وبالمقارنة مع القوائم السوداء المتعددة لدى كل من وزارات الخارجية والخزانة والتجارة في الولايات المتحدة، فإن القائمة الوحيدة المتعلقة بمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية تقتصر على الجوائز المخصصة لمن يدلي بمعلومات تقود إلى اعتقال أشخاص بعينهم حددت الإدارة الأميركية أسماؤهم نقلاً عن قوائم دولية أخرى بناء على قرارات المحاكم الدولية، مشترطة ألا يكون من بينهم أميركيون. ولم تجهد الإدارة الأميركية نفسها بتدوين أسماء إضافية مثلما تفعل في قوائم من تصفهم بالإرهابيين أو الداعمين للإرهاب. وحتى قائمة الجوائز بشأن مرتكبي جرائم ضد الإنسانية، لم يُدرج فيها حتى الآن أحد من قادة النظام السوري أو قادة تنظيم "داعش"، على الرغم من المبالغة الإعلامية في تصوير ما جاء في كلمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الخميس بأنه تصنيف جديد لتنظيم "داعش" قد يقود إلى تغيير حازم في التعامل مع التنظيم.
وفي الوقت الذي تجاهل فيه كيري تماماً مطالب الكونغرس بشأن النظام السوري، فقد كان الوزير الأميركي واضحاً في كلمته عن "داعش" حين قال: "أنا لست قاضياً ولست مدعياً عاماً في قضايا الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية أو التصفيات العرقية، فهذه التسميات من مهام تحقيق مستقل يجب أن يتم بموجب إجراءات قانونية رسمية وبإشراف محكمة جزائية خاصة بعد دراسة الأدلة وتمحيصها".
ويكون الوزير الأميركي بهذه الفقرة قد أحال المسؤولية التي كلّفه بها الكونغرس الأميركي قبل أيام إلى المؤسسات الدولية، معرباً في الوقت نفسه عن استعداد الولايات المتحدة لمساعدة المجتمع الدولي في أي تحقيق بهذا الخصوص، بما في ذلك جمع المعلومات والأدلة لإدانة التنظيم وعناصره، لافتاً إلى وجود صعوبة في الوصول إلى بعض المناطق التي يسيطر عليها عناصر "داعش". وخلص كيري إلى القول إن تسمية أعمال "داعش" أو توصيفها بالوصف الدقيق المناسب، على الرغم من أهمية هذا التوصيف، إلا أن الأكثر أهمية من ذلك هو وقف هذه الأعمال، مشدداً على أن هذا يتطلب وحدة الموقف بين جميع الدول ذات العلاقة.
لكن إيضاحات كيري هذه وردت في النصف الثاني من كلمته بعد أن تضمّن النصف الأول الكلام الذي لم ينقله مراسلو وكالات الأنباء الدولية الرئيسية عن إعلان كيري أن تنظيم "داعش" يرتكب جرائم إبادة جماعية وتصفيات عرقية. ولم تأتِ كلمته أساساً إلا بضغط من الكونغرس الأميركي، فقد اتخذ أعضاء الكونغرس قراراً بالإجماع مطلع الأسبوع الحالي يعطي مهلة قصيرة لإدارة الرئيس باراك أوباما للإعلان رسمياً عن تصنيف أفعال "داعش" ضد المسيحيين والأقليات الأخرى في المنطقة بالتوصيف المناسب لها وهو "جرائم إبادة وتصفية عرقية". وجاء إعلان إدارة أوباما لرأيها في توصيف "داعش" عبر كلمة كيري في اليوم الأخير من المهلة التي منحها الكونغرس الأميركي للإدارة، إذ فوجئ الصحافيون بحضوره صباح الخميس إلى قاعة المؤتمرات الصحافية في مبنى وزارة الخارجية في مؤشر على وجود قضية استحوذت على اهتمام الوزير. وعندما لاحظ كيري علامات الاستغراب في وجوه الصحافيين عن سبب حضوره، أشار إلى أن الغرض من ظهوره هو توضيح الموقف الرسمي للإدارة الأميركية من الجدل الدائر بشأن توصيف أعمال تنظيم "داعش" بجرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية.
اقرأ أيضاً: كيري يبدي ترددا في توصيف جرائم "داعش" بحرب إبادة
وبعد مقدمة قصيرة عن إنجازات الإدارة في العراق وسورية، دخل كيري في صلب الموضوع بالإعراب عن قناعته بأن تنظيم "داعش" مسؤول عن جرائم الإبادة التي تجري في الأراضي الخاضعة لسيطرته، وكأن هناك تنظيمات أخرى غير "داعش" في تلك الأراضي يتحمل "داعش" المسؤولية الأدبية عن نتائج أعمالها.
وعلى الرغم من أن الكونغرس خصّ المسيحيين في سورية بالذكر في قرار التكليف، إلا أن كيري بدا حريصاً على ذكر الأقليات الأخرى بالاسم مثل الأيزيديين والشيعة في العراق. وليس هذا فحسب بل قال إن السنّة يتعرضون لاضطهاد "داعش" أيضاً. وأعرب بعض المعلقين الأميركيين عن امتعاضهم من ذلك لأن ذكر السنّة من بين من يستهدفهم التنظيم، يمكن أن يقوّض من قوة وصف أعمال التنظيم بالتصفيات العرقية، مثلما أن إيراده لشيعة العراق يلحق الضرر بالأقليات المستهدفة الأخرى لأنها غير مسلمة، وفق المعلّقين.
ويبدو أن الخارجية الأميركية تعمَد إلى تفادي التركيز على المسيحيين مهما تعرض أبناء هذه الطائفة إلى مخاطر، لجملة أسباب أولها إنساني هو محاولة تجنيب الطائفة أية تبعات للتصعيد ضدها بسبب الوقوف معها عن بُعد، بينما يوجد أتباعها بالقرب من فوهات مدافع "داعش". وتؤكد ذلك إشارة كيري في كلمته إلى أن زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي أعلن بصورة لا لُبس فيها استهداف الطائفة الأيزيدية معتبراً "أتباعها كفرة أو من عبدة الشيطان"، لكنه حسب قول كيري لم يعلن استهداف المسيحيين بمثل هذا الوضوح على الرغم من ممارسات التصفية والتهجير ضدهم في المناطق التي استولى عليها التنظيم.
أما السببان الآخران فهما نتاج حسابات أميركية محلية كي لا يتم تحميل الإدارة الأميركية عبء فتح أبواب اللجوء للمسيحيين السوريين والعراقيين المجبرين على ترك ديارهم وبلادهم هرباً من الموت. وفضلاً عن ذلك فإن حكومة الولايات المتحدة التي رفضت التوقيع على معاهدة روما الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، تخشى من فتح باب محاكمة مجرمي الحرب وتحاول ما في وسعها أن تحمي جنودها وقادتها العسكريين والسياسيين من تبعات ذلك.
أما أعضاء الكونغرس الأميركي، فقد لا يهمهم حماية مسؤولي الإدارة الحاليين أو السابقين إن كانوا قد ارتكبوا جرائم من أي نوع، غير أن الذي يتفقون فيه مع الإدارة بمن فيهم المزايدون في استغلال معاناة الآخرين، هو ألا يؤدي قرارهم الأخير إلى التورط باستقبال موجات من اللاجئين القادمين من بؤر التصفيات العرقية. لهذا السبب أحجم الكونغرس عن تكليف الإدارة بقبول المزيد من اللاجئين وبالذات من بين الطوائف المعرضة للانقراض في مناطق "داعش". وعوضاً عن ذلك اكتفى الكونغرس بالإشادة بالدور الذي يقوم به الأردن ولبنان في إيواء اللاجئين.
ويتجاهل أعضاء الكونغرس الأميركي عن عمد أو عدم إدراك، أن قدرة الأردن ولبنان الاستيعابية لن تستمر إلى ما لا نهاية مهما كان كرم شعبيهما. والأخطر من هذا أن تنظيم "داعش" الذي تمكّن من التمدّد إلى سيناء وغرب أفريقيا، قد يحاول كذلك الوصول إلى البلدان المجاورة لسورية التي لجأ إليها ملايين السوريين. وإذا ما نجح تنظيم "داعش" في ذلك، فلن يكون أمام أوروبا سوى الاستعداد لاستقبال فيضان من البشر قد يكون الأكبر من نوعه على مدى التاريخ.
ولم يخطئ كيري في قوله إن أيديولوجية "داعش" بطبيعتها إبادية رافضة للآخر أياً كان هذا الآخر باعتراف التنظيم نفسه، ومع ذلك فإن الإدارة الأميركية الحالية لم تلبِ حتى الآن مطلب تشكيل محكمة دولية لمحاكمة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية في سورية أياً كانوا. أما أعضاء الكونغرس الذين أدركوا خطورة جرائم الإبادة التي ترتكبها التنظيمات الإرهابية، فهم أدركوا كذلك الخطر الذي يمثّله المصدر الرئيسي لتفريخ هذه التنظيمات بقصد منه أو من غير قصد، وهو النظام السوري، الذي قال أعضاء الكونغرس في مشروع قرار لهم إنه تورط على نطاق واسع في استعمال التجويع والتعذيب والاغتصاب كسلاح، كما ارتكب جرائم إبادة جماعية بالسلاح الكيماوي والقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن إدارة أوباما لا تزال تتخذ سياسات مهادنة مع النظام، ومترددة مع "داعش". غير أن ضغوط الكونغرس القوية على الإدارة القائمة دفعت المرشحين للرئاسة الأميركية لإبداء حماسة منقطعة النظير لإيداع البغدادي وزعيم النظام السوري بشار الأسد في قفص محكمة دولية واحدة، وهو ما عجزت عنه الإدارة الأميركية الحالية.
اقرأ أيضاً: النواب الأميركي يطالب بمحكمة دولية مختصة بـ"جرائم الحرب" بسورية