هل كان انسحاب "الجبهة الشعبية" هو المحدد في مشاركة حركة "النهضة" في الحكومة التونسية المقبلة من عدمه؟ سؤال تطرحه الساحة السياسية التونسية عامة، لكنه يُطرح بشكل أكثر حدّة داخل صفوف اليسار التونسي، وكذلك داخل حزب "نداء تونس" المُطالَب دستورياً بتشكيل الحكومة التي يُنتظر الإعلان عن نسختها الثانية من قبل الرئيس المكلف الحبيب الصيد يوم الاثنين.
وأعلنت "الجبهة الشعبية" أنها لن تشارك في الحكومة المقبلة، وهو موقف ليس بالجديد، فقد سبق لـ"العربي الجديد" أن أعلنت عنه منذ شهر تقريباً اعتماداً على مصادر في الجبهة.
لكن منح الثقة للحكومة المقبلة على الرغم من عدم المشاركة هو الموضوع الذي ما يزال يثير جدلاً داخل الجبهة، وفقاً لمصادر "العربي الجديد"، إذ تشترط الجبهة مقابل منح الثقة للحكومة عدم إشراك وجوه من النظام القديم، وبالتالي إقصاء حزب "المبادرة" الذي أعلن أمينه العام كمال مرجان أنه سيشارك في حكومة الصيد، وكذلك عدم إشراك وجوه ممّن سمتهم رموز الفشل في عهد الترويكا، ما يعني إقصاء حركة "النهضة"، التي أعلن رئيسها راشد الغنوشي أنها أقرب للمشاركة بالحكومة، وبالتالي فإن الجبهة لن تمنح ثقتها للحكومة منطقياً على الرغم من مشاركتها في المشاورات.
هذا الموقف اعتبره العديد من الوجوه السياسية عملية دفع قسري للصيد و"نداء تونس" لإشراك حركة "النهضة" في الحكومة، من خلال منح حقائب وزارية لوجوه قريبة منها أو من الصف الثاني من قياداتها، وهو ما رأوا فيه تمهيداً من الجبهة لعودة "النهضة" إلى الحكم وهي تُعتبر من أبرز خصومها السياسيين.
ورأى اليساري ماهر حنين في هذا الموقف ضرباً لما يسميه "العائلة الحداثية" وتفكيكاً لها وتعبيداً لطريق العودة القوية لحركة "النهضة"، مشيراً إلى أن "كل العائلة الحداثية رفعت شعار الوحدة مباشرة بعد نتائج 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2011 أي بعد هزيمتها الانتخابية، وعلى الرغم من التعثر والتردد والعوائق بلغنا أشواطاً متقدمة في التقارب والوحدة، واليوم بعد الانتصار الانتخابي تبدو العائلة متباعدة متنافرة غير قادرة على التوحّد لإدارة شؤون الدولة"، معتبراً أن "من حق من تظاهر واعتصم ضد الترويكا أن يفهم سبب ذلك، ومن حق الناخبين أن يفهموا".
موقف "الجبهة الشعبية" اعتبره الكثيرون عدم وعي بطبيعة المرحلة التي تعيشها تونس والتي لا تستدعي رومانسية النضال اليساري بل تستدعي براغماتية تُحسن التعامل مع المتغيرات السياسية المحلية والإقليمية والدولية. لكن هناك أصواتاً من "الجبهة"، ومنها القيادي البارز فيها والنائب عنها الجيلاتي الهمامي يرى أن "النداء والنهضة سيتحالفان مهما كان موقف الجبهة"، معتبراً أن "تقديم حكومة الصيد في نسختها الأولى بتلك الصورة ما هو إلا تمهيد لتحالف منتظر بين الحزبين تحت مسمى سياسة الأمر الواقع".
هذا الموقف للهمامي يرفضه الكثير من نواب "نداء تونس"، فالنائب مصطفى بن أحمد يقول لـ"العربي الجديد" إن "مشاركة النهضة في الحكومة المقبلة قد تكون من إكراهات السياسة بعد تخلّي من يُسمّون أنفسهم قوى الحداثة عن المشاركة في الحكومة ورفض دعمها".
كلام بن أحمد يتقاطع مع موقف النائب عن "نداء تونس" في البرلمان منجي الحرباوي، الذي يقول لـ"العربي الجديد": "منذ البداية قلنا إننا لن نحكم لوحدنا وهو ما أكده رئيس الحزب آنذاك ورئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في أكثر من مناسبة، آخرها يوم 31 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي في حوار تلفزيوني على قناة نسمة تي في".
ويضيف "قلنا لا يمكن إقصاء النهضة القوة السياسية الثانية في البرلمان بـ69 مقعداً، وأكدنا أن وضع تونس اليوم صعب جداً ويحتاج إلى تضافر كل الجهود للخروج من هذا الوضع من دون استثناء، كما قلنا إن الشعب لم يعطنا أغلبية للحكم بل أعطانا المرتبة الأولى في البرلمان 86 مقعداً، وفي تجربة أولى قدمنا حكومة استباقية من الكفاءات وبعض الحزبيين لكنها رُفضت لأنها لم تكن حكومة ائتلاف وطني موسعة يشارك فيها الجميع لإنقاذ باقي المسار الانتقالي والديمقراطي، فماذا ينتظر منا الآخرون لنفعله وهم قد تخلوا عن دورهم".
في المقابل، يرى البعض من نواب "نداء تونس"، ومن أبرزهم المنذر بلحاج علي، أنه "حتى وإن لم تشارك الجبهة الشعبية في الحكومة فليس هناك من داعٍ لمشاركة النهضة، وتكفي أغلبية بسيطة لنيل الحكومة المقبلة ثقة البرلمان"، بل يذهب إلى حدّ اعتبار مشاركة "النهضة" في الحكومة "خيانة لمن انتخبهم".
هذه المعطيات تُرشّح دخول "الجبهة الشعبية" وحزب "نداء تونس" في نفق من الخلافات الداخلية، وتمنح حركة "النهضة" في كل الأحوال وضعاً مريحاً سواء أكانت مشاركة في الحكم أو معارضة له، على الرغم من أن "النهضة" هي الأخرى تشهد حراكاً داخلياً ترجمته الخلافات التي عرفتها لكن منتسبيها يبدون أكثر تحفظاً في إعلان خلافاتهم للرأي العام على عكس منافسيهم السياسيين.