بعد أيام من الشد والجذب في نتائج فرز الأصوات بالانتخابات الرئاسية الأميركية، حسم المرشح الديمقراطي جو بايدن نتيجة الانتخابات لصالحه على حساب منافسه المرشح الجمهوري الرئيس دونالد ترامب وأصبح الرئيس 46 للولايات المتحدة الأميركية، بعد محاولتين فاشلتين للترشح باسم الحزب الديمقراطي في عامي 1988 و2008.
"جو النعسان"، بحسب منافسه الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، هو "ديمقراطي وفخور"، بحسب ما ردّد في كل مراحل الحملة الانتخابية الحالية. وهي الحملة التي كاد يخرج منها بهزيمة نكراء، لولا "الثلاثاء العظيم" في 3 مارس/ آذار الماضي، والذي سحق فيه منافسين كثراً في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، أبرزهم إليزابيث وارن وبيرني ساندرز، وبدرجة أقل مايكل بلومبيرغ. وفي أغسطس/ آب الماضي، وجد بايدن نفسه مرشحاً وحيداً لمواجهة "ترامبية" غيّرت وجه أميركا في القرن الـ21.
وللمرة الأولى منذ انتخابه سيناتوراً في ولاية ديلاوير الصغيرة، عام 1973، تحوّل نائب الرئيس السابق باراك أوباما خلال ولايتين امتدتا من 2009 إلى 2017، إلى نقطة إجماع لكل التيارات والشخصيات والأطراف الرافضة للمناخ الذي أرساه ترامب خلال 4 سنوات من عمر ولايته كانت مليئة بالأزمات على صعيد السياسة الداخلية والخارجية.
قد لا يتفق البعض حول عبارة "التاريخ يعيد نفسه"، لكن في حالة بايدن قد يكون الواقع كذلك. فالرجل الذي كان في الـ29 من عمره، وكاد ينضمّ للحزب الجمهوري في بداياته السياسية، تحوّل سريعاً إلى الحزب الديمقراطي. الأسباب كثيرة، مثل التورّط الأميركي الخاسر في حرب فيتنام (امتدت من عام 1955 إلى 1975 وتدخلت فيها الولايات المتحدة من 1961 قبل أن تسحب آخر جندي في 1973)، وتدهور الحزب الجمهوري واستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون بسبب فضيحة "ووترغيت" (التجسس على الحزب الديمقراطي) وثورة الستينيات الثقافية، وبدء تطوّر حركة الحقوق المدنية ونشوء قيم يسارية بين الشباب.
يريد بايدن توجيه رسالة واضحة، بقدرته على المزج بين التيار الأميركي المحافظ والتيار التقدمي
وبعد حوالي 50 عاماً على تلك الأيام، بات بايدن في صلب المواجهة مجدداً: الجمهوريون في تراجع بسبب ترامب. فيروس كورونا ضرب العصبين الاقتصادي والصحي للأميركيين. الانسحابات المتلاحقة للإدارة الأميركية من اتفاقات عسكرية وسياسية ومناخية، هزّت ثقة المواطنين بالرئيس. لا أحد، وفق منطق الديمقراطيين، قادر على وضع حدّ لترامب، سوى شخص قادر على البقاء وسط كل الاصطفافات، وهو بايدن. يعلم ابن سكرانتون ـ بنسلفانيا ذلك جيداً. تكفي متابعة تصريحاته في الشهر الأخير: "أنا ديمقراطي، لكنني سأكون رئيساً للديمقراطيين والجمهوريين".
وهو ما دفع بايدن أيضاً لرفع شعارات التغيير، واصفاً نفسه بـ"الليبرالي إزاء الحريات والحقوق المدنية والرعاية الصحية ومخاوف كبار السن". لكنه أيقن أنّ اعتناق هذه الخيارات في زمن انتقالي قد يكون صعباً على المحافظين التقليديين لدى الديمقراطيين. وهو ما دفعه إلى التأكيد أنه "محافظ حيال رفض الإجهاض" و"يؤيد التجنيد العسكري".
يريد بايدن توجيه رسالة واضحة، بقدرته على المزج بين التيار الأميركي المحافظ والتيار التقدمي، فلا يكون ترامب ولا يكون ساندرز، بما يشي بنيّته توحيد أميركا بعد سنوات أربع من الانقسامات الداخلية. ورمزية بايدن تكمن أيضاً في مسألة تمثيله ديلاوير، الولاية الأولى التي صدّقت على الدستور الأميركي في 7 ديسمبر/ كانون الأول 1787، ولعله يكون الشخص الأول الذي يتمكن من وضع حدٍ لترامب.
لكن لا يمكن إغفال أنّ لبايدن جانبين في تاريخه السياسي الطويل، كرّسا تناقضه أو محاولته البقاء في الواجهة، وبالتالي ترسيخ تردّده في ملفات عدة، وحتى تعديل مواقفه مرات كثيرة. فقد ساهم مثلاً في تمرير قانون "مكافحة الجريمة" عام 1984 في الكونغرس، لكنه اعتبر في عام 2019 أنه "ارتكب خطأ كبيراً بالتصويت لصالح القانون"، بعد أن ازدحمت المحاكم الأميركية بأحكام مشدّدة مستمدّة من روحية هذا القانون. كذلك سبق أن رفض بايدن انضمام المثليين للجيش عام 1993 وصوّت لصالح منح الولايات حقّ رفض الزواج من الجنس نفسه. لكنه عاد وأيّد زواج المثليين في عام 2012. واجه بايدن وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز في الثمانينيات، واتهمه بتأييد سياسة "أبارتهايد" (التمييز العنصري) في جنوب أفريقيا، لكن بايدن نفسه رفض حافلات الدمج العرقي في السبعينيات. وهذه النقطة كانت مدار انتقادات كامالا هاريس له خلال الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين، قبل أن تتحوّل إلى مرشحته لنيابة الرئاسة. دافع بايدن بقوة عن حرب أفغانستان (2001)، وقال حرفياً: "يجب أن نفعلها (أي غزو أفغانستان)، مهما تطلّب الأمر".
أيّد بايدن حرب العراق 2003، لكنه دعا لسحب القوات الأميركية عام 2007، مؤيداً تقسيم العراق لثلاثة أقاليم: سني، شيعي، كردي. وفي عام 2014، بعد تمدد تنظيم "داعش"، دعا بايدن إلى ملاحقته "حتى أبواب الجحيم". عارض حرب الخليج عام 1991، وأيد تمدّد الحلف الأطلسي في أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، ثم اندلاع الحروب اليوغوسلافية (1991 ـ 2001). وأثناء عمله في لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، اهتم بايدن بتداعيات حروب البلقان. اعتبر الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش بأنه "مجرم حرب"، ودعم تسليح البوسنيين. لاحقاً، أيّد تحرير كوسوفو من قبضة الصرب، وطرح قانوناً مشتركاً مع صديقه، السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين، يدعو إدارة بيل كلينتون لقصف القوات الصربية وإخراجها من كوسوفو عام 1999. وهو ما حصل. وكافأت الدولة الوليدة بايدن، بإطلاق اسم ابنه جوزيف بو بايدن، الذي توفي بسرطان الدماغ عام 2015، على إحدى طرقاتها السريعة في عام 2016. وبطبيعة الحال، أيّد بايدن التدخل الأميركي في ليبيا، مع بدء ثورة 2011، وفقاً لقرار إدارة باراك أوباما. وانتقد أيضاً قرار ترامب بالانسحاب من سورية، معتبراً أنّ "ذلك يمنح الضوء الأخضر للأتراك لشنّ عملية ضد الأكراد". وسبق لبايدن أن تطرّق للملف السوري في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، بالقول إن "تركيا والسعودية والإمارات تموّل كل من يحارب بشار الأسد".
مهمة بايدن في تخليص أميركا من إرث أربع سنوات من عمر ولاية ترامب لن تكون سهلة
أمّا في الملف الإسرائيلي، فقد فاجأ بايدن، مع أكثر من 50 سيناتوراً من الحزب الديمقراطي، الجميع في عام 2015، برفضه سماع خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الكونغرس. وعلّل ذلك بعدم إعلام إدارة أوباما مسبقاً بالخطاب. لكنه في مارس 2016، تحدث أمام مؤتمر "آيباك" (لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية)، مشدّداً على "التزامنا ببقاء ونجاح وأمن دولة إسرائيل اليهودية". كما أن بايدن نفسه، سبق له أن ردّد في عام 2007 "أنا صهيوني. ليس بالضرورة أن أكون يهودياً لأكون صهيونياً".
ومع أنه ساهم في تمرير قوانين لمكافحة العنف ضدّ المرأة إبان مشاركته في اللجنة القضائية للكونغرس بين عامي 1987 و1995، إلا أنّ اتهامات التحرّش لاحقت بايدن، تحديداً في السنتين الأخيرتين. مع العلم أنه في عام 1991، وأثناء جلسة الاستماع لترشيح كلارنس توماس للمحكمة العليا الأميركية، اتهمت الأستاذة الجامعية في جامعة برانديز حالياً، أنيتا هيل، توماس بالتحرّش جنسياً بها. لكن بايدن رفض مناقشة الأمر في جلسات الاستماع، كي لا تؤثر على ترشيح توماس. إلا أنه عاد واعتذر من هيل العام الماضي، التي رفضت اعتذاره.
ولم تكن هذه الفضيحة الوحيدة التي طاولت بايدن، الآتي من الطبقة المتوسطة، بل اتُهم بشبك علاقات مع أوكرانيا، وتوظيف ابنه هانتر في شركة "بوريسما" النفطية، مقابل 50 ألف دولار شهرياً. وهي فضيحة كشفت تورّط جمهوريين وديمقراطيين في القضية نفسها، مثل بول بيلوسي جونيور، نجل رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وأيضاً ابن ميت رومني المرشح الرئاسي السابق عن الحزب الجمهوري، وكريس هاينز نجل زوجة جون كيري وزير الخارجية في إدارة أوباما. وهي قضية تحقق فيها المحاكم منذ ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ويستغلها ترامب لضرب خصمه في كل فرصة أتيحت له.
لن تكون مهمة بايدن سهلة، لكنه مع ذلك كان واضحاً في رسم مجريات ولايته الأولى، بما في ذلك على الصعيد الخارجي. معلنا أنه سيسعى لإعادة العمل باتفاق باريس للمناخ، وتكريس أساليب أكثر نجاحاً في التعامل مع الملف الإيراني، ما يفتح المجال لإنقاذ الاتفاق النووي الموقع في عهد أوباما. أما خبرته في ملف العراق، فقد تدفعه إلى تغيير مسار الانسحاب الأميركي منه أو تعديله. وعلى الرغم من تأكيده أنه سيحافظ على مسافة مع الصين وروسيا. وسيعمل على ترسيخ الديمقراطيات في أميركا والعالم وفقاً له.
تردد بايدن في ملفات عدة، وعدم قدرته على الحسم، وسهولة تغيير مواقفه، كلها أمور لا تصبّ في صالحه
مرّ بايدن بكثير خلال مسيرته، فقد سُرّح من الجيش بسبب إصابته بالربو. يعشق كرة القدم الأميركية والبيسبول. معروف عنه تلعثمه في الكلام، وهو ما ظهر في خطابات عدة له، حتى إنه نسي اسم ترامب أخيراً، ما وظفه الأخير لصالحه مشككاً في قدرات خصمه. ومع أنّ بايدن بالغ في تقدير درجاته الدراسية والجامعية، إلا أنه لم يكن فاشلاً. تعرّض لأحداث عصيبة مثل وفاة زوجته الأولى نيليا هانتر، وابنته ناومي كريستينا (كانت تبلغ من العمر عاماً واحداً) في حادث سير عام 1972، جُرح فيه ولداه بو (الذي توفي في عام 2015) وهانتر. وكاد يتخلى عن طموحه السياسي بسبب الحادث، لولا رفض الحزب الديمقراطي ذلك. كان بايدن يقضي 3 ساعات يومياً في القطار بين ديلاوير وواشنطن، فقط للبقاء على مقربة من ولديه. في عام 1977، اقترن بزوجته الثانية جيل ترايسي جايكوبز، وله منها آشلي بلايزر، التي أصبحت عاملة اجتماعية.
وصفته مجلة "تايم" عام 1974 بأنه "أحد 200 وجه للمستقبل". ومع أن علاقته مع أوباما شابها التوتر في بداياتها، إلا أنها تحولت لعلاقة صداقة، دفعت الرئيس السابق إلى القيام بجولات انتخابية تأييداً لبايدن في ولايات متأرجحة. أوباما، عاشق كرة السلة، قال يوماً عن بايدن، إنه "اللاعب الذي يفعل كل شيء ولا تذكره الإحصائيات". كذلك وصف الكاتب هاورد فينمان المرشح الديمقراطي بالقول: "بايدن ليس أكاديمياً ولا مفكراً، بل رجل شارع. وهو متحدر من سلالة طويلة من العمال في سكرانتون ـ بنسلفانيا. يعلم كيف يبيع". والرجل الذي فشل في تجاوز الانتخابات التمهيدية لرئاسيات 1988 بسبب "سرقته" خطاباً للسياسي البريطاني، نيل كينوك، وفشل في إثبات حضوره في تمهيديات عام 2008 لضعف التأييد الحزبي له، والذي كان سادس أصغر سيناتور في التاريخ، أصبح الليلة أكبر رئيس سنّاً في الولايات المتحدة.