تستقبل تونس العام الجديد بتفاؤل نسبي بإمكانية عقد حوارٍ وطني يجمع الفرقاء، ويحدّ من تفاقم الأزمات التي تعصف بها منذ عام على نهاية الانتخابات، كرّسها بوضوح مرور ثلاث حكومات على البرلمان في مدة زمنية قياسية. وبعد فترة من الانتظار، خلص الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي قاد حوار العام 2013 وتوّج بفضله بجائزة نوبل للسلام، إلى فكرة حوار جديد، ولكن تحت مظلة الرئاسة التونسية، لكن ردّ الرئيس قيس سعيّد طال، قبل أن يعلن، نهاية العام الماضي خلال استقباله الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، قبوله إجراء حوار "لتصحيح مسار الثورة، التي تمّ الانحراف بها عن مسارها الحقيقي الذي حدده الشعب منذ عشر سنوات، ألا وهو الشغل والحرية والكرامة الوطنية". وأكد سعيّد وجوب إشراك ممثلين عن الشباب من كل جهات الجمهورية في هذا الحوار، وفق معايير يتم تحديدها لاحقاً، والاتفاق على عقد جلسة عمل لتناول تفاصيل هذا الحوار.
وقال المتحدث الرسمي باسم اتحاد الشغل، سامي الطاهري، إن الاتحاد تلقى بإيجابية قبول رئيس الدولة مبادرة الحوار التي تقدمت بها المنظمة النقابية، مؤكداً أن المبادرة المقدمة من قبل الطبوبي تنطوي أيضاً على أهداف الثورة، ولم تحد عن مطالب التونسيين. وأضاف الطاهري، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن الاتحاد لا يرى أن تكون المبادرة ذات مفعول رجعي، وأن تعود بالتونسيين إلى نقطة الصفر بعد عشر سنوات من مراكمة التجارب والبناء الديمقراطي، مشدداً على أهمية البناء على المكاسب المحققة عبر حوار وطني جامع لكل التونسيين.
يريد قيس سعيّد حواراً على طريقته وبشروطه ويرفع سقف التفاوض عالياً
وأكّد الطاهري أن رئيس الجمهورية لم يوضح في لقائه مع الطبوبي مقاصده بشأن ما تضمنه البيان الثاني لرئاسة الجمهورية حول تصحيح مسار الثورة، مشيراً إلى أن المقاصد في البلاغين الصادرين عن رئاسة الجمهورية، في ما يتعلق بمبادرة الحوار، تحتاج إلى توضيحات. وأفاد المتحدث باسم اتحاد الشغل بأن المنظمة ستطلب توضيحات بشأن هذه التفاصيل، مرجحاً أن يتم تشكيل لجنة مشتركة بين اتحاد الشغل ومؤسسة الرئاسة من أجل توضيح العديد من النقاط المتعلقة بمسار الحوار المرتقب، بحسب تأكيده.
في السياق، قال نائب الأمين العام لـ"التيار الديمقراطي" محمد الحامدي، في تصريح إذاعي، إنّ البيان الذي صدر عن رئاسة الجمهورية بخصوص قبول رعاية حوار وطني لتصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها، وكأنه يطرح مضامين جديدة لمبادرة اتحاد الشغل، مشدداً على أن قبول الرئاسة رعاية الحوار كسر حاجزاً أو جداراً، بعدما كانت (الرئاسة) لديها تحفظات أو موانع عن الدعوة إليه. وبيّن الحامدي أن حديث الرئاسة عن تصحيح مسار الثورة في ظاهره يبدو مغايراً لما اقترحه اتحاد الشغل، موضحاً أنّه لو تم فعلاً التوصل إلى حوار وطني اقتصادي واجتماعي وسياسي يفضي إلى التسويات الضرورية بين التونسيين للخروج من الأزمة التي تمر بها البلاد، فإن ذلك يعتبر نوعاً من تصحيح مسار الثورة وتحقيق أهدافها في التنمية والتشغيل وحفظ كرامة التونسيين.
ولفت الحامدي إلى أن خريطة طريق الحوار ومضامينه والأطراف التي ستشارك فيه ستكون هي نفسها جزءاً من الحوار خلال الأيام المقبلة. واعتبر أن مبدأ التعديل الوزاري أو تغيير الحكومة لن يكون هو أساس الحوار أو نقطته الأولى بالنسبة لـ"التيار الديمقراطي" واتحاد الشغل، حتى لا يكون الحوار المرتقب على غرار حوار قرطاج 1 (2016) وقرطاج 2 (2018). وشدّد على أنّ الهدف هو حوار اقتصادي وسياسي واجتماعي حول المعضلات الكبرى للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، ويفترض أن تشارك فيه الحكومة ورئاسة الجمهورية والبرلمان بمختلف مكوناته، مرجحاً أنّ يفضي الحوار في أحد مخرجاته إلى ضرورة تغيير الحكومة جزئياً أو كلياً، وهو أمر ممكن وفق تقديره.
تبيّن هذه المواقف أن سعيّد يريد حواراً على طريقته، وبشروطه، ويرفع سقف التفاوض عالياً، تحت عنوان كبير هو تصحيح مسار الثورة، إلا أن المعنيين بالحوار أساساً، الأحزاب الكبرى وخصوصاً الداعمة للحكومة، لا ترى المسألة بهذا المنظار.
لا ترى الأحزاب الكبرى، وخصوصاً الداعمة للحكومة، مسألة الحوار من منظار الرئاسة
وأعلن البرلمان التونسي، الخميس الماضي، أن رئيسه راشد الغنوشي عبّر خلال لقاء جمعه بالطبوبي عن دعمه مبادرة المنظمة حول الحوار الوطني. وأفاد البرلمان، في بيان نشره على صفحته الرسميّة في موقع "فيسبوك"، بأنّ الطبوبي "أطلع الغنوشي على فحوى لقائه الأخير برئيس الجمهورية قيس سعيّد، وعن الاستراتيجية التي سيتّبعها الاتحاد لتفعيل مبادرته الداعية إلى إجراء حوار وطني لإيجاد حلول للوضع الراهن، ومختلف التصوّرات الممكن اتباعها في هذا المجال". ونقلت رئاسة البرلمان عن الغنوشي تذكيره بدعمه المبادرة وكل مبادرات الحوار، وتشديده على "ضرورة أن تكون لها صياغة عملية قابلة للوصول بها إلى نتائج فعلية حتى لا تكون مجرد لقاءات وتبادل آراء". وأضافت رئاسة البرلمان أن الغنوشي رحّب بإشراك الشباب في هذا الحوار، وأكد ضرورة أن يكون ذلك ضمن هياكل ومنظمات ناشطة وفاعلة على الساحة، على غرار هياكل الشباب الطلابية وغيرها من المنظمات النشيطة، بما يضمن تحقيق الأهداف المرجوّة من الحوار.
وفي حديث صحافي، قال الغنوشي إنه "يجب في البداية التساؤل عن حيثيات هذا الحوار، هل سيُعنى بالاقتصاد أم بالسياسة؟"، متابعاً "لا يمكن التصرف كما لو أنه يقوم بهدم ما قمنا بإنجازه إلى حد الآن، والذي لم نسعَ لإكماله بعد، ثم القيام بإعادة البناء مع إقصاء ما تم إنجازه منذ 2011. أليس من الأجدر إعطاء المزيد من الوقت للنظام الحالي، لينهي عمله ثم تقييمه لاحقاً؟".
ويتضح أن هناك خلافات عميقة حول شكل الحوار ومضامينه، وتقود أغلب المواقف إلى الاعتقاد أن شروط الحوار لم تنضج بعد، وأهمها استعداد كل الفرقاء للتحاور. فالداعمون للحكومة يرون أن الهدف هو تغيير الموازين على الأرض وإعادة ترتيب الأوراق من جديد، والرئيس لا يريد أن يجلس مع الجميع، وخصوصاً الأحزاب التي يعتبرها متآمرة أو متهمة أمام القضاء أو الرافضة للثورة. وأكد سعيّد، في تهنئته للتونسيين بمناسبة العام الجديد، أن "النظام السياسي في تونس في حاجة إلى لقاح من صنف جديد غير مستورد يعيد لتونس عافيتها ويحقق أهداف الثورة"، مشيراً إلى أن "المنظومة السياسية في تونس هي نفسها لم تتغير، وهي كجائحة كورونا تطورت وأنتجت سلالة جديدة".
وفي هذا الوضع، يجد اتحاد الشغل نفسه بين أطراف مختلفة الآراء، ويورطه تاريخه في حوار تحتاجه ساحة منقسمة ووضع اقتصادي صعب، لكن الفرقاء يرفضون بعضهم بعضاً بكل وضوح، وهو ما يزيد من تعقيد مهمته، ولكنه يتسلح بصبر تدرب عليه في العام 2013 عندما كانت الأوضاع أصعب.