بعدما ورث ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من عام عن سلفه السفير الأميركي الحالي في تركيا ديفيد ساترفيلد، يبتعد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، عن الأضواء اللبنانية، أقلّه بالشكل المعلن، بعدما لم يزر لبنان سوى مرتين منذ تعيينه في منصبه في عام 2019، وزيارة ثالثة له خلال الشهر الحالي، لإطلاق المفاوضات "غير المباشرة" بين الطرفين حول هذا الملف، والتي ليس معروفاً الوقت الذي ستسلكه، بناء على الكثير من التحولات والمعطيات الداخلية والخارجية. وكانت قد سرت أنباء تواردتها بعض المنصات الإعلامية خلال الشهر الماضي، عن عودة ساترفيلد لتسلم الملف، لكن ما هو أكيد اليوم أن شينكر قد سلّم ملف الوساطة الأميركية في عملية التفاوض التي ستجرى برعاية أممية في منطقة الناقورة، جنوب لبنان، إلى الدبلوماسي الأميركي الذي أنهى مهامه أخيراً سفيراً لبلاده في الجزائر، جون ديروشر. ولا يزال من الصعب رصد مواقف ديروشر، بالنسبة إلى ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين اللذين يعتبران في حالة عداء، أو رصد أي مقاربة معلنة له حول الملف اللبناني وارتباطاته الإقليمية، مقارنة بشينكر مثلاً، أو وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل، الذي مرّ الملف من تحت يديه أيضاً، أو بالطبع ساترفيلد.
وشينكر شخصية سياسية أميركية من خارج عالم الدبلوماسية، وهو عرف بقربه من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وعرف بموافقه المنحازة جداً إلى إسرائيل، وتصلبه حيال لبنان "الرسمي"، كما ارتبط اسمه أخيراً بسيوف العقوبات الأميركية التي سلطت على رؤوس سياسيين لبنانيين قبل الإفراج اللبناني عن اتفاق ــ الإطار لبدء هذه المفاوضات.
يتسلم ديروشر، مهامه في توقيت لبناني حسّاس وإقليمي متغير، ووسط تنافس إقليمي على الثروات النفطية في المتوسط
ويحمل الحديث عن شينكر في هذه اللحظة ومع انطلاق المفاوضات "غير المباشرة" رسمياً، أكثر من بعد، إذ ليس معروفاً بعد ما إذا كان تعيين ديروشر، وهو شخصية "غير إشكالية" نسبياً، يعني ابتعاداً فعلياً للأول عن الملف، أو بقاءه في يده من خلف الستار، وفي قبضة الخارجية الأميركية "المحافظة" إلى حدّ الآن. ويتسلم ديروشر، البالغ من العمر 56 عاماً، والذي يخدم كدبلوماسي أميركي منذ العام 1988، مهام الوساطة الأميركية المباشرة بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، في توقيت لبناني حسّاس، وإقليمي متغير، مع دخول دول عربية على سكّة التطبيع مع دولة الاحتلال، ووسط تنافس إقليمي على الثروات النفطية والغازية في مياه المتوسط. ويأتي "الموظف" برتبة دبلوماسي في الخارجية الأميركية، مزوداً بالأجندة الأميركية، لهذا الملف، والتي يديرها بومبيو بشكل أساسي، لا سيما لجهة محاولة تحصيل القدر الممكن من التنازلات اللبنانية لصالح إسرائيل.
ويبدو أن "بورتريه" ديروشر، الذي يذكره موقع وزارة الخارجية الأميركية، أو موقع معهد الدراسات الدبلوماسية في جامعة جورجتاون الأميركية، أو حتى موقع "أديرونداكس ديلي أنتربرايز" الذي ينقل تقريراً من منطقة لايك بلاسيد في نيويورك، التي عاش فيها ديروشر منذ عام 1968، يتناغم مع "النظرة الاقتصادية" إلى المفاوضات، بالإضافة إلى البعد السياسي. وتذكر هذه البورتريهات جميعها، شغف ديروشر وإلمامه القوي بالاقتصاد، ولعبه دوراً مهماً في بناء سياسات اقتصادية للعراق في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي، وكذلك في المفاوضات الاقتصادية بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال في إحدى الفترات. ويملك ديروشر، إطلالة "متوسطية" قوية، بعدما خدم في الجزائر، وهي قوة إقليمية نفطية وغازية على الساحل المتوسطي، وفي مصر، وكذلك في القدس المحتلة.
وفي السيرة الذاتية والمهنية لديروشر، أنه تخرج من كلية إدموند والش للخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون، وحاصل على عدد من ميداليات الشرف من وزارة الخارجية الأميركية. وشغل سابقاً منصبي نائب رئيس بعثة دبلوماسية وقنصلاً عاماً في سبع بعثات خارجية أميركية، وحمل صفة مسؤول كبير في وزارة الخارجة في واشنطن. وخدم ديروشر كدبلوماسي أميركي منذ عام 1988، وقضى أولى سنواته في هذه الخدمة في سفارتي بلاده في مونروفيا (ليبيريا) وبون (ألمانيا)، كما عمل في مركز عمليات وزارة الخارجية ومكتب شؤون الاتحاد الأوروبي في الوزارة. كذلك خدم كموظف مسؤول في مكتب الوزارة في العراق في منتصف التسعينيات، وشارك في مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية اقتصادية خلال خدمته في القنصلية الأميركية في القدس المحتلة في أواخر التسعينيات. كما قاد أجزاء من المباحثات مع التشيلي وسنغافورة حول التجارة الحرة.
يملك ديروشر، إطلالة "متوسطية" قوية، بعدما خدم في الجزائر، وفي مصر، وكذلك في القدس المحتلة
وشغل ديروشر منصب المستشار للشؤون السياسية والاقتصادية في السفارة الأميركية في القاهرة، قبل الانتقال إلى تبوئه منصب القنصل الأميركي العام في أوكلاند، نيوزيلاندا، بين عامي 2006 و2009. كذلك خدم في بغداد بين عامي 2009 و2010، كمستشار وزير الخارجية للتنسيق الاقتصادي، ومسؤول عن القضايا الثنائية المتعلقة بالسياسات الاقتصادية، ثم في وزارة الخارجية كمدير مكتب الشؤون العراقية، ولوقت قصير كنائب مساعد وزير الخارجية للشؤون المغربية. وفي عامي 2013 و2014، خدم ديروشر، كنائب رئيس بعثة في السفارة الأميركية في بغداد. وفي سبتمبر/أيلول 2014، سمّي نائب سكرتير مساعد للشؤون المصرية والمغربية في مكتب شؤون الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية، وظلّ في هذا المنصب حتى تسلمه مهامه كسفير للولايات المتحدة في الجزائر في عام 2017، خلفاً للسفيرة جون بولاشيك. وكان تأخر تعيين ديروشر في منصبه بالجزائر، بعدما ظلّت العديد من المناصب الدبلوماسية الرفيعة شاغرة لأكثر من 200 يوم بعد تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصبه في البيت الأبيض. وانتقدت مواقع جزائرية عدة، إثر الثورة التي أطاحت بحكم عبد العزيز بوتفليقة، ما وصفته بـ"محاولات تدخلات للسفير الأميركي (ديروشر) في الشؤون الداخلية"، وهو ختم مهمته هناك في شهر سبتمبر الماضي، بالتواصل مع القيادات العليا بالبلاد، وشخصيات سياسية، في ما عد اهتماماً أميركياً مستجداً وعالي الوتيرة بالشأن الجزائري. وأكد ديروشر رغبة بلاده في "توثيق العلاقات الاقتصادية" مع هذا البلد. ويملك ديروشر، بحسب المعلومات المتوافرة، خبرة وافرة في التجارة الدولية وشؤون الشرق الأوسط، ويتكلم الفرنسية والألمانية واللغة العربية الأساسية، بالإضافة إلى لغته الأم.