تونس بعد 9 سنوات من دستور 2014: من التشارك للفردية

27 يناير 2023
أجرى سعيّد استفتاء الدستور في 25 يوليو الماضي (ياسين القايدي/الأناضول)
+ الخط -

قبل 9 سنوات من اليوم، وتحديداً في 27 يناير/كانون الثاني 2014، كانت تونس تشهد يوماً تاريخياً بمناسبة حفل التوقيع على دستور الثورة، الذي كان ثمرة نقاشات تواصلت على مدى أكثر من سنتين. حينها صوّت عليه بالموافقة 200 نائب من أصل 216 نائباً شاركوا في عملية الاقتراع، في حين صوّت ضده 12 نائباً وامتنع 4 عن التصويت (المجلس كان يتكون من 217 نائباً، ولكن النائب محمد البراهمي كان قد اغتيل في 25 يوليو/تموز 2013).

يومها، قال الأمين العام للأمم المتحدة، حينها، بان كي مون، إن "العملية الانتقالية الديمقراطية في تونس اجتازت مرحلة تاريخية جديدة بالمصادقة على دستور جديد". وأوضح المتحدث باسمه، مارتن نيسركي، أن الأمين العام "مقتنع بأن المثال التونسي قد يكون نموذجاً للشعوب الأخرى التي تتطلع إلى إجراء إصلاحات". وأكد أن بان كي مون "يشجع الأطراف السياسية في تونس على أن تتم المراحل المقبلة للعملية الانتقالية بشكل سلمي وشفاف وشامل".

لكن هذا الدستور لم يستمر كثيراً، إذ جاء انقلاب الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو 2021، ليعلّق غالبية أبواب هذا الدستور، قبل أن يجري استفتاء على دستور جديد في 25 يوليو الماضي، وضعه بمفرده وأقرّه (صادق عليه في 27 أغسطس/آب الماضي) على الرغم من المقاطعة الكبيرة من التونسيين، إذ لم تتخط نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور الجديد الـ27.54 في المائة.

تمّ تنظيم حوار وطني حول دستور 2014 في كل المناطق

ويتساءل مراقبون اليوم، كيف مرّت تونس من ذلك الدستور المفتوح الذي شاركت فيه كل فئات الشعب التونسي، إلى دستور كتبه شخص واحد بمفرده؟ كما يُطرح سؤال جوهري، حول سكوت كل الفئات من التونسيين الذين شاركوا في وضع الدستور 2014، ولماذا لم ينتصروا لدستورهم ويدافعوا عن ثمرة جهدهم، وهل دستور 2014، لا يزال حياً؟

تونس وعملية وضع دستور 2014

قبل وضع دستور 2014، قضى نواب المجلس الوطني التأسيسي في تونس أشهراً طويلة من النقاشات والأعمال التحضيرية داخل البرلمان وخارجه لصياغته، وعقدت 295 جلسة عامة للنظر في الدستور، و441 جلسة للجان التأسيسية، و49 جلسة للجنة التوافقات حول مشروع الدستور، بحسب ما كشفه رئيس المجلس التأسيسي، مصطفى بن جعفر، في تصريح حينها.

كان بن جعفر أحد الموقّعين على الدستور، إلى جانب رئيس الحكومة وقتها، علي العريض، الذي يقبع في السجن حالياً منذ 40 يوماً (بملف التسفير إلى بؤر القتال) والرئيس الأسبق منصف المرزوقي، الموجود خارج تونس، والمحكوم عليه أيضاً بأربع سنوات سجناً من سلطة قيس سعيّد.

وشرح المقرر العام لدستور 2014، الحبيب خضر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الشعب عندما انتخب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 كان يكتب لحظة فارقة في تاريخ البلاد، خصوصاً من ناحية الإقبال غير المسبوق على تلك الانتخابات، بما انعكس بمنح شرعية واسعة جداً وقوية للمجلس التأسيسي في مهمته الرئيسية وهي صياغة الدستور". وأضاف: "المجلس التأسيسي، وعلى الرغم من تمتعه بكل تلك الشرعية، اختار أن تكون كتابة الدستور عملية تشاركية".

وأوضح خضر أن "ذلك تجلّى من خلال العديد من الآليات، مثل الاستماع إلى الكفاءات وأهل الخبرة سواء من جامعيين من اختصاصات عديدة ونشطاء المجتمع المدني والمنتظم السياسي، وفتح المجال للمشاركة عن بُعد عن طريق استقبال مقترحات خارجية، كما تنقّل نواب المجلس إلى المناطق، ونظموا يومين مفتوحين للجمعيات لإبداء ملاحظاتهم حول مضامين الدستور". ولفت إلى أن المجلس، "وكلّما كان يتقدّم في صياغة النص الدستوري، يقوم بنشره للعموم لمناقشته والاستفادة من آراء الملاحظين".

وتابع خضر أنه "تمّ تنظيم حوار وطني حول الدستور في كل المناطق، وتم عقد لقاء تشاوري حواري مفتوح لكل من رغب في المشاركة من مختلف المحافظات، وكذلك تم تنظيم حوار مع الطلبة، وعُقدت جلسات حوارية مع التونسيين في الخارج وخصوصاً التي تعرف تمركزاً كبيراً للتونسيين المقيمين فيها، مثل فرنسا وإيطاليا، وتحدثنا حتى مع تونسيين من كندا".

وبيّن أنه "تم فتح المجال أمام كل المنظمات الوطنية، كاتحاد الشغل ومنظمة رجال الأعمال والفلاحين والمحامين، كلهم كانوا حاضرين في المجلس وشاركوا في اللجان وقدموا مقترحات وملاحظات، والعديد من الجمعيات والقطاعات، وتمّ وضع نافذة على الإنترنت لتلقي الملاحظات عن بُعد وتم توثيق كل الملاحظات وعرضها في تقارير على اللجان التأسيسية".

وأشار خضر إلى أنه "كان عملاً كثيفاً ومكثفاً وشاقاً، وقد بلغ ثماره عندما عُرض على التصويت وحظي بالثقة وبما يقارب الإجماع". وبيّن أن "أول عملية تأسيسية كانت في فبراير/شباط 2012 والمصادقة كانت في 26 يناير 2014 وحفل التوقيع في 27 يناير، وفترة توقف دامت 4 أشهر، وفي المحصلة، فقد استغرقت كامل العملية أكثر من سنتين وأنتجت نصّاً توافقياً".

ويُطرح سؤال جوهري اليوم، حول سبب سكوت كل هذه الفئات على الدستور الذي وضعه سعيّد؟

وحول ذلك، رأى خضر أن "دستور الثورة ما زال حيّاً، وآليات الدفاع عنه طرحت في الحقيقة إشكالاً، إذ لم يكن الخيار في البداية التخلي عنه، بل كان مُطمئِناً (يقصد سعيّد) في 26 يوليو 2021 (بعد يوم من إجراءات سعيّد الاستثنائية) بأنه سيتم احترام الدستور". وأضاف خضر أن "المشاركة الضعيفة في الاستفتاء على الدستور الجديد والاستشارة الإلكترونية، وكذلك المشاركة الضعيفة جداً في العملية الانتخابية، كل هذا يجعلنا نستشعر أن الشعب يدافع عن الدستور، ولكن بآليات مختلفة من بينها المقاطعة".

وبخصوص ملاحقة اثنين من الشخصيات الثلاث الموقّعة على الدستور (العريض والمرزوقي)، اعتبر خضر أنها "صورة صادمة وقاتمة لا تشرّف تونس مطلقاً، ومؤلم جداً أن نصل إلى هذا المستوى"، آملاً "ألا تتواصل هذه الوضعية وأن يعود الرشد إلى أهل الرشد لأنه بغير ذلك نسير نحو مزيد من الظلام الدامس".

من جهته، قال الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، لـ"العربي الجديد"، إن "التاريخ سيذكر أن كتابة دستور الثورة مفخرة التونسيين، كما أن طريقة وضعه عمّقت الاستشارة وجدّدت المفاهيم". ولفت إلى أن "الأمر لم يكن سهلاً"، مستذكراً أن "عشاء كلّ جمعة الذي كنت أجمع فيه لمدة سنتين مختلف الأطراف، ساهم كثيراً في رفع كل القنابل الخطرة، ومن بينها النقاش الطويل حول كلمة الشريعة التي قبلت حركة النهضة التخلي عنها حتى لا يتوقف كل المسار". وأكد أنه "في النهاية، كان فعلاً دستوراً توافقياً عكس قيمة الحوار الحقيقي لوضع نص يرضى عنه الجميع، وهذا ما تم".

وعن الانتقال من ذلك المسار المفتوح الواسع في كتابة دستور، إلى دستور كتبه اليوم رجل لوحده، وما إذا كان ذلك يعدّ انتكاسة سياسية فقط أم أعمق، أجاب المرزوقي: "لقد أجمعت الثورة المضادة بشقيّها، جناح التجمع القديم وجناح الشعبوية، على كره دستور 2014 وتحميله كل مشاكل البلاد، والقاسم المشترك هو الحنين والتمسك بالمفهوم القديم للسلطة المركزية والتجميع في يد الزعيم الأوحد".

ووصف ذلك بـ"التخلّف الفكري والتاريخي المريع، ولكن أيضاً ضرورة الاعتراف بسطوة هذا النموذج الموروث من تاريخ طويل للاستبداد، لا ينفع في العقول المتحجرة، كم أظهر من فشل وعجز، وأنه هو السبب الرئيسي في تخلفنا".

وعن روح دستور 2014، وإن كانت لا تزال حيّة في نفوس التونسيين، وهل سيدافع دستور 2014 عن نفسه، قال المرزوقي إن ذلك "مؤكد، واليوم فإن الخط الفاصل بين أنصار الانقلاب وأنصار الثورة هو الدستور. وقناعتي أن هذه المرة لن يحصل أي حل وسط كالذي يحبه التونسيون".

وتابع أن "الانقلاب لن يتخلى أبداً عن دستوره وهو سبب وجوده، وأي ديمقراطي يتخلى عن الدستور الديمقراطي الوحيد الذي عرفته تونس، مضموناً وطريقة إعداد، سيخرج من الصف الديمقراطي". وشدّد على أنه "عمر الانقلاب مهما طال، فسيرحل هو ودستوره المسخ، والتوانسة اليوم يستطيعون المقارنة بين الثرى والثريا".

الحبيب خضر: الشعب يدافع عن دستور 2014، ولكن بآليات مختلفة من بينها المقاطعة

وعن ملاحقته قضائياً، وسجن رئيس الحكومة الأسبق علي العريض، وهما موقّعان من ثلاثة على دستور 2014، وقراءته لمآل الانقلاب، ونظرته لمستقبل المشهد التونسي القريب، قال المرزوقي: "هذا أمر طبيعي، تذكّر كيف انتهى الرئيس (المصري السابق) الشهيد محمد مرسي. حقد الثورة المضادة على الثورة ظاهرة عابرة للزمان والمكان، ولكن الشيء الثابت هو أن الثورة المضادة أفشلت الثورة، وها هي اليوم تتخبط في فشلها المريع، اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً، ومن ثمة فإن نهايتها في تونس وفي مصر محسومة لأنها لم تقدم للناس إلا الأكاذيب والقمع وتفاقم المشاكل". وشدّد على أن "السيناريو التاريخي يبقى هو ذاته: بعد الثورة، ثورة مضادة، وبعد الثورة المضادة تجدد الثورة ولو على شكل آخر وتواصل المسار وهذا ما نعيش".

من الدستور المفتوح إلى الفردي

لكن الدستور المفتوح الذي شاركت في وضعه معظم فئات الشعب التونسي، لم يعمّر طويلاً، إذ وضع شخص واحد بمفرده الدستور الجديد، من دون أي مشاركة من أحد.

منى الدريدي: سعيّد نفسه ما زال يطبّق دستور 2014 إلى الآن

وعن ذلك، قالت خبيرة القانون الدستوري، منى كريم الدريدي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "تونس مرّت من النقيض إلى النقيض في ظرف 10 سنوات، وهو أمر سيئ، لأن من أهم ركائز الدولة القوية، استقرار دساتيرها".

واعتبرت أن "تونس تحوّلت من دستور صادق عليه أغلب نواب المجلس التأسيسي، الذين يمثلون أغلب أطياف الشعب التونسي وبالتالي هو دستور توافقي على الرغم من مساوئه، ومررنا إلى دستور ممنوح يقطع مع الوسائل الديمقراطية لوضع الدساتير". وشدّدت على أن الدستور الجديد "تمّ إعداده على المقاس من طرف رئيس الجمهورية، وحتى طريقة عرضه على الاستفتاء هي عملية وهمية لأن الشعب استفتى على الشخص وليس على النص وهي أشبه ما تكون بعملية مبايعة".

وتابعت كريم أن "دستور 2022 ليس دستوراً بمواصفات وضع الدساتير، لأنه وُضع بشكل أحادي ويجمع كافة السلطات ويجعل من رئيس الجمهورية مهيمناً عليها ويقطع مع مكتسبات دستور 2014 الذي كان يرتكز على طريقة توزيع السلطات ويتضمن العديد الإيجابيات التي تم الاستغناء عن معظمها في 2022".

وبيّنت أن "رئيس الجمهورية نفسه ما زال يطبّق دستور 2014 إلى الآن". واعتبرت أن "القول بأن دستور 2014 انتهى لا يستقيم من الناحية العلمية البحتة، لأن الرئيس يطبق الأمر 117 الذي اتخذ على أساس الأمر 80 من دستور 2014، وإلى اليوم لم يستند بعد الرئيس إلى دستور 2022".

وشدّدت كريم على أن "الإصلاح لا يكمن في دستور 2022 ولا توجد أي نافذة للإصلاح"، مشيرة إلى أن "الإصلاح لا يمكن إلا بالعودة إلى الشرعية وتعديل دستور 2014 في الاتجاه الذي يسمح بالتوازن بين السلطات والحد من هيمنة البرلمان وإقرار مبدأ المسؤولية السياسية للسلطات، وهذا المبدأ يغيب تماماً في دستور 2022 حيث يكون الرئيس مسؤولاً على جميع السلطات من دون أن يتحمّل أي مسؤولية".

وبيّنت خبيرة القانون الدستوري أن "جميع التونسيين دافعوا عن شرعية دستور 2014 منذ أن تم اعتماد البند 80 (الخاص بالإجراءات الاستثنائية) بطريقة مغلوطة، والناس خرجوا للدفاع عن الدستور، في مقابل إجماع حول رفض الطريقة التي وضع بها دستور 2022 والتي فيها اغتصاب للسلطة بطريقة غير ديمقراطية، وهي انقلاب على دستور 2014 الذي يتمتع وحده بالشرعية".

المساهمون