يواصل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال هذه الأيام، جولة رسمية هي الثالثة من نوعها له خلال العام الحالي إلى القارة الأفريقية، وحملته إلى كينيا وبوروندي، وأيضاً إلى موزامبيق، قبل أن يختتم جولته في جنوب أفريقيا، اليوم الخميس وغداً الجمعة، لحضور اجتماع وزراء خارجية دول مجموعة الـ"بريكس" التحضيري لقمة زعماء هذه الدول المقررة في جنوب أفريقيا في أغسطس/ آب المقبل. وتضم دول مجموعة الـ"بريكس" روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
وجاءت جولة لافروف الأفريقية الجديدة فيما كان نظيره الأوكراني ديمترو كوليبا يقوم بجولة نادرة في القارة، زار خلالها المغرب وإثيوبيا ورواندا وموازمبيق ونيجيريا (حيث حضر تنصيب الرئيس الجديد بولا تينوبو كأول وزير خارجية أوكراني يحضر تنصيب زعيم أفريقي، بحسب تغريدة كوليبا على "تويتر")، فيما كانت كييف قد أكدت رغبتها في أن تكون ممثلة دبلوماسياً في 30 دولة أفريقية (هي ممثلة إلى حد الآن في 10 دول)، وأن ثماني دول جديدة أبدت موافقتها على التبادل الدبلوماسي.
وتكشف جولتا لافروف وكوليبا الجديدتان (قام كوليبا بجولة أفريقية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي اضطر إلى قطعها مع اشتداد القصف الروسي)، أن الصراع على النفوذ في القارة الأفريقية لا يقتصر فقط على روسيا والغرب، بل يمتد إلى التنافس بين موسكو وكييف لكسب موقف هذه الدول في المحافل الدولية بما تملكه من قوة تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الأممية.
تحظى أفريقيا بأهمية خاصة في مفهوم السياسة الخارجية الروسية الجديد الذي أقر في 31 مارس الماضي
وعلى الرغم من التفاتة روسيا خلال السنوات الأخيرة إلى تمتين العلاقات مع القارة الأفريقية، بدا واضحاً أن الحرب الروسية على أوكرانيا حوّلت القارة إلى أحد الاتجاهات الرئيسية في عمل الدبلوماسية الروسية، عبر تبادل الزيارات المكثف بين الطرفين.
أهمية خاصة لأفريقيا لدى موسكو وكييف
وتحظى أفريقيا بأهمية خاصة في مفهوم السياسة الخارجية الروسية الجديد الذي أقر في 31 مارس/ آذار الماضي وحدّد ثلاثة أهداف رئيسية في العلاقات مع البلدان الأفريقية، وهي: تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية، مكافحة الإرهاب والتطرف، والتعاون مع الاتحاد الأفريقي.
وتكشف تصريحات لافروف وغيره من المسؤولين الروس خلال الأشهر الأخيرة، أن هدف الجولة هو التحضير لمنتدى روسيا - أفريقيا الثاني في سانت بطرسبورغ المقرر بين 26 و29 يوليو/ تموز المقبل، وضمان مشاركة أكبر عدد ممكن من القادة الأفارقة في القمّة التي تراهن عليها روسيا لإثبات أنها غير معزولة عالمياً. كما تراهن موسكو على إثبات أنها تتقدم في جهودها لبناء عالم متعدد الأقطاب وتحشد "الجنوب العالمي" في وجه الهيمنة الغربية.
وفي ظلّ العقوبات الغربية وتراجع اقتصاد روسيا وتجارتها الخارجية، تأمل موسكو في إيجاد روافع جديدة للتنمية وتحسين اقتصادها عبر زيادة الصادرات الزراعية والأسمدة، وجسّ إمكانيات الالتفاف على العقوبات الغربية، وزيادة نشاط شركاتها في القارة ذات الإمكانات الواعدة كمصدر للمواد الخام وسوق واسعة للمنتجات بعدد سكان يتجاوز 1.3 مليار نسمة، وحجم اقتصاد يصل إلى 3 تريليونات دولار.
في المقابل، قد تصطدم المحاولات الروسية بعدم قدرة موسكو على ضخّ استثمارات ضخمة في مشاريع طويلة الأجل باقتصاد القارة السمراء التي تعاني معظم بلدانها بعد جائحة كورونا وارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة الحرب في أوكرانيا. وتريد موسكو عدم اقتصار التعاون في مجال استغلال الثروات الباطنية مثل النفط والغاز ومناجم الألماس والذهب والمعادن، وهي قطاعات تنشط فيها شركات روسية عدة رائدة في هذه المجالات، مثل "روسنفت" و"لوك أويل" النفطيتين و"الروسا" المتخصصة في مجال الألماس والأحجار الكريمة، و"روسال" عملاق التعدين الروسي.
شرق أفريقيا والقرن الأفريقي
وفي زيارة غير معلنة سابقاً، وصل لافروف، الإثنين الماضي، إلى العاصمة الكينية نيروبي، وألقى كلمة أمام البرلمان في أجواء احتفالية بمناسبة الذكرى 60 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. والتقى الوزير الروسي مع الرئيس الكيني وليام روتو، الذي جدّد التأكيد على "موقف كينيا الثابت بشأن احترام سيادة أراضي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والدعوة إلى حل النزاع بين روسيا وأوكرانيا بطريقة مقبولة للطرفين".
ويقر الجانبان بأن العلاقات الاقتصادية بين البلدين ضعيفة نظراً لعدم وجود ثروات باطنية في كينيا. وبحسب بيانات هيئة تصدير المنتجات الزراعية الروسية، فقد ارتفع حجم الصادرات الزراعية من روسيا إلى كينيا أخيراً قرابة 43 في المائة، ووصل إلى 330 مليون دولار، ولكن روسيا تسعى إلى تمتين العلاقات مع نيروبي نظراً لموقعها الجغرافي المميز في مجال النقل واللوجستيات والمركز المالي لشرق أفريقيا.
وتعود آخر زيارة للافروف إلى كينيا إلى عام 2010 في فترة حكم الرئيس مواي كيباكي. حينها وصفت تلك الزيارة بأنها "تاريخية"، ولكنها لم تحدث اختراقاً جدياً في العلاقات الروسية - الكينية بعدها. في المقابل، نشطت كل من الصين والاتحاد والأوروبي والولايات المتحدة في السوق الكينية. وساعدت السياسة ذات التوجه الغربي إلى حدّ كبير كينيا في الخروج من كساد اقتصادي عميق وأدت إلى زيادة كبيرة في نمو الناتج المحلي الإجمالي في هذا البلد.
تحضّر موسكو للقمة الروسية الأفريقية الثانية المقررة في سانت بطرسبورغ بين 26 و29 يوليو المقبل
وعلى الرغم من التركيز على القضايا الاقتصادية، فإن الجانب الروسي يسعى إلى استمالة كينيا سياسياً، وخصوصاً أنها صوّتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 فبراير/ شباط 2023، الذي دعا روسيا إلى "الانسحاب الفوري والكامل وغير المشروط لجميع قواتها المسلحة من أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دولياً"، وقدم دعماً للأحكام الرئيسية لـ"صيغة السلام" التي اقترحها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ومعلوم أن 22 بلداً من أصل 54 بلداً عضواً في الاتحاد الأفريقي امتنعت عن التصويت أو لم تشارك في التصويت على القرار المذكور، فيما صوّت بلدان ضده، هما إريتريا ومالي.
واستقبلت موسكو وزيري خارجية إرتيريا والصومال، عثمان صالح وأبشير عمر جاما، خلال شهر مايو/ أيار الماضي، كما يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الإريتري أسياس أفورقي، اليوم الخميس، في موسكو، في حراك يهدف على ما يبدو إلى زيادة النفوذ الروسي في منطقة القرن الأفريقي وشرقي القارة.
بوروندي... حياد لمنع توسع النزاع
وليس بعيداً عن المنطقة ذاتها، زار لافروف، الثلاثاء، بوروندي للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ 60 عاماً، حيث جدّد نظيره البوروندي ألبرت شينغيرو التأكيد على حياد بلاده في النزاع الدائر بين موسكو وكييف، وشدّد على أنه "لا يمكن لأحد أن ينتصر في هذه الحرب".
وامتنعت بوروندي في فبراير الماضي عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي روسيا إلى سحب قواتها من أوكرانيا، وقال شينغيرو أمام لافروف، الثلاثاء الماضي: "لقد اتخذنا موقفاً ممتنعاً عن التصويت، وموقفاً حيادياً لمنع هذا النزاع من الوصول إلى مناطق أخرى، ولا سيما إلى أفريقيا، ويجب علينا التخفيف من تأثير هذا النزاع، وهذا هو موقف غالبية الأفارقة بشأن هذا الموضوع"، وخلص إلى أنه "ما من أحد يمكنه الانتصار في هذه الحرب".
وتأمل روسيا في التعاون مع بوروندي في مجالات الاستخدام السلمي للطاقة الذرية والرعاية الصحية. ووفقاً لسيرغي لافروف، فقد أبدى الرئيس البوروندي إيفاريستا نداييشيمي اهتماماً باستخدام التقنيات الروسية في هذه المجالات. وبحسب وزير الخارجية الروسي، فقد وقعت مؤسسة الطاقة النووية الروسية "روساتوم" والجانب البوروندي خريطة طريق، وأن العمل متواصل لتوقيع اتفاقية حكومية دولية بشأن الاستخدام السلمي للطاقة الذرّية ومذكرة بشأن تدريب الكوادر في مجال الطاقة النووية. ومن المتوقع أن يتم التوقيع على هذه الاتفاقيات وعدد من الاتفاقيات الأخرى خلال القمة الروسية الأفريقية.
موزامبيق... شراكة استراتيجية
وعلى عكس بوروندي، فإن لافروف كان قد زار موازمبيق مرات عدة، آخرها خلال جولته الأفريقية في يناير/ كانون الثاني الماضي. وفي إبريل/ نيسان الماضي، زار رئيس برلمان موزامبيق إسبيرانس بياش موسكو، وأعرب حينها عن رغبة بلاده في تعزيز التعاون بين البلدين، مشدداً على أن الشراكة بين روسيا الاتحادية وموزامبيق "ذات طبيعة استراتيجية". ويرتبط البلدان باتفاقيات في مجال الأمن والتعاون الإنساني. ويفترض أن يكون محور لقاءات لافروف في هذا البلد قد ركّز على تطوير العلاقات الثنائية، والتعاون في منصة الأمم المتحدة والمنصات الدولية والوضع حول أوكرانيا.
جنوب أفريقيا... أهمية خاصة
وتكتسب زيارة لافروف إلى بريتوريا أهمية خاصة، بعد الجدل الكبير حول موقف جنوب أفريقيا من قضية ضمان أمن الرئيس فلاديمير بوتين خلال قمة مجموعة "بريكس" التي تستضيفها جنوب أفريقيا في أغسطس المقبل، في حال قرر بوتين المشاركة، وعدم تنفيذ مذكرة المحكمة الجنائية الدولية بتسليمه، علماً أن جنوب أفريقيا من الدول الموقعة على نظام روما الأساسي.
وتعد جنوب أفريقيا من أهم حلفاء روسيا في القارة الأفريقية. ويتواصل التنسيق على مستوى عالٍ بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية. وفي 16 مايو الحالي، عقد قائد القوات البرّية في الجيش الجنوب أفريقي، الجنرال لورانس أمباتا، لقاءات مع قيادة الجيش الروسي في موسكو، في زيارة مخطط لها سابقاً بحسب بيان رسمي صادر عن بريتوريا. لكن الزيارة جاءت حينها في وقت حسّاس بعد أيام من اتهام الولايات المتحدة لجنوب أفريقيا بإمداد روسيا بالأسلحة.
ولم تصدر جنوب أفريقيا أي إدانة للحرب الروسية على أوكرانيا، وأكدت أنها تسعى للبقاء على الحياد وتعتبر أن الحوار هو الوسيلة لوضع حدّ للنزاع، لكن المعارضة تشير إلى وقائع تثبت انحياز جنوب أفريقيا. وتزامنت زيارة الجنرال الجنوب أفريقي إلى موسكو مع مكالمة هاتفية أكد فيها رئيسا البلدين، بوتين وسيريل رامافوزا، على "توطيد العلاقات بين موسكو وبريتوريا لما فيه المصلحة المشتركة في مجالات عدة". وأكد رامافوزا أكثر من مرة أن بلاده لن تُستدرج إلى صراع بين قوى دولية في ملف أوكرانيا على الرغم من مواجهتها ضغوطاً كبرى للانحياز إلى أحد الجانبين، مشيراً إلى أن بلاده تدعم حل النزاع سلمياً.
أثير الجدل حول موقف جنوب أفريقيا من قضية ضمان أمن بوتين خلال قمة "بريكس" التي تستضيفها في أغسطس المقبل
واستضاف جيش جنوب أفريقيا تدريباً عسكرياً مشتركاً مع روسيا والصين على الساحل الشرقي للبلاد، ما بين 17 و27 فبراير الماضي، وهي خطوة أثارت انتقادات غربية.
وفي إطار الجدل المتواصل منذ أشهر عدة حول دعوة بوتين لقمة "بريكس"، أعلن حزب المعارضة الرئيسي في جنوب أفريقيا، حزب التحالف الديمقراطي، الثلاثاء الماضي، أنه اتخذ إجراءات قانونية لإجبار الحكومة على اعتقال بوتين في حال قرر حضور القمة. وأكد "التحالف الديمقراطي" أنه رفع دعوى قضائية لضمان قيام الحكومة باحتجاز بوتين وتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية "في حال وطئت قدماه جنوب أفريقيا وفاء لالتزاماتها الدولية".
وبدا موقف جنوب أفريقيا غامضاً في مواجهة معضلة دبلوماسية بسبب استضافة بوتين، فمن جهة منحت الحكومة حصانة دبلوماسية للمسؤولين الذين يحضرون اجتماعات وزراء خارجية مجموعة "بريكس" هذا الأسبوع ورؤساء الدول المشاركين في القمة المقبلة، ما فسر على أنه تمهيد لتوفير غطاء قانوني لزيارة بوتين. في المقابل، أكدت وزارة خارجية جنوب أفريقيا في بيان، الأسبوع الماضي، أن "هذه الحصانات لا تلغي أي مذكرة قد تكون أصدرتها أي محكمة دولية بحق أي شخص سيحضر المؤتمر"، وقالت إن إصدار الحصانات أمر "اعتيادي" لاستضافة المؤتمرات الدولية.
وعلى الرغم من توجيه دعوة لبوتين إلا أن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لم يؤكد أو ينفي حتى الآن توجه بوتين لحضور القمة، مؤكداً أنه "سيتم تمثيل روسيا على النحو الملائم". وأضاف أن موسكو "تتوقع من شركائها في بريكس ألا يسترشدوا" بما وصفتها بـ"قرارات غير مشروعة"، مثل مذكرة الاعتقال.
تنافس ووساطات
من جهته، وفي ختام جولته الأفريقية، أعلن وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا في تصريحات لمحطة "رادا" الأوكرانية، أن بلاده حصلت على موافقة لفتح سفارات في ثماني دول أفريقية قبل نهاية العام الحالي.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي قد أعلن في نهاية العام الماضي عن افتتاح سفارات في 10 دول أفريقية. ومعلوم أن كوليبا زار المغرب وموزامبيق ونيجيريا ورواندا وإثيوبيا في إطار جولته الأفريقية الهادفة على ما يبدو إلى موازنة الحضور الروسي في القارة السمراء التي تعتمد بشكل كبير على واردات الحبوب والزيوت والأسمدة من روسيا وأوكرانيا.
وتسعى البلدان الأفريقية إلى بذل جهود في الوساطة. وفي منتصف مايو الماضي، أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا أن موسكو وكييف اتفقتا على قبول بعثة من القادة الأفارقة للسعي إلى تسوية سلمية للصراع الروسي الأوكراني. وتضم البعثة 6 دول، هي مصر وزامبيا وجمهورية الكونغو والسنغال وأوغندا وجنوب أفريقيا. ومن المفترض أن يزور ممثلو الدول الست العاصمتين الروسية والأوكرانية في منتصف يونيو/ حزيران حتى أوائل يوليو المقبل. ولم تحصل المبادرة على تفويض من الاتحاد الأفريقي ولم تظهر صياغة واضحة لنصّها، والأرجح أنها لن تنجح في وضع حد للحرب المستمرة في ظل مواقف البلدين المتباعدة.
طموحات روسية
ومن الواضح أن روسيا الراغبة بالعودة إلى القارة الأفريقية تبذل جهوداً دبلوماسية كبيرة لكن النتائج العملية رهن بقدرة موسكو على مجاراة اللاعبين العالميين الآخرين الذين لديهم ما يقدمونه أكثر من تجارة الأسلحة، واستغلال الثروات الطبيعية. وتكفي الإشارة إلى أن حجم التجارة البينية بين البلدين لا يتجاوز 18 مليار دولار، بحسب تصريحات رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الشيوخ غريغوري كاراسين لصحيفة "كوميرسانت" في 15 مايو الماضي.