تصادف اليوم الجمعة ذكرى مرور 50 عاماً على بدء حرب أكتوبر/ تشرين الأول التي شنتها مصر وسورية، بدعم عربي، ضد إسرائيل بهدف استرداد شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان المحتلة منذ العام 1967، والتي أسفرت عن استعادة القاهرة السيادة الكاملة على قناة السويس وجميع أراضي سيناء على نحو تدريجي، فيما حررت سورية جزءاً من مرتفعات الجولان، بما فيها مدينة القنيطرة.
وفي الوقت الذي تحل فيه ذكرى حرب أكتوبر، أو "حرب يوم كيبور" وفق التسمية الإسرائيلية، في أجواء تُخيم فيها المواجهة الروسية الغربية غير المباشرة في أوكرانيا على الأجندة السياسية العالمية، كان الشرق الأوسط قبل نصف قرن هو الآخر ساحة للتنافس السوفييتي الأميركي، وسط تساؤلات تبقى مطروحة حتى اليوم حول دور اللاعبين الخارجيين في حرب أكتوبر.
ومن اللافت أن الدولتين العظميين في ذلك الوقت تدخلتا في الحرب بشكل غير مباشر، حيث زود الاتحاد السوفييتي سورية ومصر بالسلاح، بينما زودت الولايات المتحدة إسرائيل بالعتاد العسكري.
أندريه باكلانوف: حرب أكتوبر شكلت نقطة انطلاق لعملية السلام في الشرق الأوسط
وتوسط وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر بين الجانبين في المرحلة الأخيرة من الحرب، التي انتهت بالتوقيع على اتفاقية هدنة بين مصر وإسرائيل في يناير/ كانون الثاني 1974، وأخرى بين سورية وإسرائيل في مايو/ أيار من العام نفسه. ولا تزال الاتفاقية سارية المفعول بين سورية وإسرائيل، فيما استبدلتها مصر وإسرائيل باتفاقية السلام في 1979.
تحجيم الدور السوفييتي في مصر
حقائق جيوسياسية عدة تثير تساؤلات حول حرب أكتوبر ومجراها وتداعياتها، ومنها انتقال مصر إلى دائرة النفوذ الغربي والأميركي، وإقصاء جميع الخبراء العسكريين السوفييت من مصر قبل الحرب بفترة قصيرة، وعدم إخطار موسكو رسمياً بالحرب، إلا بعد بدئها دون أن يمنع ذلك تقديمها دعماً عسكرياً للقوات المصرية.
وبصرف النظر عن تضارب الروايات التاريخية والتقديرات السياسية لحرب أكتوبر، يرى أندريه باكلانوف، نائب رئيس اتحاد الدبلوماسيين الروس، الأستاذ في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، أن حرب أكتوبر شكلت نقطة انطلاق لعملية السلام في الشرق الأوسط. ويعتبر أن الرئيس المصري آنذاك أنور السادات، حقق من خلالها نجاحاً عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً لبلاده أخرجها من حالة الحرب.
ويقول باكلانوف، الذي عمل بالسفارة السوفييتية بالقاهرة بين العامين 1967 و1972 وعاصر حرب الاستنزاف، في حديث، لـ"العربي الجديد"، إن "حرب أكتوبر من الحروب التي لا يمكن تقييم نتائجها إلا بعد مرور عقود، واليوم يمكن الجزم أنها شكلت نقطة الانطلاق لعملية السلام في الشرق الأوسط في كامب ديفيد أولاً، ثم في مدريد. صحيح أن قبول السادات بالسلام مع إسرائيل أثار ردود فعل عربية سلبية، ولكن الزمن أثبت أنه كان يتمتع برؤية استراتيجية وحقق لبلاده نجاحاً عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً على المدى البعيد".
وحول رؤيته لدوافع السادات لشن حرب فالقبول باتفاقية السلام، يضيف: "بتحقيقه نجاحاً عسكرياً ونصراً عسكرياً نسبياً لمصر، تمكن السادات من بدء عملية السلام عبر مفاوضات منفصلة من موقع القوة، فأخرج بذلك مصر من حالة الحرب، مع الاسترداد التدريجي لكامل أراضي سيناء".
وفي ما يتعلق بالدور السوفييتي في حرب أكتوبر، يتابع: "صحيح أن السادات أقصى الخبراء العسكريين الروس قبل الحرب بعام، ولكن الهجوم تم التخطيط له بمشاركتهم على مدى بضع سنوات. ورغم تدهور العلاقات مع موسكو وقت بدء الحرب، إلا أنها تحسنت مرة أخرى بعد بدء إسرائيل هجومها المضاد، ونظمت إمدادات الأسلحة السوفييتية إلى مصر".
ومن اللافت أن رئيس الوزراء السوفييتي آنذاك أليكسي كوسيغين زار القاهرة في منتصف أكتوبر 1973 لمناقشة قضايا تقديم الدعم اللازم لمصر، ولكن العلاقات تراجعت مرة أخرى بعد الحرب، ولم تتحسن سوى بعد تولي الرئيس المصري الراحل حسني مبارك مقاليد الحكم.
انتصار مصري - أميركي؟
يعتبر المستشرق والمترجم العسكري السابق أندريه مورتازين أن القاهرة وواشنطن هما الطرفان الرابحان في حرب أكتوبر، كونها مهدت لاسترداد السيادة المصرية على كامل أراضي سيناء، بينما تمكنت الولايات المتحدة من وضع مصر على خريطة نفوذها السياسي مع إغفال المطالب السوفييتية بإقامة سلام يستند إلى انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي العربية التي احتلتها في 1967.
أندريه مورتازين: القاهرة وواشنطن هما الطرفان الرابحان في حرب أكتوبر
ويقول مورتازين، الذي عمل في عدد من الدول العربية، بما فيها سورية ومصر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "من المؤكد أن موسكو كانت على علم بتخطيط القاهرة ودمشق لشن حرب، ولكنها، شأنها في ذلك شأن واشنطن، لم تكن تعلم بموعدها على وجه الدقة، وحتى السفير السوفييتي بالقاهرة آنذاك فلاديمير فينوغرادوف لم يعلم ببدء الهجوم سوى بالأثر الرجعي، ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، حين اتصل به السادات شخصياً لإطلاعه على الأمر".
وحول رؤيته لأسباب توقف الجيش المصري عن تقدمه في سيناء، يقول: "كغيري من خبراء روس، أعتقد أن السادات أجرى قبل الحرب اتصالات وثيقة مع الولايات المتحدة أسفرت عن اتفاق على الكف عن التقدم عند نقطة معينة في الحرب المرتقبة حينها، وعدم السعي للوصول إلى تل أبيب، والاكتفاء بالظهور أن مصر حققت انتصاراً كبيراً في الحرب، عبر إبرام السلام مقابل ضمانات أميركية بالتحرير التدريجي لسيناء، وهو ما حدث فعلياً بعد كامب ديفيد".
ويقلل مورتازين من أهمية ترويج مصر لرواية تحقيقها نصراً عسكرياً في حرب أكتوبر. ويقول: "صحيح أن مصر حققت نصراً، ولكن فقط في المرحلة الأولى من الحرب، حين تمكنت قواتها من عبور قناة السويس، حيث لا يمكن تجاهل ما تلا ذلك من اختراق إسرائيلي، وتوقف القوات الإسرائيلية على مسافة 100 كيلومتر فقط من القاهرة، حين بدأت الجهود الأممية لوقف الحرب".
وفي ما يتعلق بتداعيات حرب أكتوبر على تقاسم النفوذ السوفييتي والأميركي في الشرق الأوسط، يوضح أنه "أظهرت أحداث السنوات التي تلت الحرب، أن مصر انتقلت بشكل نهائي من دائرة النفوذ السوفييتي إلى مجال النفوذ الأميركي والسعودي، لا سيما بعد بدء مصر بتلقي المعونات العسكرية الأميركية. صحيح أن واشنطن أوفت بالتزاماتها في مسألة سيناء، ولكن لم تتم مراعاة المصالح السورية في مسألة استرداد مرتفعات الجولان، فيما أُهملت القضية الفلسطينية، وهو ما تسبب في عزلة مصر عربياً لعقد كامل".
حرب هزت الشرق الأوسط
ويعتبر الباحثان بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فيتالي نعومكين وفاسيلي كوزنيتسوف، أن حرب أكتوبر، التي هزت الشرق الأوسط، لم تكن عادية لعدة أسباب، في مقدمتها أداء مصر الدور الرئيسي في التحالف العربي ونجاحه.
وفي مقال بعنوان "حرب أكتوبر 1973 والاتحاد السوفييتي"، نشر بمجلة "روسيا في السياسة العالمية"، بمناسبة ذكراها، يرى نعومكين وكوزنيتسوف أن العرب حققوا لأول مرة نجاحاً، ولو كان مؤقتاً ومحدوداً، وفق تقديرهما، أثر تأثيراً ملحوظاً على الوضع في منطقة النزاع في الشرق الأوسط.
ويلفت المستشرقان الروسيان إلى أنه رغم التخطيط للحرب من دون مشاركة جادة للاعبين الخارجيين، إلا أن انتهاءها على وجه السرعة ترك لدى المراقبين انطباعاً بأنها كانت "مسرحية تم أداؤها بشكل جيد".
يذكر أن حرب أكتوبر بدأت بهجوم مفاجئ للجيشين المصري والسوري على القوات الإسرائيلية التي كانت مرابطة في سيناء والجولان، محققين تقدماً ملموساً في الأيام الأولى من القتال، حيث عبرت وحدات من الجيش المصري قناة السويس وتوغلت 20 كيلومتراً شرق القناة، فيما تمكنت القوات السورية من الدخول في عمق الجولان.
أما في نهاية الحرب، فقد تمكن الجيش الإسرائيلي من فتح ثغرة على الجبهة المصرية وعبر للضفة الغربية لقناة السويس وفرض حصاراً على الجيش الثالث الميداني، وعلى الجبهة السورية تمكن من إبعاد السوريين عن الجولان.