ليست المرأة التونسية غريبة عن ساحات النضال، خصوصاً بعدما جاءت الثورة التي انطلقت في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، لتضع المرأة في الصفوف الأولى للاحتجاجات السياسية والاجتماعية، حتى أن عدد النساء فاق أحياناً عدد الرجال في الاحتجاجات، لتواجه بشجاعة لافتة عنف الشرطة أحياناً.
ونجحت المرأة كما باقي التونسيين بعد الثورة في افتكاك حقوق عديدة افتقدوها لسنوات، في مقدمتها الحرية وممارسة الديمقراطية، غير أن الانقلاب الذي بدأه الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز الماضي جاء ليهدد التونسيين في حريتهم، بعدما شعروا، وفي مقدمتهم النساء، بأن البلاد متجهة إلى الاستبداد والحكم الفردي. ووجدت المرأة نفسها أمام تحدٍ جديد، وأمام واجب استكمال النضال.
وهذا ليس غريباً ولا جديداً في تونس، فالنساء سليلات أجيال من المناضلات عبر الزمن، ليس آخرهن المدونة الراحلة لينا بن مهني، أو القيادية البارزة في الحزب الجمهوري مية الجريبي، وهن يمثلن استمراراً لنضال نزيهة رجيبة وراضية النصراوي وغيرهما.
وربما لاحظ المتابعون لاحتجاجات قصر العدالة التي خاضها القضاة التونسيون دفاعاً عن استقلاليتهم، شجاعة القاضية روضة قرافي، التي كانت في الصف الأول، وحملت قضيتها السامية على كتفيها منذ سنوات طويلة، والمتمثلة بقضاء مستقل، وواجهت في ذلك السلطة قبل الثورة وبعدها، ما جعلها تتلقى تهديدات في الفترة الأخيرة.
ولكنها ردت على ذلك بتدوينة على صفحتها في "فيسبوك" قائلة: "في لحظات الأزمات الكبرى والمحن، أنت أمام خيارين، إما أن تلوذ بالصمت، أو أن تتكلم بما يقتضيه الواجب وما تحتمه المسؤولية، بما هو مفيد وصالح للفهم والتبصر لمن يستمعون إليك أو يشاهدونك. ليس الخيار سهلاً ولا ميسوراً لأن الكلام في هذه الأوقات الصعبة له كلفة باهظة دفعناها سابقاً وما زلنا ندفعها".
كما أكدت قرافي، في تصريح سابق لـ"العربي الجديد"، أن الضغط على القضاء يأتي في إطار "حملة لتهيئة الرأي العام للاستيلاء على مؤسسة المجلس الأعلى للقضاء والعودة من جديد إلى تنظيم ملف القضاء من قِبل السلطة التنفيذية".
وبيّنت أن هذا "يعني أن يصبح المجلس والقضاء جهازاً تابعاً للسلطة التنفيذية، وهي خطوة في الاتجاه الخاطئ، وضرب لدولة القانون، وللفصل بين السلطات"، مؤكدة أن هذا أيضاً "ضرب لحقوق التونسيين وحرياتهم، فالقاضي عندما لا يكون محمياً بمجلس، والسلطة السياسية هي التي تتحكم بمصيره، لن يكون قوياً في حماية الحقوق والحريات".
ولكن قرافي ليست وحدها في الدفاع عن الديمقراطية وعن استقلال القضاء، وإنما هي مسنودة بمناضلات شرسات في التعبير عن كلمة الحق.
سميرة الشواشي
يذكر التونسيون كيف وقفت نائبة رئيس البرلمان سميرة الشواشي، ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، أمام البرلمان تطالب بعدم إغلاقه، واستمر صوتها عالياً في مقاومة الانقلاب، وهو صوت يحترمه مساندوها ومعارضوها على السواء بسبب هدوئها ورصانتها الدائمة.
تقول الشواشي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن هناك أسباباً عميقة لوجود المرأة التونسية في الصفوف الأمامية، مضيفة "تاريخنا ارتبط بأسماء نساء كنّ علامات بارزة وفارقة في تونس، وحتى الأسطورة تؤكد دور المرأة منذ العهد الفينيقي".
وتلفت إلى أن "وجود المرأة ودورها اليوم نتيجة تراكمات منذ بداية القرن العشرين، فكانت هناك إرادة لتعليم الفتيات، وكان ذلك عاملاً مهماً أنتج تراكماً مع الدولة الوطنية في الخمسينيات وتعمق مع الاستقلال، وأفرز امرأة تونسية متميزة في كل الميادين، في الطب والتعليم، وحتى في الفلاحة والحرف".
لكنها تشير إلى أن "المجال العام بقي تقريباً تحت سيطرة العقلية الذكورية، ولكن في الثورة حصل نوع من الانفجار، وصارت المرأة تخرج وتفتك هذا الحق، وبحكم تركيبتها وتمسكها بالحياة وبكل ما هو قيم في الحياة تعتبرها جوهرية ستدافع عنها، وهو ما حدث عندما حصل الانقلاب" الأخير.
الشواشي: الانقلاب هدد المرأة في حريتها، لأن الثورة حررت المرأة بصفة كبيرة
وتلفت الشواشي إلى أن "الانقلاب هدد المرأة في حريتها، لأن الثورة حررت المرأة بصفة كبيرة، وكانت خيمة الديمقراطية متنفساً لها، ولكنها تشعر أن الانقلاب سيفتك منها هذا المكسب، ولو فُقِد هذا الفضاء سيفقده أيضاً أبناؤها وبناتها وعائلتها، والمعركة أصبحت معركة وجود للمرأة وللمجتمع".
وتشدد على أن "المرأة لن تفوّض أي جهة وستنزل بنفسها إلى المعركة عندما تتعلق المسألة بالكيان والوجود"، مؤكدة أن "هناك ضريبة تُدفع لأن العمل والنضال في الإطار العام له كلفة، والانقلاب وحّد النساء والرجال لأن الخطر يهدد الجميع، وهناك هبّة مجتمعية"، مضيفة "ما حصل جعلنا نراجع العديد من الأشياء، وما اعتبرناه مكتسبات في الماضي تبين أنه مهدد بأي عمل ارتدادي".
إسلام حمزة
عضو "محامون لحماية الحقوق والحريات" إسلام حمزة، وجه تعرفه كل المحاكم في تونس دفاعاً عن حرية الرأي والديمقراطية. عندما تنتهي التظاهرات في الشوارع مساء، تبدأ رحلة إسلام حمزة وزملائها في أقسام الشرطة بحثا عن المعتقلين.
تقول حمزة لـ"العربي الجديد"، إن "حضور الوجوه النسائية في التحركات الأخيرة كان استثنائياً، ونحن اعتدنا في مختلف الأزمات أن تكون المرأة في الغالب ضحية سجن زوجها وأولادها، ونادراً ما تتصدر الصفوف الأمامية في المقاومة، ولكن الملاحظ بعد انقلاب 25 يوليو أن حضورها صار واضحاً وبارزاً".
وتشير إلى أن "هناك وجوهاً جديدة عدة لم تكن معروفة في الماضي وبعضها جعل التونسي يستعيد الثقة قليلاً، لأن الإشكال في الوجوه القديمة والذكورية هو غياب الثقة"، لافتة إلى أن "وجود المرأة في الدفاع عن الحقوق والحريات أضفى على المقاومة مصداقية أكثر، وما يزيد في تدعيم ذلك أن مقاومة المرأة غالباً تكون صادقة وحقيقية".
وترى حمزة أن "التهديدات اليوم صارت أكبر، على الرغم من أن الأوضاع لم تكن وردية طيلة السنوات العشر الماضية وكانت هناك انتهاكات، إلا أن الخطير في الانقلابات هو تفكك المؤسسات، وهو ما حصل بالفعل في تونس"، مشيرة إلى أن "المؤسسة الأصلية، أي البرلمان، لم تعد موجودة، ولم تعد هناك هيئة مكافحة الفساد ولا هيئة مراقبة دستورية القوانين، وكذلك ضُرب المجلس الأعلى للقضاء، والاستهداف شمل حتى هيئة الانتخابات وغيرها من المؤسسات، وبالتالي هناك تدمير ممنهج للمؤسسات التي تلعب دور الضامن للحقوق والحريات".
حمزة: الوضع الحالي جعل النساء أكثر استعداداً للدفاع، لأن الحكم الفردي يؤدي للاستبداد
وتلاحظ حمزة أن "الوضع الحالي جعل النساء أكثر استعداداً للدفاع، لأن الحكم الفردي يؤدي بالضرورة للاستبداد، والاستبداد يؤدي لانتهاك الحقوق والحريات"، مشيرة إلى أن "الانقلاب مارس منذ البداية انتهاكات لا تحصى ولا تعد، من انتهاك حرية التعبير، إلى التنقل، والرأي، والسفر، والحق في محاكمة عادلة".
فائزة بوهلال
النائبة عن حركة "النهضة" فائزة بوهلال، لم تكن بارزة للرأي العام في تونس إلى أن قررت أن تغامر بحياتها على مدى أكثر من عشرين يوماً في إضراب عن الطعام، احتجاجاً على الانقلاب ودفاعاً عن الديمقراطية.
تقول بوهلال لـ"العربي الجديد"، إن "حضور المرأة في الصف الأول دفاعاً عن الديمقراطية والدستور مفهوم، لأنها تقريباً شاركت عبر التاريخ في أغلب معارك التحرر ومقاومة الاستعمار وفي الثورات، وتحمّلت المسؤوليات مع زوجها"، مضيفة "في عهدي (الحبيب) بورقيبة و(زين العابدين) بن علي كانت في الصف الأول في خوض المعارك، لأنها متشبّعة بالحرية بحكم ثقافتها ومشاركتها في النضال الوطني"، وتشير إلى أن "المرأة التونسية مسيّسة، وبالتالي من الطبيعي أن تكون في الصف الأول للنضال".
بوهلال: المرأة شاركت عبر التاريخ في أغلب معارك التحرر ومقاومة الاستعمار وفي الثورات
وعن قرارها الدخول في إضراب عن الطعام ضمن مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، تقول إن سبب ذلك "التضييقات الكبيرة على الحريات، وأنا مواطنة تونسية ونائبة سُلب منها حق العمل والصحة والراتب، ولم تتمكن من تغيير بطاقة الهوية والحصول على جواز سفر، وبالتالي حق المواطنة والتمتع بأبسط الحقوق حرمت منه، إلى جانب تضييقات وزارة الداخلية في فضّ الاعتصام في 17 ديسمبر، إضافة إلى قرارات سعيّد المتواترة، فيشعر المرء أن الكيان الذي دافع عنه مهدد".
وتشدد على أنه "من دون حرية لا يمكن أن يكون هناك عيش كريم"، مضيفة أنها شعرت بأن حريتها مهددة ووجودها أيضاً، فكيف لا يدفعها كل ذلك للدخول في إضراب جوع؟
وتتابع: "هناك دائماً ضريبة تُدفع من الجسد ومن العائلة، فالابتعاد شهراً كاملاً ليس بالأمر الهين، ولكنه لا يقارن بالأشخاص الذين ضحوا بحياتهم ودمائهم من أجل الحرية وماتوا تحت التعذيب قبل الثورة"، مؤكدة أنها حين أخبرت زوجها بقرارها الدخول في إضراب عن الطعام ساندها لأنها مبادئ وقناعات.
شيماء عيسى
الشاعرة والباحثة التونسية شيماء عيسى، هي عضو الهيئة التنفيذية لمبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، وشكّلت صوتاً لا يفتر في مواجهة الانقلاب، مبدية شجاعة استثنائية وتفانياً في كل الاحتجاجات وفي كل مكان.
عيسى: النساء دفعن ثمناً باهظاً زمن الاستبداد
تقول عيسى لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يمكن الحديث عن قضايا النساء وحقوقهن إلا في فضاء الديمقراطية، ومكتسبات المرأة الجديدة من الحقوق والمساواة والحريات الفردية لا يمكن الحديث عنها في ظل نظام سلطوي، لأن النظام الدكتاتوري نظام قمعي أساساً، ولغة الحوار فيه تحل محلها لغة البوليس والقمع".
وتؤكد عيسى أن حضور النساء في التحركات الاحتجاجية الأخيرة كان ملفتاً، ولكن دفاعها عن الديمقراطية ليس جديداً، إذ كانت موجودة في كل المعارك.
وتشير إلى أن "النساء دفعن ثمناً باهظاً زمن الاستبداد، وعندما كان الرجال في السجن كانت المرأة هي المعيل للأسرة، تتحرك وتسعى لاسترجاع حق زوجها وشقيقها السجين، وما حصل هو احتكاك النساء بالمواضيع الحقوقية"، مضيفة "لا ننسى أنه كان هناك حوالي 30 ألف سجين سياسي في عهد المخلوع (بن علي)، وبالتالي قد تتعامل المرأة مع الموضوع كضحية ولكن التجربة حولتها إلى مطالبة بالحقوق".
وتشير عيسى إلى أن "وجود المرأة في البرلمان دفع نحو تمرير قانون العنف ضدها، ولو لم تكن هناك إرادة نسوية لما تحققت العديد من المكاسب، ولكن ما يؤلم اليوم هو وجود رئيسة وزراء هي نجلاء بودن ووزيرات في الحكومة بشكل صوري، وكان للأسف في إطار التسويق المضلل"، متابعة "نحن نرفض ذلك لأننا مع تمكين حقيقي وأدوار حقيقية للمرأة".
وتقول عيسى إن "النضال في الشارع لا يعني بالضرورة خسارة العائلة، على الرغم من أن هناك ضريبة، ولكننا في منعرج خطير، وما يجري ليس مجرد مقاومة للاستبداد، بل هي عملية اختطاف وإعادة توجيه لصبغة الدولة"، مؤكدة أن "بن علي كان عدواً واضحاً، ولكن اليوم وفي غفلة منا، تعطل الدستور وأغلق البرلمان".