فيما كان مجلس الشيوخ الفرنسي يبحث، أول من أمس الثلاثاء، مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد الفرنسي الذي يطرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووصل مساءً إلى المادة السابعة التي تنص على رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، كان أكثر من 3 ملايين متظاهر فرنسي ينتقلون في شوارع المدن الفرنسية كافة، إلى المرحلة الثانية من حراكهم المتصاعد ضد المشروع، وضد المادة، التي لا تزال محل كباش بين السلطة والنقابات، منذ أشهر.
وبينما تبقى الحكومة الفرنسية "جامدة" حيال الحراك، يبدو أن فرنسا تتحضر لموجة من التصعيد النقابي، لا يزال مدروساً، لعدم تأليب الرأي العام الموافق بأغلبيته على مطالب النقابات بعدم رفع سنّ التقاعد.
شارك 3.5 ملايين متظاهر الثلاثاء بالحراك، بحسب النقابات
وتريد الحركة النقابية، التي أشادت، أول من أمس، بتعبئة تاريخية، مع تسجيلها 3.5 ملايين متظاهر، إزعاج السلطة، وتتحضر لشلّ متأنٍ للقطاعات الحيوية، وسلسلة إغلاقات خلال الأسبوعين المقبلين، مع تحشيد مستمر في الشارع، موعده المقبل بعد يومين (السبت).
وفيما لم ترف بعد جفون حكومة إليزابيث بورن، من الصعب التنبؤ بما إذا كان حراك النقابات سيتمكن من مضاهاة حراك عام 1995، عندما أجبر رئيس الحكومة اليميني آنذاك آلان جوبيه على سحب مشروع لإصلاح نظام المعاشات، تحت وطأة الإضرابات التي استمرت 3 أسابيع.
ويرى الفرنسيون أن مشروع ماكرون سيمرّ، رغم المعارضة الشعبية والنقابية الواسعة له، في استكمال لمسار بدأه منذ دخل الإليزيه عام 2017، وفرملته قليلاً حركة "السترات الصفراء"، لكنه يعود إلى تنفيذه، مطلقاً رصاصات عدة على "دولة الرعاية الاجتماعية" التي يفتخرون بها.
تعبئة تاريخية ضد قانون ماكرون
وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية، فإن 1.28 مليون فرنسي شاركوا في احتجاجات أول من أمس، في اليوم السادس من التعبئة النقابية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، احتجاجاً على إصلاح نظام التقاعد في فرنسا. لكن أرقام الاتحاد العمالي العام (سي جي تي)، تحدثت عن "تعبئة تاريخية" شارك فيها 3.5 ملايين متظاهر، أي أكثر من العدد القياسي المسجل في 31 يناير الماضي، والذي لم يتجاوز 3 ملايين.
وسجّل الثلاثاء تأخر قطارات وإغلاق مدارس وإضرابات قابلة للتمديد وعدم جمع النفايات وتوقف شاحنات الوقود عند مداخل المصافي، قبل تمديد الإضرابات المحتمل في الأيام المقبلة، إذ تحاول النقابات مجتمعة وقف دورة الحياة في فرنسا، من دون تأجيج غضب المواطنين. واعتبر الأمين العام لنقابة "الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل" (سي أف دي تي)، لوران بيرجيه، أن الحكومة "لا يمكنها أن تبقى صمّاء" أمام هذه التعبئة.
في المقابل، كان مجلس الشيوخ الفرنسي، الذي وصل المتظاهرون إلى أمام مقره في قصر لوكسمبورغ في الدائرة السادسة في باريس، يستعد، الثلاثاء، لاعتماد النص، بانتظار جلسة مشتركة مع مجلس النواب متوقعة الأسبوع المقبل. وتعول الحكومة الفرنسية على إقرار مجلس الشيوخ للمشروع بحلول الأحد المقبل، وعلى "تصويت في 16 مارس/ آذار المقبل في مجلسي البرلمان الفرنسي. ورأى مصدر حكومي في حديث لوكالة "فرانس برس"، أنه "في حال أقرّ الإصلاح، من غير المرجح أن تبقى التعبئة عند هذا المستوى"، معولاً على انسحاب أكثر النقابات اعتدالاً.
ولم تنجح السلطة، على ما يبدو حتى الآن، في فكّ ترابط النقابات، ولا بإقناع نسبة كبيرة من الفرنسيين بالمشروع، لا سيما النساء، التي ترى أن المشروع مجحف لها، مع معاشات تقاعد أقل بنسبة 40 في المائة إجمالاً من الرجال. كما أن الحراك النقابي لم يسجّل أعمال شغب كتلك التي أحدثها حراك "السترات الصفراء"، الذي بدأ في 2018 للمطالبة بتخفيض الضرائب واحتجاجاً على ارتفاع أسعار المحروقات، وتحول إلى المطالبة بإصلاحات اقتصادية أوسع، ثم تراجع خصوصاً تحت وطأة انتشار فيروس كورونا.
ويحسب لحراك "السترات الصفراء" أنه فرمل اندفاعة ماكرون، في ولايته الأولى، لتمرير مشروع إصلاح نظام التقاعد، لكنه ضمّ مجموعات يسارية متطرفة وأطيافاً أخرى لا تزال تنادي بتعديل شامل للنظام الاقتصادي، وهي شاركت بتواضع إلى جانب النقابيين في الحراك الحاصل الآن.
تحدي النقابات إزعاج الرئيس
وبينما التحدي الآن هو أن تتمكن النقابات من الضغط على البرلمان بمجلسيه، وتهدد بشلّ العمل في قطاعات صناعية عدة، بما فيها سكك الحديد ومصافي النفط، يبقى التساؤل مبدئياً هو عما إذا كان بإمكانها ثني النواب والشيوخ عن تمرير المشروع، الذي تلوح الحكومة بتمريره رغم ذلك بامتيازاتها الاستثنائية، وبواسطة مرسوم.
وكان ماكرون قد أدخل حيّز التنفيذ مشاريع عدة، تعتبر قطاعات واسعة من الفرنسيين، خصوصاً من اليسار، أنها تقضي على "الدولة الاجتماعية" التي يعتبرونها حصيلة عقود من النضال، كمثل مشروعه لإصلاح نظام الإعانات الحكومية للعاطلين من العمل، الذي وضع هؤلاء تحت الضغط، وتقييده التعويضات (إصلاح وضرر) للمصروفين من أعمالهم بشكل تعسفي.
بل يرى اليسار الفرنسي أن مشروع ماكرون هو مشروع الشركات، حيث بات النقاش مفتوحاً في فرنسا حول مستقبل المدرسة الرسمية والمستشفيات الحكومية، بينما يقوم بإلغاء نظام التقاعد عبر إعادة التوزيع، واستبداله بنظام تقاعد قائم على الرسملة.
ويلوّح النقابيون اليوم بإضرابات قابلة للتجديد، وهو ما بدأ الثلاثاء، منذراً بأسبوع أسود، بحسب تعبير صحيفة "ليبراسيون". لكن السلطة ترى أن الحراك حتى اليوم لا يزال محصوراً، ولا يشبه بأي شكل حراكات تاريخية سابقة شهدتها فرنسا، وتمكنت من هز العصا كثيراً للحكومة. لكن التصعيد، بحسب اليسار، يبقى كافياً لإقناع الحكومة بضرورة الحوار.
واتهم وزير العمل الفرنسي أوليفييه دوسوبت اليسار الراديكالي، بزعامة رئيس حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلانشون، في البرلمان، بـ"دفع اقتصاد فرنسا لأن يركع". وفي لغة مفعمة بالثقة، أكد مصدر حكومي لـ"ليبراسيون"، أنه لدى الحكومة "كل الأدوات لتمرير المشروع"، بانتظار تنفيس الشارع بعد جلسة التصويت المشتركة المتوقعة مبدئياً في 16 مارس، وتراجع رفض الفرنسيين للمشروع خلال الأيام المقبلة، مع مواصلة مجلس الشيوخ دراسته، وهو ما يجري بوتيرة متسارعة، بحسب الإعلام الفرنسي، للمحافظة على المواعيد القانونية.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)