تدور أغلب المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان و"قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) في المدن وأعنفها في العاصمة الخرطوم، ما يزيد المخاطر على المدنيين والمنشآت المدنية والخدمية، بعدما دخلت الاشتباكات أسبوعها الثاني من دون أن يستطيع أي طرف حسم الصراع لمصلحته.
عمر عثمان (50 عاماً)، أحد سكان الخرطوم 2، نشأ وترعرع في هذا الحي الذي يُعد الأعرق من بين أحياء العاصمة السودانية، ولا يبعد سوى نحو أربعة كيلومترات من مركزها، ومثلها تقريباً من المطار، ويحظى الحي بكامل الخدمات التعليمية والعلاجية والأمنية. عثمان، ومنذ 15 أبريل/ نيسان الحالي، تاريخ اندلاع الاشتباكات العسكرية بين الجيش و"الدعم السريع"، وجد نفسه وأسرته تحت حصار المعارك العنيفة ودوي المدافع وزخات الرصاص وتحليق الطائرات الحربية، وانقطاع التيار الكهربائي والإمداد المائي لنحو 5 أيام.
ويقول عثمان لـ"العربي الجديد" إنه عاش تحت وطأة ضغط نفسي كبير بسبب المعارك وما صاحبها من انفلات أمني لغياب جهة إنفاذ القانون المعتادة وهي الشرطة التي بالطبع هي مؤسسة مدنية لن يكون بيدها حلول أمنية في مثل ظروف حربية كهذه، مضيفاً "لا يجد المرء إلا أن يسلم أمره إلى الله".
ويضيف عثمان أنه قرر في اليوم الخامس من المواجهات الخروج وأسرته من المنزل والتوجه إلى مكان أكثر أماناً، وذلك بعد أن اقتحم مسلحون المبنى الذي يسكن فيه، متابعاً "رغم المخاطرة ونقاط التفتيش ودوي المدافع كُتب لنا عمر جديد، وها نحن خرجنا ولا نعرف متى نعود لمنزلنا".
وواجه الآلاف من سكان الخرطوم الموقف ذاته، منهم من نجا ومنهم من قُتل بسبب سقوط القذائف على منزله، ولم تسلم كذلك حتى المدن الأخرى التي دارت فيها المعارك وعددها أكثر من 7 آخرها مدينة الأبيض، مركز ولاية شمال كردفان قبل 4 أيام.
نداءات للمتحاربين وأخرى للاستغاثة
ويقول الزبير عبد الله، من مدينة الأبيض، لـ"العربي الجديد"، إن المواجهات بين الجيش و"الدعم السريع" كان يمكن إبعادها عن المدينة بسهولة، لكنها دارت وسط الأحياء فسقط العديد من القتلى من سكانها، خصوصاً في حي الوحدة، كما جرت في سوق المدينة وتضرر عدد من المنشآت. ويطالب عبد الله الطرفين بوقف الحرب فوراً لأنه لا رابح فيها.
وفي مدينة الفاشر غربي السودان، تشير تقارير صحافية إلى خسائر بشرية كبيرة، منها مقتل 52 طفلاً أثناء الاشتباكات في المدينة.
وتقدر اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان عدد القتلى من المدنيين بأكثر من 200، في حين يرى البعض أن العدد أكبر بكثير مع الواقع القائم، فأغلب الضحايا لم يتم حصرهم لأن ذويهم لم يستطيعوا نقلهم إلى المستشفيات لخطورة الطرق إليها. ولم يتمكن البعض حتى من دفن قتلاهم مثل ما حدث لعشرات الطلاب الذين علقوا بجامعة الخرطوم لأيام فسقط أحدهم قتيلاً وفشلوا في نقل جثمانه إلى مكان أسرته، واضطروا لدفنه داخل أسوار الجامعة بموافقة الأسرة وإدارة الجامعة.
كذلك خرجت عشرات المستشفيات عن الخدمة لأسباب مختلفة، منها نفاد الأدوات الطبية وعدم قدرة الكوادر الطبية على الوصول إليها، وتعرّض بعضها للقصف اليومي. وما أوجع كثيرين هو ما يتناقله رواد مواقع التواصل الاجتماعي من نداءات استغاثة لمرضى الفشل الكلوي بحثاً عن مستشفى يجدون فيها فرصة لجلسات غسل الكلى.
ذلك الوضع دفع المدنيين إلى توجيه نداءات للمتحاربين عبر بيانات مثل ما فعل سكان في مدينة الخرطوم بحري (محاذية للعاصمة) ذكروا فيه أن مآلات حرب المدن الحالية انعكست آثارها على الناس الذين فقدوا المئات من المدنيين "وسنفقد البقية بالعطش". وأشاروا إلى انهيار البنية التحتية وخروج المستشفيات عن الخدمة وانقطاع الوقود وتدهور الوضع الأمني، منادين بوقف فوري لإطلاق النار وتوفير الحماية لمهندسي الكهرباء والمياه لإصلاح الأعطال.
واليوم الأحد، وجّه قائد ثاني "قوات الدعم السريع"، الفريق عبد الرحيم دقلو (شقيق حميدتي) جنوده المنتشرين في العاصمة وولايات السودان المختلفة بالسماح للموظفين المدنيين العاملين في مجال إمداد الكهرباء والمياه والخدمات الصحية بمباشرة أعمالهم وتوفير الخدمة للمواطنين، كما وجّه بتسهيل عمل جميع المنظمات الإنسانية من أجل تقديم العون والمساعدة اللازمة للمتضررين. وأبدى دقلو حسب بيان صدر اليوم، أسفه عن المعاناة الإنسانية التي اتهم قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بالتسبب فيها.
من جهته، أصدر الجيش السوداني بيانات مماثلة طمأن فيها المواطنين والمهندسين والفنيين والعاملين بهيئة مياه ولاية الخرطوم وشركة الكهرباء بأنه سيبذل كل جهد للمساعدة في عدم إعاقة مباشرتهم أعمال إصلاح الأعطال وإعادة خدمات المياه والكهرباء التي تأثرت جراء الأحداث الجارية.
خبير: لا يمكن أن تبدأ حروباً في المدن
ويقول الخبير العسكري اللواء المتقاعد أمين مجذوب، في حديث مع "العربي الجديد"، إن حرب المدن تُعتبر من الحروب الخاصة غير التقليدية أو المحدودة التي تدار في المواقع الدفاعية والهجومية في المناطق المفتوحة أو الغابات أو الجبلية، مشيراً إلى أن حرب المدن لديها تكتيكاتها واستراتيجيات المختلفة، ودائماً تكون حروباً نهائية أو حروباً تلي الحروب التقليدية. ويشرح أنه "لا يمكن أن تبدأ حروباً في المدن لأنك لو فعلت ذلك سيكون لديك جملة مشكلات، واحدة منها محدودية المساحة للرمي، وعدم وجود عمق لتهاجم به لأكثر من مائة متر، بالتالي يتعذر استخدام سلاح المدفعية والصواريخ والدبابات والطائرات".
ويشير مجذوب إلى أن المشكلة الأخرى هي عدم توفر عمق دفاعي للدفاع عن موقع معين في المدينة وأي مبنى يسهل حصاره والهجوم عليه ولو بأسلحة متوسطة، مشيراً إلى أن المهاجم في حرب ليس له خطوط هجوم بديلة، وبإمكان المدافع تأمين الخط الواحد بخطوط نيران ووضع مدفعيات مباشرة أو "ار بي جي".
ويوضح أن أكبر الصعوبات في حرب المدن هو وجود المدنيين واحتمالات وقوع خسائر وسطهم فيؤخر ذلك حسم المعركة مراعاة للحالة الإنسانية، كما تؤدي حرب المدن إلى انقطاع الخدمات، إذ يعتمد المتقاتلون على خدمات المدينة من كهرباء وماء ووسائل اتصال، وهي خدمات معرضة للتوقف في أي لحظة لأن العاملين يتعرضون للتهديد وربما تغلق تلك المنشآت نهائياً، كما تتأثر في حرب المدن المستشفيات لتوقف إمداداتها العلاجية.
ويشير مجذوب إلى أن أكبر إفرازات حرب المدن هو النزوح بتداعياته الإنسانية والاجتماعية نظراً لعدم توفر الخدمات، كما أن أكثر مهدد للنازحين هو تعرضهم للقصف أثناء نزوحهم في ظل عدم وجود ممرات آمنة.
وعن المواجهات الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع في الخرطوم، يرى مجذوب أن السيطرة على العاصمة تبدو لصالح الجيش بكثير من الشواهد والأدلة، فهو يعرف المدينة أكثر ولديه خطوط إمداد مستمرة ويجهز كل احتياجاته اللوجستية، بينما تقاتل الدعم السريع بعد أن جاء معظمها من خارج المدينة وذلك معطى ربما يرجح كفة القوات المسلحة.