الخامس والعشرون من يوليو/تموز يوم مفصلي في تاريخ تونس. شهد ذلك اليوم في عام 1957 انتقال البلاد من الملكية إلى الجمهورية، بعد عام ونصف العام من الاستقلال عن فرنسا. وصعد الزعيم الحبيب بورقيبة إلى رئاسة الجمهورية التونسية الأولى، التي أنهت حكم محمد الأمين باي، آخر سلالة "البايات" التي حكمت تونس بين 1705 و1957. وبعد 64 عاماً، يعود هذا اليوم إلى مفكرة الأحداث عبر الانقلاب الذي قام به رئيس الدولة قيس سعيّد على كامل المؤسسات الدستورية في عيد الجمهورية. والربط هنا ليس مصادفة، بل هو مدروس، وأراده سعيّد انقلاباً كامل الأوصاف على العهود السابقة، غير مكترث بأنه قام على خرق صريح للدستور، ووضع من خلاله يده على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
دولة تونسية جديدة. جمهورية أخرى تولد على قاعدة من الشعبوية، شبيهة بالشعبويات التي سبق أن قام بعضها في المنطقة وخارجها، وانتهت بالبلد منهاراً ومحطماً، تتنازعه الأزمات والمصاعب المزمنة، على غرار فنزويلا هوغو شافيز، ليبيا معمر القذافي، والبرازيل في وضع الرئيس الحالي جايير بولسونارو... إلخ. رئيس تونس أصدر فرماناته ليل الأحد، وترك الشارع لأبناء شعبه الذين دشنوا ثورات الربيع العربي يتراشقون بالحجارة أمام البرلمان صباح اليوم الثاني للانقلاب، بينما جلس هو في قصر قرطاج ليكمل حياكة بقية الحكاية، التي فاجأت الجميع بمدى تداخل خيوطها التي نسجها منذ وصوله إلى الرئاسة في أكتوبر/تشرين الأول 2019 من خارج عالم السياسة التونسية المعروف، والتي تعامل معها على أنها لعبة مبتذلة، ومهنة للفاسدين الذين لا مهنة لهم.
رد فعل الأحزاب السياسية التونسية قاطبة جاء ناضجاً، ولم يؤيد الانقلاب أي طرف سياسي ذي وزن
جاء ناضجاً رد فعل الأحزاب السياسية التونسية قاطبة، ولم يؤيد الانقلاب أي طرف سياسي ذي وزن، بما في ذلك حزب العمال الشيوعي الذي يعد ألد أعداء حركة "النهضة"، أكثر طرف استهدفه الانقلاب، بينما كانت المفاجأة من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يقف ضد الانقلاب، وهو الذي شكّل عامل توازن خلال فترات مفصلية من تاريخ تونس، ومن ذلك الثورة ضد نظام الدكتاتور السابق زين العابدين بن علي في نهايات ديسمبر/كانون الأول 2010، حين رجح كفة انتفاضة الشارع بوجه جهاز أمن بن علي. وخلال عشرية الثورة تدخّل الاتحاد عدة مرات من أجل تصحيح المسار، ولم يكن على وفاق مع قيس سعيّد الذي رفض الرد على مبادرات الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي الذي كان يتشاور معه باستمرار، وانقطع حبل الود بينهما منذ عدة أشهر.
فرنسا الأم الحنون لتونس بقيت صامتة طيلة نهار الانقلاب، وصدر عنها موقف غير ذي قيمة في وقت متأخر، وهي التي تعرف تونس أكثر من بعض مدنها. ونظراً للعلاقات الأمنية الوثيقة والتعاون المديد بين البلدين، الذي يعود إلى عقود طويلة، لا يحصل حدث في تونس صغير أو كبير، ولا يكون لقصر الإليزيه (الرئاسة الفرنسية) دراية مسبقة ورأي فيه. والرئيس إيمانويل ماكرون مثله مثل أسلافه من رؤساء فرنسا لم يشذ عن القاعدة، وبقي منشغلاً بشؤون البلد الصغير، حتى أنه أوعز للأجهزة الفرنسية في الآونة الأخيرة لتصنيف تونس على القائمة البرتقالية لوباء كورونا، على الرغم من أن البلاد تمر بحال من الانهيار الصحي. وأراد من ذلك أن يوجّه رسالة تضامن من خلال حث السياحة الفرنسية لتقصد تونس التي تواجه أزمة اقتصادية صعبة.
الوصفة التي تم تجهيزها قبل عقد من الزمن، هي ذاتها التي جرى تطبيقها في تونس بنسخة منقحة من الثورة المضادة، وحصل تغيير بعض القواعد في رقعة الشطرنج، وسط حالة تذمر داخلي واسعة كانت تضغط باتجاه حصول حدث دراماتيكي، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب وتفشي وباء كورونا في الشهرين الأخيرين. ومهما كانت التداعيات الداخلية، فإن التدخل الخارجي لعب دوراً كبيراً في تغذية الاستقطاب السياسي الحاد في تونس خلال العقد الأخير، ولعب إعلام الثورة المضادة دوراً أساسياً في تحريك الشارع ضد التجربة الديمقراطية. لم يقتصر الأمر على شيطنة حزب "النهضة"، بل واجه الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي حرباً مفتوحة طيلة الفترة التي جلسها في قصر قرطاج، ولعبت الدعايات الداخلية والخارجية، وأموال تغذية الحروب الداخلية، دوراً كبيراً، في تقويض أول تجربة عربية في الديمقراطية والربيع العربي، الذي لا يزال يزعج الثورة المضادة، ويشكّل أهم حدث عربي بعد الاستقلال.
قد يبدو الانقلاب نزهة للبعض، إلا أن تعطيل المسار الديمقراطي الذي جاءت به ثورة الحرية والكرامة، سيضع تونس في ورطة فعلية، من خلال تجميد أهم سلطة في البلد وهي البرلمان، الذي يكرّس الإرادة الشعبية. وربما تكون هناك مآخذ كثيرة على الأداء البرلماني طيلة فترة الثورة، ولكن لا ديمقراطية من دون برلمان. البرلمان هو المكان الوحيد للاختلاف والاتفاق والتشريع، وسعيّد الذي جمّد في أول فرمان له هذه المؤسسة التي وضعت دستور عام 2014 المثالي، لم يقدّم خلال فترة حكمه مبادرة برلمانية واحدة وازنة، من أجل حل الأزمة داخل المؤسسة التشريعية، التي صانت تونس من الانزلاق إلى الحكم الفردي والدكتاتورية، وشكّلت صمام الأمان للتعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير، وهي من أهم إنجازات الثورة.
على تونس أن تواجه في قادم الأيام القريبة جملة من الإجراءات غير الدستورية التي تعكس توجهاً نحو الحكم الفردي
الانقلاب لن يقود سوى إلى تخريب التجربة، لا سيما أن هدفه هو بناء نظام ينسجم مع تيار الثورة المضادة. وعن هذا الطريق تدخل تونس اليوم النفق، وعليها أن تواجه في قادم الأيام القريبة جملة من الإجراءات غير الدستورية التي تعكس توجهاً نحو الحكم الفردي، وتجميع السلطات بيد واحدة في مخالفة صريحة للفصل 80 من الدستور، بذريعة "هذا ما يريده الشارع"، والترويج لالتزام المؤسسة العسكرية الحياد، في الوقت الذي سبق فرمانات سعيّد اجتماعه، علانية، مع قادتها، وبالتالي، فإن ما حصل نتيجة لطبخة متقنة، وليس وليد الأمس. وهناك مخاطر كبيرة تترتب على زج المؤسسة العسكرية في الصراع السياسي، وهو ما لم يقدم عليه حتى بن علي الذي كان قائداً أعلى للجيش حين هددت الثورة الشعبية نظامه، ولم يوجّه أمراً بالتدخّل للجيش الذي تصرف عام 2011 بوصفه جيشاً جمهورياً في خدمة الوطن وليس الحاكم. وفي رأي أوساط سياسية تونسية، فإنه من المستبعد أن يكون هناك عنف بين المدنيين والجيش التونسي. وباعتبار أن قيس سعيّد لا يتمتع بحزام سياسي متين، فإنه سيعول على الجيش والأمن، وهذا غير مضمون، واحتمال تحوّله إلى رئيس ضعيف بيد هذه المؤسسة وارد جداً، وكما حصل في أواخر حكم بورقيبة في النصف الأول من الثمانينيات استطاع الجيش أن يتسلل إلى الحكم بقيادة الجنرال بن علي، الذي قام بانقلاب قصر على بورقيبة، وحكم تونس من 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 حتى 14 يناير/كانون الثاني 2011.
المغرب العربي لم يعد شغالاً على ما يبدو. ليبيا معطّلة بسبب وضعها الخاص. والمغرب نأى بنفسه. والجزائر كان لها كلمة فيما يحصل في تونس، لكن كلمتها غير مسموعة هذه المرة، هي التي لطالما كانت عنصر توازن مع فرنسا التي كانت تجرّ تونس الصغيرة إلى طرفها، بعيداً عن محيطها الطبيعي داخل المغرب العربي الكبير، الذي عمل في وقت سابق، من أجل وضع سياسات تقارب وتعاون في وجه الهيمنة والأطماع، التي ظل يمارسها الاستعمار القديم لهذه المنطقة، التي تشكل بوابة وسياج قارة أفريقيا.