حجام، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأن السلطة أخطأت قراءة المتغيرات السياسية والشعبية التي أفرزها الدستور، لأنها لا تزال تراهن على قدرتها على تمرير الدستور بالقوة السياسية التي تملكها، أو بخيارات أخرى بما فيها التزوير. وبرأيه، فإن هذه الأمور أو الممارسات، تحمل مخاطر حقيقية، لأن متغير الحراك لا يزال قائماً وقادراً على العودة إلى الشارع، إذ أن أفعالاً للسلطة من هذا القبيل كانت السبب في اندلاع الحراك قبل عام ونصف العام. واعتبر أن "الخروج من هذا المأزق صعب في الوقت الحالي بالنسبة للسلطة، والرئيس تبون هو الخاسر الأكبر، لأنه خسر كتلة هامة من القوى التي كانت تدعم المسار الدستوري منذ ديسمبر الماضي، وتحولت لتضع نفسها في نفس موقف الرافضين، بدلاً من تعزيز جبهته".